بقلم الأسير عمر شبلي
أعَدْتُ لنفسي كلمة الأسير حين رأيتك على شاشة التلفزيون تحكي عن تعرفك إلى أشياء الطبيعة التي يراها الأسير وهو يغادر ظلموت سجنه. لقد كنتُ فيك تماماً في تلك الساعة لأني كنت أسيراً مثلك، وأعرف ما تعني الحرية لأسير يتهجّى أشياء الكون الجديدة ليفهمها ويتعرّف إليها كطفل أدهشته رؤية حركة الكون في إنسانها.
أذهلني عمرك السجنيّ الممتد على أربعين سنة لا ضوء فيها سوى زمن يأتي ولا يأتي. ادرك ما تعني السنون في الإنسان المحذوف من الحياة وهو فيها. أدرك حلولك الجديد في ماهيّة الموجودات التي كنت تعرفها يوماً ما وتجهل أكثرها لكثرة ما أضاف المستعمر الصهيوني لوطنك من شجر الغرقد ومن تشوُّهاتٍ أصابت المكان، ولكنها لم تستطع أن تشوّهَ الإنسان الفلسطيني الذي استقبلك في الخيمة الفلسطينية والتي كانت أعلى من ناطحات السحاب لأنك كنتَ فيها مع أهلك وشعبك، إن المكان يأخذ قيمته يا كريم من الإنسان الذي يحلُّ فيه. الخيمة التي استُقبِلْتَ فيها كانت تعني فلسطين التي كانت والتي ستأتي.
سيحكون لك في الخيمة الفلسطينية عن انتفاضة الحجر الفلسطيني، وسيحكون لك عن محمد الدرة، وسيحكون لك عن عمر أبو ليلى وعن نساء زغردن وراء نعوش الشهداء، ستسمع وسترى الطفل الفلسطيني الذي يحمل في يمينه حجراً ويحمل في يساره مصّاصة حليبه.
أدري أنك لن تنسى السنين التي لا يعرف مدى طولها سوى من فقد وطناً وحبيبة وأماً ماتت قبل أن تراك خارج سجون الطغاة أعداء الحياة. أمك يا كريم أخَّرَتْ موتها أكثر من مرة لتحضر عرسك. ولكن من الأشياء ما ليس يحضر، وأنا أدرك الآن يا كريم أنك تتصوّرها وهي تحضنك وتمسح غربتك بحنانها ودموعها ولهفتها التي كانت حاضرة على الرغم من عدم حضورها. ستستقبلك أمهات تقدّمَ بهنّ العمر وسيُعَرِّفنكَ على أسمائهنَّ وستذكر كم كنّ صبايا فاتنات، وأنا أجزم يا كريم أن امرأة متقدمة في السنّ ستسلّم عليك، وستتحرّك مشاعرك بصمت وبانفعال لأنها لم تكبر أبداً في خيالك وفي وجدانك على مدى أربعين سنة في السجن، لأن حبّك كان يجبرها ان تبقى في العشرين من عمرها، وستعرف أنها أصبحت جدة، وسيخذلك لسانك وهي تسلّم عليك، وستصمت أمامها. وستدرك يا كريم أنّ السجن يُغَيِّر الأشياء كلها، وسوف تحتفظ في كتاب روحك بتلك الكلمات التي كنت تكتبها لها وترسلها ببريد الليل والغربة والحلم. سيخذلك لسانك أحياناً كثيرة وستشكو، “وهل يُشتكى وجدٌ إلى غير واجدِ”.
وسترى في منامك السجن كثيراً، وستحدّث من كانوا رفاقك في المحنة وأنت نائم. وأجزم أنك سترى في منامك أنك عدت إلى السجن أكثر من مرة وستستيقظ مذعوراً، وهذا ما كان يحدث معي يا أخ كريم. السجن يخرج في السجين ويكون الخلاص منه كالخلاص من العدو والمرض. وقد يعجب من هذا من لا يعرف ماذا تعني ظلمات السجون.
سمعت كلامك على شاشة التلفزيون وأدركت معك أن أصحاب القضايا الكبرى لا يستطيع السجن الاقتراب من مبادئهم أبداً. فلسطينيتك كانت أعلى من السجون وكان كلامك أكبر من الصهاينة أعداء الحياة. ستبقى رمزاً لكل أحرار العالم وستكون الحرّ في الأسير.
وستتحوّل في أرجاء قريتك وسترى أن أشياء كثيرة ما زالت حاضرة وستسلم عليها بحنان. والمكان يحكي يا كريم. إنّ للمكان ذاكرة، وسترى جدرانا كنت يوماً ترى في ظلالها من تحب وستقَبِّل “ذا الجدارا وذا الجدارا” كما فعل قبل قيس بن الملوح. وستخجل أن تسأل الناس عن أحوال آبائهم، لأني يا كريم كنت أسأل زواري يوم خرجتُ من سجني، وكنت أقول لواحدهم: “كيف حال الوالد” فيردّ عليّ بأسىً “عطاك عمرو”. وأنت سوف لن تسأل عن آباء زوارك، لأنّ أربعين سنة في الأسر تعني ما لا يدركه إلا من عرف ظلمات السجون وعانى من قسوتها.
أهلاً بك فينا يا كريم سنعتبرك معلما وقديساً وصاحب قضية أكبر من ان تقضي عليها قوى البغي والعدوان.
لي وصية عندك يا كريم، وهي أن تقول للفصائل الفلسطينية كلها: اخجلوا من الأسرى واتحدوا فقد كنا متحدين ونحن خلف القضبان.
٨/١/٢٠٢٣