عدنان علامة*
لتقرير ذلك، لا بد من إعتماد التحليل الدقيق وفق التالي:
أولًا: السياق السياسي-النفسي لصانع القرار
تظهر سلوكيات نتنياهو في السنوات الأخيرة، ضمن إطار يتقاطع مع خصال النرجسية السياسية: الحاجة المستمرة لإثبات التفوق، رفض الاعتراف بالخطأ، وتضخيم القدرة الشخصية على صناعة “الانتصارات التاريخية”.
فبعد جريمة حرب اغتيال القائد الجهادي الكبير، في حزب الله، الحاج أبو علي الطبطبائي، تعزّز لديه ما يمكن تسميته بـ”نشوة النصر التكتيكي”، وهي مرحلة حرجة في علم النفس السياسي حيث يُعاد تعريف المخاطر على أنها فرص، ويُعاد النظر في حدود القوة على أنها حدود قابلة للكسر.
وهذه الحالة، ترفع قابلية صانع القرار، للإندفاع نحو خيارات عالية المخاطر، وذات نتائج غير محسوبة.
ثانيًا: دوافع الإنحراف نحو التصعيد لتعطيل المساءلة الداخلية
يواجه نتنياهو ضغوطًا قضائية غير مسبوقة، تتعلق بالفساد والإختلاس، وهو ما يولّد دافعًا بنيويًا للهروب إلى الأمام.
وفي الأدبيات السياسية، تُعرف هذه الحالة بـ“سياسة تحويل الانتباه” أو Diversionary Conflict، حيث يلجأ الزعيم المأزوم، إلى خلق أزمة أمنية خارجية، لإعادة تشكيل بيئة القرار الداخلي.
وبذلك يتحول التصعيد العسكري إلى أداة سياسية، لإعادة بناء شرعية متركبة على الخطر الخارجي، وليس على الإنجاز الداخلي.
ثالثًا: المؤشرات الميدانية المتصاعدة
فسلسلة المناورات التي نُفّذت خلال الأشهر الأخيرة في الشمال الجولان؛ بما في ذلك مناورات قيادة الأركان—وإطلاق قذائف في ريف القنيطرة، والإنزال الجوي قرب الحدود— تشير إلى رفع مستوى الجهوزية العملياتية، وليس مجرد تدريب روتيني.
فهذه المناورات تتطابق في مضمونها مع سيناريو “عمليات متعددة الجبهات” التي تعتمدها إسرائيل في مواجهة حزب الله؛ ورغم أنها ليست دليلاً على قرار اجتياح وشيك، فإنها تهيّئ البنية التكتيكية اللازمة لأية مغامرة متسارعة.
رابعًا: تحليل القدرة والقيود العملياتية
إن إجتياح جنوب لبنان عبر جبهتي الشمال والشرق، لن يكون عملية حدودية محدودة، بل حملة عسكرية واسعة ذات تكلفة بشرية ومادية هائلة.
فالقدرات التي يمتلكها حزب الله—من الصواريخ الدقيقة إلى البنية القتالية المتقدمة— تجعل أي تقدّم إسرائيلي، أشبه بإختبار إستنزاف طويل، وهو ما يتناقض مع “الحسم السريع” الذي يسعى إليه نتنياهو إنتخابيًا.
ولكن الزعيم الذي يعاني تضخمًا في تقدير الذات، قد لا يرى هذه القيود بعين الواقع، بل بعين الوهم الاستراتيجي.
خامسًا: إحتمالات الهجوم وفق نموذج التحليل النفسي-الإستراتيجي
تجمع النماذج السلوكية للأزمات بين عاملين: مستوى التهديد الخارجي، ومستوى الضغط الداخلي.
وعندما يتزامن ضغط داخلي شديد—محاكمة، انتخابات حاسمة— مع إحساس متضخم بالقوة بعد عملية اغتيال مؤثرة، ترتفع احتمالات الخيارات المتهورة. هذا لا يعني أن نتنياهو سيذهب إلى حرب شاملة، لكن احتمالات العمليات المحدودة، عالية الخطورة تصبح أكبر بكثير من المعتاد.
سادسًا: أثر تأخر الشتاء ومحددات نافذة الفرصة
فالنوافذ المناخية تُعد عاملًا عملياتيًا حاسمًا. فتأخّر الشتاء في لبنان قد يخلق “نافذة إغراء” لدى القيادة الإسرائيلية، إذ يسهّل الحركة الميدانية ويمنح الجيش هامشًا أوسع للمناورة.
فالقادة الذين يعانون أعراض “جنون العظمة السياسية” يميلون إلى تفسير هذه النوافذ كعلامات على أن الظروف “تصطف لصالحهم”.
سابعًا: البيئة الدولية ودور واشنطن
رغم أن قرار الحرب قد يصنعه نتنياهو بدافع ذاتي، أو نرجسي، إلا أن استدامتها تحتاج غطاءً دوليًا. فالدعم الأمريكي ليس مضمونًا في حال انزلاق الأمور إلى حرب واسعة؛ خصوصًا مع تداعياتها على أسعار الطاقة، والتوتر مع روسيا وإيران، واحتمال فتح جبهات أخرى.
فهذا الافتقار إلى الغطاء لا يردع بالضرورة، زعيمًا يعتقد أنه قادر على فرض الحقائق بالقوة، لكنه يبقى عاملًا ضاغطًا على المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نفسها.
ثامنًا: سيناريوهات التصعيد المحتملة
أعلى إحتمالًا:
عمليات محدودة، ضربات نوعية، أو محاولة اختراق موضعي لإظهار “الإنجاز” خدمة للسردية الانتخابية.
– متوسط الاحتمال:
عملية برية قصيرة لإعادة تموضع قرب الليطاني بهدف تصويرها كنجاح استراتيجي.
– منخفض الاحتمال:
حرب شاملة بهدف “سحق” حزب الله، نظرًا لغياب القدرة على الحسم وتوقع الخسائر الهائلة.
تاسعًا: انعكاسات مغامرة كهذه، على الداخل الإسرائيلي،
حتى لو نجح نتنياهو في تحقيق إنجاز أولي، فإن خطر الإنزلاق السريع إلى إستنزاف، يهدد المجتمع الإسرائيلي—اقتصاديًا وأمنيًا— قد يحوّل المكاسب، إلى عبء إنتخابي.
وتاريخياً، الزعماء النرجسيون، يبالغون في تقدير الأرباح، ويستخفون بتكاليف ما بعد المرحلة الأولى من الصراع.
الخلاصة الأكاديمية
فالتحليل المدمج بين معطيات الميدان، وسمات الشخصية السياسية لنتنياهو، يكشف أن إحتمال المغامرة قائم، مدعوم ببيئة نفسية مضطربة وضغط سياسي داخلي، وتصاعد تدريبات عسكرية غير مسبوقة.
لكن القيود البنيوية—قدرات حزب الله، هشاشة الجبهة الداخلية، الموقف الدولي— تجعل من سيناريو الحرب الواسعة أقل ترجيحاً، من سيناريو العمليات المحدودة، ذات الطابع الاستعراضي.
ويبقى الخطر الأكبر في تفاعل النرجسية مع القوة العسكرية: فالتقدير الخاطئ لدى صانع القرار قد يكون كافيًا لإشعال مواجهة تتجاوز حدود ما كان مقصودًا أصلًا.
وفي الجهة المقابلة فإن حزب الله يعتمد كليًا على الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي وعد المؤمنين بالنصر، والدفاع عنهم، وحتى يكشف المؤامرات عليهم.
فقال الله مسلحانه وتعالى : {إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( الأنفال-30)
وإنَّ غدًا لناظره قريب
25 تشرين الثاني/نوفمبر 2025
*عضو الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين

















