د.محمد سيد أحمد
تُعدّ الدروس الخصوصية واحدة من المشكلات المزمنة للتعليم في المجتمع المصري، فنحن الذين شاهدنا التحولات الدراماتيكية على الساحة المجتمعية المصرية في سنوات عمرنا الأولى ما بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وتخلي الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية تجاه مواطنيها بشكل تدريجي، مع انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي والاتجاه نحو آليات السوق الرأسمالي، والذي طال كلّ شيء على أرض مصر ومن بينها التعليم.
فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وبعد ثورة يوليو/ تموز 1952 انتهجت الدولة سياسات داعمة للغالبية العظمى من المواطنين خاصة الفقراء والكادحين الذين مكنتهم الدولة من التعليم المجاني في جميع مراحله، وكان التعليم الحكومي هو الأساس والتعليم الخاص هو الاستثناء. ويمكن تلخيص وضعية التعليم في مصر في تلك المرحلة بمقولة العالم المصري الفذ أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل “لقد كنت الأول على تلاميذ صفي في نظام تعليم استثنائي، حيث عكست دراستي في الستينيات تقاليد تلك الفترة التاريخية، وكانت رائعة، ولكن في السنوات الخمسين الماضية تدهور التعليم والبحث العلمي في مصر، بسبب الإهمال والتقصير من قبل الجهات المختصة، واليوم أصبحت مصر خارج قائمة أفضل 100 دولة في مجال التعليم، وفقا لإحصائيات الأمم المتحدة”.
وإذا كان هذا هو حال التعليم في ستينيات القرن الماضي، فإنّ الوضع ما بعد حرب أكتوبر 1973 قد تبدّل إلى حدّ كبير، فخلال سنوات السبعينيات كنا ندرس في المرحلة الابتدائية وكانت أحوال التعليم الحكومي لا تزال متماسكة إلى حدّ كبير وكانت ظاهرة الدروس الخصوصية تكاد تكون منعدمة وكانت المدارس الحكومية تقدّم تعليماً جيداً إلى حدّ كبير، رغم أننا كنا نعيش في واحدة من الأحياء الشعبية القديمة بمدينة القاهرة وكانت نسبة الفقراء ومحدودي الدخل هي الغالبة على سكان الحي، وكان الجميع يلحق أبناءه بالمدارس الحكومية المنتشرة داخل الحي والأحياء القريبة المحيطة به، وخلال هذه المرحلة لم نكن نسمع عن التعليم الخاص إلا نادراً، وكانت الدروس الخصوصية تشكل “وصمة اجتماعية” لمن يحصلون عليها، ولم يكن يقبل عليها إلا الطلاب الفاشلون.
ومع سنوات الثمانينيات انتقلنا لمراحل التعليم الإعدادي والثانوي، وخلال هذه المرحلة بدأت ظاهرة الدروس الخصوصية في التزايد التدريجي، وبدأنا نتأقلم مع وجودها خاصة في بعض العلوم مثل اللغات والرياضيات، ومع الوقت بدأنا في التعوّد عليها ولم تعد تشكل “وصمة اجتماعية” كرمزية للفشل، وبدأ الآباء والأمهات يحرصون على إعطاء أبنائهم الدروس الخصوصية خاصة في الشهادات العامة ضمانة للحصول على مجاميع عالية.
وجاءت سنوات التسعينيات لتقلب الموازين رأساً على عقب فمع تطبيق مصر لسياسات الخصخصة والتكيّف الهيكلي بدأ التعليم الخاص في التزايد بشكل ملحوظ وارتفعت نسبة الملتحقين به سواء على مستوى مرحلة التعليم ما قبل الجامعي أو التعليم الجامعي الذي شهد في النصف الثاني من التسعينيات إنشاء الجامعات الخاصة، وخلال هذه المرحلة تزايد الاعتماد على الدروس الخصوصية، وبدأت تشكل عبئاً ثقيلاً على الأسرة المصرية خاصة الفقراء والكادحين الذين يحرصون على تعليم أبنائهم من أجل إحداث حراك اجتماعي صاعد عبر عملية التعليم، وهنا بدأ المواطنون يطالبون الدولة بضرورة مواجهة هذه الظاهرة السلبية.
ومع مطلع الألفية الثالثة تراجع مستوى التعليم الحكومي إلى حدّ كبير وتحولت المدارس الحكومية إلى أبنية خالية من الطلاب خاصة في الشهادات العامة، حيث فضل الطلاب الجلوس بالبيت والاعتماد بشكل كامل على الدروس الخصوصية، التي شهدت هي الأخرى تطورات كبيرة، مع بروز ظاهرة المراكز التعليمية (السناتر) والتي يرتادها أعداد كبيرة من الطلاب، وتحت ضغط الرأي العام كانت وزارة التربية والتعليم وعبر كل وزير يأتي لمقعد الوزارة يكون من بين أولوياته الإعلان عن محاربة الدروس الخصوصية التي أصبحت تلتهم الجزء الأكبر من ميزانية الأسرة المصرية عامة والفقراء ومحدودي الدخل خاصة.
وخلال العام الماضي وفي ذروة الهجوم على المراكز التعليمية (السناتر) وفي ظلّ ارتفاع الأسعار وعدم قدرة غالبية الأسر المصرية على الوفاء بمتطلبات الحياة اليومية، تخرج علينا وزارة المالية ممثلة في مصلحة الضرائب بخبر تطالعنا به كلّ وسائل الإعلام بأنّ المصلحة سوف “تُصدر ملفاً ضريبياً لكلّ من يزاول مهنة التدريس بالمراكز التعليمية”، وهو ما فهم منه أن الدولة تتجه إلى تقنين أوضاع هذه المراكز التعليمية (السناتر)، وخرج المسؤولون لتبرير القرار بأنه ليس تقنيناً بل تحقيق العدالة الضريبية بين المجتمع الضريبي، ومرّت العاصفة بسلام.
وخلال هذا الأسبوع ومع الصدمات الاقتصادية المتتالية التي تتلقاها الأسرة المصرية من جراء التعويم المتكرر للجنيه المصري مقابل الدولار والارتفاع الجنوني لأسعار السلع والخدمات، ومن بينها الدروس الخصوصية، تخرج علينا وسائل الإعلام بخبر صادم يقول “قرار جريء لوزير التعليم يشكل ضربة لمافيا الدروس الخصوصية، حيث وافقت الحكومة على مشروع وزير التربية والتعليم، والذي يتضمّن فتح مراكز أو قاعات للمحاضرات ومجموعات التقوية داخل المدارس الحكومية لتكون بديلاً عن مراكز الدروس الخصوصية المنتشرة في أنحاء الجمهورية وبأسعار تناسب جميع الطلاب”، وبذلك تتحوّل الدولة من محارب لظاهرة الدروس الخصوصية لمنافس لهذه المافيا، ومن يدفع الفاتورة هي الأسرة المصرية، فعندما تتحوّل المدارس إلى (سناتر) فلا تحدثني عن تعليم بل تجارة غير مشروعة كانت تتمّ تحت سمع وبصر الدولة والآن أصبحت الدولة شريكاً في هذه التجارة المحرمة. اللهم بلغت اللهم فاشهد.