إإسماعيل النجار،*
حلب بين فَكَّي حكومة دمشق وأنياب قوات سوريا الديمقراطية،
أنقرَه تدخلت مع دمشق لحسم الأمر إما إندماج كامل “لقسد” في مؤسسات الدولة السورية وإما الحسم العسكري.
“نعم”سوريا على حافة الانفجار المؤجَّل ولكنه قريب؟
أسرار كثيرة وراء ما يجري من اشتباكات في حلب بين «قسد» وسلطة دمشق الجديدة،
.لم تكن الاشتباكات التي شهدتها مدينة حلب بين قوات سوريا الديمقراطية والسلطة السورية الجديدة حدثًا أمنيًا عابرًا، ولا مجرّد احتكاك ميداني محدود يمكن عزله عن السياق العام للأزمة. ما جرى هو تعبير مكثّف عن أزمة أعمق تضرب بنية الدولة السورية ومسار إعادة تشكيلها، وتكشف حجم التناقضات الداخلية والتقاطعات الإقليمية والدولية التي تحكم المشهد السوري اليوم.
.أولًا… التوقيت ليس صدفة
ووقوع الاشتباكات بعد زيارة وزير الخارجية التركي إلى دمشق ليس تفصيلًا ثانويًا. فأنقرة، منذ سقوط النظام القديم وصعود سلطة انتقالية في دمشق، تعمل على إعادة ضبط الملف السوري بما يخدم أولوياتها الأمنية، وعلى رأسها إنهاء أي كيان عسكري أو سياسي كردي مستقل أو شبه مستقل على حدودها.
.الرسالة التركية كانت واضحة لا مكان لـ«قسد» بصيغتها الحالية، إما الاندماج الكامل وفق شروط مركزية صارمة، أو فتح الباب أمام تصعيد أمني واسع.
هذا الضغط التركي أعاد تفجير التناقضات المؤجَّلة بين دمشق و«قسد»، ودفع الأطراف الميدانية إلى اختبار ميزان القوى على الأرض، فجاءت حلب بما تمثله من رمزية سياسة وتعقيد ديموغرافي ساحة الاشتباك.
.ثانيًا… هناك صراع مصالح داخلية بنكهة خارجية؟ فالاشتباكات لا يمكن تصنيفها كصراع خارجي بحت، ولا كخلاف داخلي صرف. الحقيقة الأقرب للمنطق أن ما يجري هو صراع مصالح داخلية مُسَيَّسة ومُدوَّلة.
.دمشق الجديدة تسعى إلى إعادة بناء الدولة بصيغة مركزية، وترى أن أي قوة مسلحة خارج سيطرتها الكاملة تمثل تهديدًا مباشرًا لسيادتها ووحدتها.
.فمن منظورها، اندماج «قسد» يعني تفكيك بنيتها العسكرية والإدارية وضم الأفراد فقط إلى مؤسسات الدولة.
قسد، في المقابل، تنطلق من تجربة حكم ذاتي طويلة، وتعتبر أن أي اندماج لا يضمن لها دورًا سياسيًا وإداريًا واعترافًا بخصوصيتها هو بمثابة استسلام تدريجي، يعرّضها للتفكيك وربما التصفية السياسية لاحقًا. لكن هذا الصراع الداخلي ما كان ليصل إلى حَد الاشتباك لولا تدخل العوامل الخارجية. تركيا من جهتها تضغط وتلوّح بالقوة. والولايات المتحدة توازن بين دعم «قسد» ومنع انهيار التفاهم مع دمشق. بينما روسيا وإيران تدفعان باتجاه استعادة الدولة المركزية لسلطتها كاملة.
.ثالثًا…اتفاق آذار مَن أفشله؟
اتفاق آذار (مارس) الذي جرى الترويج له كاختراق تاريخي بين دمشق و«قسد» لم يفشل بسبب بند واحد، بل بسبب تناقض جوهري في الرؤية.
دمشق تعاملت مع الاتفاق كمرحلة انتقالية قصيرة نحو تفكيك «قسد».
«قسد» تعاملت معه كمدخل لشراكة طويلة الأمد وصيغة حكم لا مركزي.
التراجع لم يكن قرارًا رسميًا مُعلنًا، بل تعطيلًا متبادلًا بالتقسيط:
دمشق شدّدت شروط الدمج، و«قسد» ماطلت في التنفيذ، فيما كانت الأطراف الخارجية تضخ رسائل متناقضة لكل طرف، ما جعل الاتفاق يفقد روحه السياسية ويتحوّل إلى حبر على ورق.
.رابعًا… الأسباب الحقيقية والغامضة للاشتباكات والأسباب الحاضرة هي
الخلافات على السيطرة الأمنية في أحياء مختلطة داخل حلب. وفشل تطبيق اتفاق آذار ميدانيًا. والضغط التركي المتصاعد. وغياب الثقة المتبادلة بين الطرفين. أيضاً الصراع على الموارد والنفوذ والممرات الحيوية.
.أيضاً هناك أسباب عميقة غير معلنة.
يبدأ هذا الصراع على شكل الدولة السورية المقبلة، إن كانت مركزية صارمة أم لا مركزية مقنّعة.
.أيضاً خشية دمشق من تحوّل «قسد» إلى نموذج يُطالب به آخرون في سوريا كالدروز والعلويين.
وخوف «قسد» من أن تكون بنظر أميركا ورقة مؤقتة جرى استهلاكها.
لذلك جرى استخدام الاشتباكات كرسالة سياسية للداخل والخارج في آن واحد.
.خامسًا… مستقبل سوريا في ظل هذا التشتت، يحسم أن المشهد السوري يتجه إلى واحد من ثلاثة مسارات؛
.تسوية قسرية تُفرض فيها صيغة اندماج شكلية تُبقي التوتر كامنًا.
.أو تصعيد متدرج تتحول فيه الاشتباكات المحدودة إلى مواجهات أوسع شمالًا.
.أو تثبيت التشرذم تحت شعار دولة اسمية واحدة، وسلطات أمر واقع متعددة. حتى هذه اللحظة، لا مؤشرات حقيقية على مشروع وطني جامع، بل إدارة أزمة مؤقتة تُرحّل الانفجار بدل معالجته.
.سادسًاً…ماذا يريد الشعب السوري؟ سوريا المحور أم سوريا «الواقع الجديد»؟ فالمقارنة بين “سوريا المحور” وسوريا ما بعد التحولات لا تتعلق بالأشخاص أو التسميات، بل بالخيارات، سوريا المحور كانت واضحة التموضع، قوية المركز، محددة الخصوم والحلفاء. أما سوريا اليوم تعيش حالة إعادة تعريف قسرية لهويتها السياسية، تحت ضغط التوازنات الخارجية وتناقض الداخل.
أما بالنسبة للإشتباكات في حلب لا تُعتبر معركة عسكرية بقدر ما هي معركة تعريف من يحكم؟ وكيف؟ ولمصلحة من؟
في نهاية المطاف ما جرى في حلب هو إنذار مبكر، لا ذروة الصراع.
وهذا يعتبر نتاج طبيعي لتراكمات سياسية مؤجلة، واتفاقات غير ناضجة، وتدخلات خارجية تُدار بعقل أمني لا برؤية دولة. والحقيقة الأقرب للمنطق أن سوريا اليوم لا تعاني فقط من تعدد القوى، بل من غياب مشروع وطني جامع قادر على تحويل السلاح إلى سياسة، والسلطة إلى دولة، والتنوع إلى شراكة لا إلى اشتباك.
بيروت في،، 25/12/2025
*كاتب ومحلل سياسي















