تؤشر حوادث الوفاة والانتحار في سجن رومية إلى أن السجون اللبنانية على شفير الانفجار إذا استمر الإهمال الطبي والغذائي، وسط انعدام أفق معالجة الاكتظاظ، وتخطي فترة الاحتجاز أحياناً عشر سنوات.
تعيد حوادث الموت والانتحار في سجن رومية، وهو السجن الأكبر في لبنان (على بعد 15 كيلومتراً شرق بيروت)، إلى الواجهة أهمية إيجاد حلول جذرية، لا سيما لجهة تسريع المحاكمات، وتخفيف الاكتظاظ، وتوفير أبسط حقوق الإنسان. فمؤخراً في 27 ديسمبر/ كانون الأول، انشغل روّاد مواقع التواصل الاجتماعي بوفاة السجين الفلسطيني حمزة بلباسي (32 عاماً)، وما رافقها من مزاعم تفيد بأنّ سبب الوفاة إصابته بمرض السلّ، الأمر الذي نفته جهات مطّلعة، وأشارت إلى آثار حقن قد تكون ناجمة عن تعاطي مخدرات.
جاءت وفاة بلباسي بعد نحو أسبوع من وفاة السجين اللبناني محمود الحكيم بسبب “وعكة صحية”. وبحسب مزاعم متداولة، فإنّ الحكيم (31 عاماً) قضى نتيجة إصابته بمرض السلّ، وإنّ هناك إصابات أخرى بهذه العدوى داخل سجن رومية. وفي يوليو/ تموز الماضي، انتحر سجين سوري شنقاً في مطبخ السجن، وبعد أقل من 24 ساعة، حاول آخر الانتحار، وخلال الشهر نفسه، توفي سجين بسبب المرض. وفي 14 أغسطس/ آب الماضي، توفي سجين سوري بسبب الإهمال الطبي، بعدما أمضى عشر سنوات خلف القضبان تنفيذاً لحكم بالمؤبد.
يتّسع سجن رومية المركزي الواقع شمال بيروت لنحو 1050 سجيناً حداً أقصى، وفق مصادر قانونية، غير أنه مكتظ بنحو 4000 سجين، وسط ظروف معيشية قاهرة، وواقع صحي متدهور تتفاقم حدته خلال الصيف، مع ارتفاع درجات الحرارة، وتفشي الأمراض الجلدية المعدية.
يؤكد مدير البرنامج القانوني لمركز “سيدار” للدراسات القانونية المحامي محمد صبلوح أن وضع السجون مأساوي باعتراف وزارة الداخلية والبلديات، وأن نسبة الاكتظاظ تكاد تكون 250%. ويقول لـ”العربي الجديد”: “وفقاً لآخر إحصاء كشفه وزير العدل عادل نصار، فإن 64% من السجناء بحكم الموقوفين غير المحكومين، ما يسلط الضوء على المآسي التي يعانيها السجناء وتقاعس القضاء”. ويضيف: “وصلنا إلى نسبة اكتظاظ مرتفعة نتيجة إهمال الحكومات المتعاقبة ملف السجون، ولا قدرة للدولة على تأمين الطعام وأبسط قواعد حقوق الإنسان. كما أن وزارتَي الدفاع والداخلية والبلديات لا تغطي تكاليف الاستشفاء، بل يُطلب من الأهالي تأمين الأموال التي تصل إلى آلاف الدولارات”.
وقد سُجلت العام الماضي نحو 32 حالة وفاة داخل سجن رومية، وسط تعتيم وزير الداخلية والبلديات حينها بسام المولوي على القضية، وفق قول صبلوح، الذي تحدث عن مشاريع قوانين جرى تقديمها، “لكن المجلس النيابي لا يتحلى بالضمير الإنساني لمعالجة الإشكالية، ورئيس الجمهورية لا يعطي الأولوية لهذا الملف، ولا حتى الحكومة تتابع القضية، بينما تكتفي ببروباغندا إعلامية، مثل إعلان وزير العدل تفعيل عمل محكمة رومية، في حين أن المطلوب معالجة الثغرات القانونية”.
ويلفت إلى أنه تقدم بادعاء بعد توكيله من قبل أهالي سجناء قضوا بذبحة قلبية لعدم وجود عيادات طوارئ في السجن. ويتابع المحامي اللبناني: “طبيب السجن ضابط لا يفقه في الطب، وبانتظار الطبيب المتخصص، وتحويل المريض إلى المستشفى الذي يبعد دقيقتين سيراً على الأقدام، يكون السجين قد فارق الحياة. علماً أن بعض الأطباء لا يقصدون السجن إلا إذا تأمنت أتعابهم. والدولة تتعاطى مع السجناء باعتبارهم أرقاماً وليسوا بشراً. وحذّرنا وما زلنا من أن السجون على أبواب الانفجار إذا استمر الإهمال، لأن الموت نتيجة الإهمال الطبي يخلّف جيلاً حاقداً على مؤسسات الدولة”.
ويوضح أن سجن رومية حافل بالمآسي، داعياً وزيرَي العدل والداخلية والبلديات إلى “المكوث ليلة واحدة في السجن للاطلاع على الواقع المزري، حيث إن السجناء يقضون حاجتهم داخل الغرفة نفسها من خلال وضع فاصل من قطعة كرتون، أضف إلى أن الغرفة تضم ثمانية إلى عشرة أشخاص، في حين أنها لا تتسع لأكثر من خمسة أشخاص”. ويطالب صبلوح بـ”إعادة ترميم السجن بعد معالجة الاكتظاظ، وبأن تتولى وزارة العدل إدارة السجن، بعيداً عن الإدارة العسكرية المبنية على ثقافة العنف والضرب والقسوة”.
ويشدد رئيس جمعية “عدل ورحمة” الأب نجيب بعقليني على “حق كل من حُجزت حريته بالحصول على مقومات الحياة من غذاء ونظافة شخصية ورعاية صحية وتأهيل. لكن سجن رومية وأغلب سجون لبنان لم تصل إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان، خصوصاً بعد ما شهدته البلاد من جائحة كوفيد – 19 وأزمة مالية”. ويوضح لـ”العربي الجديد” أن سجن رومية لم يعد قادراً على حفظ كرامة نزلاء السجن وحقوقهم، وأنه لا يمكن تخفيف معدل الجريمة من خلال العقاب أو الإعدام، إنما بواسطة التأهيل والتربية وإعادة النظر في منظومة العقاب. ويتحدث عن تدهور الواقع الصحي في السجن، حيث تقلص عدد الأطباء وصارت التغطية الصحية محدودة، وعند الحاجة لعمليات جراحية تجري الاستعانة بصندوق السجن، أو بجمعيات خيرية، أو يتكبد الأهل الكلفة. الوضع المعيشي مزرٍ، حيث يعجز أغلب الأهالي عن تأمين الطعام لذويهم، ما يضطرهم لتناول طعام السجن الذي لا يروق لكثير منهم.
ويشير بعقليني إلى أن “انعدام سبل النظافة يتسبب بأمراض جلدية، معدية تنتقل أحياناً بواسطة شفرة الحلاقة، كما أن عدم توفر التهوية الكافية للغرف والاكتظاظ وانتشار الحشرات، كلها عوامل تفاقم الوضع الصحي، أضف إلى ذلك أن المياه غير صالحة للشرب، وفق قول النزلاء”. وينبّه إلى المشاكل النفسية التي تهدد النزلاء، حيث إن المحاكمات محدودة، ما يعزز شعورهم بانتفاء أي مستقبل لحياتهم. ويدعو بعقليني المعنيين لتأمين الحاجات الأساسية للنزلاء وتسريع المحاكمات، وإعادة التأهيل، وتمكينهم من خلال إتقان المهن والتخصصات. غير أن المطلوب توسيع أماكن التشغيل والتخصص ورفدها بتجهيزات جديدة.
ويكشف أنهم كانوا بصدد إطلاق مشروعين لتوفير فرص عمل للنزلاء بعد خروجهم من السجن، بالشراكة مع إيطاليا والولايات المتحدة، لكنهما جُمّدا بسبب توقف الدعم. ويؤكد أن عجز الأهالي عن دفع غرامات إخلاء السبيل يعزز الاكتظاظ، ويقول: “نحاول تسديد بعض الغرامات، وهناك اجتماعات تعقد مع اللجنة النيابية لحقوق الإنسان، تحديداً بشأن اكتظاظ الموقوفين والمحكومين السوريين”.
خرج شقيق حنان فخري من السجن ورُحّل إلى سورية، وهو يعاني أمراضاً نفسية. تقول حنان، اللاجئة السورية المقيمة في لبنان، لـ”العربي الجديد”: “المعاناة داخل سجن رومية كانت كبيرة نظراً للظروف السيئة التي عاشها محمد طيلة فترة حكمه خمس سنوات بتهمة ترويج المخدرات، لكن المعاناة بعد السجن أكبر. فهو اليوم مرمي في شوارع سورية بعد أن خسر منزله، لا رعاية، ولا اهتمام، ولا عمل، ولا علاج. ندمت أنني دفعت مبالغ لإخراجه من السجن”.
أما سمير، السجين الذي تكبد التكاليف وجازف للحصول على هاتف سري، فينقل لـ”العربي الجديد” فظاعة الواقع المعيشي داخل السجن، ويقول: “الوضع سيئ جداً. نجد سجناء ينتحرون نتيجة انعدام مقومات الحياة، فالأدوية غير متوفرة، والطبابة معدومة، وكمية الوجبات الغذائية ضئيلة وجودتها معدومة تلحق بنا الأمراض، ولا نجد من يرأف بمعاناتنا”.
عام 2012، حُكم على سمير، اللاجئ الفلسطيني في لبنان، بالسجن عشرين عاماً مع الأشغال الشاقة بجرم التسبب بالقتل، وهو يعاني اليوم من وهن ومشاكل في الأعصاب، وقد توفي نصف أفراد عائلته وهو خلف القضبان. كان بعمر 25 عاماً عندما سجن، وهو اليوم بعمر 38 عاماً.
بدوره، يروي جورج (اسم مستعار) وهو سجين لبناني سابق حُوكم بتهمة ترويج عملة مزيفة، لـ”العربي الجديد”، حجم المعاناة طيلة سبع سنوات في سجن رومية، ويقول: “عانينا من الإهمال الطبي والغذائي، أضف إلى ذلك الاكتظاظ والمعاملة السيئة، وانتشار الأمراض الجلدية المعدية من الجرب والفطريات، ووفاة الكثيرين من جراء عدم نقلهم إلى المستشفيات. كان يُنظر إلينا بازدراء، لا قيمة لنا على الإطلاق”. نال جورج حريته منذ نحو سنة، وقد صار اليوم بعمر 42 عاماً، غير أنه لا يزال أسير المنزل ووصمة المجتمع، حيث لم يتمكن بعد من العثور على فرصة عمل.
وتوضح مصادر أمنية لـ”العربي الجديد” أن “الجهود الأمنية لم تتوقف، وهناك صراع يومي لتأمين حقوق السجناء، كما أن حالة الطوارئ دائمة على صعيد تأمين الطعام والطبابة والأدوية والاستشفاء”، مؤكدة أن “حالات الانتحار مأساوية وقاسية وهي ناجمة عن حالات نفسية، لكن لا يمكن الحديث عن ظاهرة انتحار في سجن رومية”. وتكشف المصادر نفسها وجود “نقص في عدد العناصر الأمنية في كل القطاعات، وهذا ينسحب على سجن رومية، حيث يعاني العناصر من تحديات جمة وصعوبة في الخدمة، خصوصاً أن السجن يتألف من سبعة مبانٍ وعدد السجناء يقارب 3500 سجين”.
وكانت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان في لبنان، المتضمنة لجنة الوقاية من التعذيب، قد كشفت في يوليو الماضي أن زياراتها إلى أكثر من 200 مركز احتجاز بين عامَي 2023 و2025 أظهرت وجود أوضاع قاسية ومهينة بالسجون اللبنانية. وأشارت إلى أن المحتجزين يواجهون انتهاكات جسيمة تشمل مطالبتهم بدفع رشاوى مقابل الحصول على الرعاية الطبية، وزيارات العائلة، أو المساعدة القانونية، وفرض ما يُعرف بـ”إيجار غير قانوني” مقابل الحصول على سرير أو مساحة داخل الزنزانة. كما يجري الإبلاغ عن تهريب وتجارة ممنوعات، بما في ذلك المخدرات والهواتف المحمولة، بموافقة أو تواطؤ بعض إدارات السجون. وقد وثقت الهيئة حالات ظل فيها الموقوفون قيد الاحتجاز مدة تصل إلى خمس سنوات، وفي بعض الحالات أكثر من عشر سنوات.
ومع كل حادثة وفاة أو انتحار داخل سجن رومية، يجدد الناشطون مناشداتهم، مطالبين بتحسين الواقع الصحي والإنساني في السجون، ويتّجه بعضهم إلى المطالبة بإصدار عفو عام من أجل إنهاء معاناة السجناء.
العربي الجديد
















