د.كلود عطية*
لم يعد السِّلم الأهلي في لبنان مجرد شعار يتغنّى به السياسيون في المناسبات، بل صار حاجة وجودية، شرطًا لبقاء الوطن نفسه. فلبنان الذي تهشّم تحت وطأة الانقسامات والطوائف والمصالح، لا يمكن أن ينهض إلّا من رحم التفاهم الداخلي الحقيقي، من إرادة اللبنانيين أنفسهم، لا من إملاءات الخارج ولا من “وصايات” تعيد إنتاج التبعية بوجه جديد.
إنّنا اليوم أمام مفترق مصيري: إما أن نبني لبنان الدولة، أو نبقى في لبنان الزواريب. إما أن نؤسّس لعقدٍ اجتماعي جديد قائم على المواطنة والعدالة والمشاركة، أو نستمرّ في دوّامة الطائفية التي تبتلع كل فرصة حياة.
العقد الاجتماعي الجديد ليس وثيقة نظرية، بل فعل وعي جماعي، يقوم على أن اللبناني هو قيمة بذاته، لا بانتمائه الطائفي. أن المعيار هو الكفاءة، لا الولاء. أن الدولة هي الراعي، لا المتسلّط. وأن السلم الأهلي لا يُبنى بالإكراه، بل بالعدالة الاجتماعية، بالثقة بين المواطن والمؤسسات، وبنظام يوزّع الحقوق والواجبات بعدل لا بتوازنات طائفية.
ولعلّ المدخل الأساس لتحقيق هذا السلم هو التفاهم اللبناني – اللبناني على الملفات اللبنانية العالقة، بعيدًا عن أي تدخّل خارجي أو ارتهان سياسي أو مالي. فكل محاولة لفرض تسويات من الخارج عبر بعض المتزلفين والعملاء لا تؤدي إلّا إلى إضعاف القرار الوطني وإدامة الأزمات. المطلوب هو حوار وطني صادق، يواجه القضايا الخلافية بعقلٍ مسؤول، ويؤسّس لشراكة داخلية حقيقية تحفظ الاستقرار وتمنع الاستقواء بالخارج. فالتفاهم الداخلي ليس خيارًا تكتيكيًا، بل شرط بنيويّ لاستمرار الدولة واستقلالها وكرامتها.
لبنان لا يحتاج إلى وسطاء دوليين ولا إلى مؤتمرات “رعاية”. يحتاج إلى قرار لبناني صادق بأن الإنسان هو البداية والنهاية، وأن المواطنة هي الطريق الوحيد إلى الاستقرار. نحتاج إلى أن نكفّ عن الاتكال على الخارج الذي يقدّم المساعدات ليبقى هو المستفيد الأكبر من انقسامنا. فلبنان الذي نحلم به ليس للبعض دون البعض، وليس لطائفة دون أخرى. هو لبنان الإنسان، لبنان الذي يُبنى بالعقول لا بالولاءات، وبالمؤسسات لا بالمصالح الضيقة.
لقد آن الأوان لأن يلتقي اللبنانيون على كلمةٍ واحدة: أن لا غالب ولا مغلوب في الوطن، بل شركاء متساوون في الكرامة والمصير. فالسلم الأهلي يقوم على إيمان مشترك بأننا أبناء وطن واحد يستحق الحياة.
فلنكتب معًا، نحن اللبنانيين، عقدنا الجديد بأحرف من صدق، نوقّعه بالنية الطيبة، ونحرسه بالفعل لا بالكلام. لبنان يستحقّ أن يكون وطنًا للإنسان… لا مزرعة للسلطات.
لبنان الذي نريد هو لبنان الجميع، لا لبنان الأقوياء بالخارج، بل الأقوياء بإيمانهم بلبنان.
* بروفسور في الجامعة اللبنانية.














