عادت بعض فروع البنوك في قطاع غزة للعمل مجدداً، بعد أشهر طويلة من وقف العمل نتيجة الظروف الأمنية والحرب الإسرائيلية، في مشهد لا يعكس تحسناً فعلياً في الواقع المالي للمواطنين، حيث لا تزال أجهزة السحب مغلقة ومتعطلة عن العمل.
ورغم إعلان استئناف الخدمات البنكية تدريجياً، جعلت عودةُ الفروع من دون إتاحة السحب والإيداع المواطنينَ يعبّرون عن تذمرهم، معتبرين أن هذه الخطوة لا تغيّر من الأزمة شيئاً.
وعادت خمسة بنوك تابعة لسلطة النقد الفلسطينية للعمل منذ 19 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهي بنوك فلسطين، والإسلامي الفلسطيني، والإسلامي العربي، والقدس، والقاهرة عمان، من أصل عشرة بنوك. وتشير التقارير الدولية إلى أن تكلفة إعادة الإعمار المالي تُقدر بنحو 42 مليون دولار، لكن التحدي الأكبر لا يزال في توفير السيولة وضمان تدفق النقد إلى الفروع والصرافات.
ولعل فتح أبواب البنوك بلا سيولة يترك الحسابات مجمدة، ويجبر الناس على اللجوء إلى السوق السوداء حيث تُدفع عمولات باهظة مقابل الحصول على الكاش، ما يفاقم معاناة الأسر ويضاعف الأعباء الاقتصادية.
وتجدر الإشارة إلى أن السيولة هي شريان الحياة لأي اقتصاد، وبدونها تبقى الحركة التجارية مشلولة والأجور مؤجلة والمدخرات محبوسة في حسابات لا يمكن الوصول إليها.
عودة شكلية
رغم محاولات سلطة النقد الفلسطينية (البنك المركزي) بث أجواء التفاؤل بعودة العمل المصرفي، جعل غياب النقد الفعلي هذه العودة أقرب إلى الشكلية منها إلى العملية، فالغزيون الذين انتظروا طويلاً استعادة تعاملاتهم البنكية، وجدوا أنفسهم أمام نوافذ خدمة مفتوحة من دون حلول مالية حقيقية.
وعبّرت الفلسطينية منار نظمي، التي فقدت زوجها وأهلها خلال الحرب وتعيل أربعة أفراد، عن مشاعر مختلطة بين الفرح والألم، قائلةً إنها ظلت لعامين كاملين بلا حساب بنكي أو محفظة إلكترونية، ما جعلها تواجه صعوبات كبيرة في تسلّم المساعدات أو إجراء أي معاملات مالية.
وأوضحت منار لـ”العربي الجديد” أنها شعرت بالارتياح أخيراً مع إعلان فتح الحسابات مجدداً، حيث ستتمكن من امتلاك حساب بنكي واستخدام وسائل الدفع الإلكتروني، “لكنها في الوقت ذاته تعتبر أن الخطوة منقوصة، لأن الحساب دون إمكانية سحب أو إيداع يظل بلا جدوى عملية”.
وأضافت: “نحن بحاجة إلى النقد اليومي لشراء الحاجات الأساسية، والدفع الإلكتروني لا يخدمنا في الأسواق الشعبية التي لا تعتمد على هذه الوسائل، وغياب السيولة النقدية يجعل السكان يعيشون في دوامة انتظار لا تنتهي، فعودة البنوك بهذه الصورة مجرد بداية رمزية لا تحل مشكلة”.
أما الفلسطيني ضياء جبر، الذي يملك حساباً مصرفياً منذ عام 2008، فيرى في خطوة فتح الحسابات البنكية استمراراً للأزمة نفسها التي واجهها طوال الحرب وما بعدها، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “كنا ننتظر أن تعود عمليات السحب والإيداع فور انتهاء الحرب، لكن المفاجأة أن القيود ما زالت قائمة رغم مرور أكثر من شهر على وقف الحرب”.
وقال: “ظننا أن انتهاء الحرب يعني عودة الحياة الطبيعية، لكن البنوك بقيت مغلقة فعلياً أمام أموالنا”، مضيفاً: “استمرار تجميد السيولة أجبرني على التعامل مع السوق السوداء لتسييل أموالي، ما يعرضني لخسائر كبيرة تصل حالياً إلى 25% من قيمة المبلغ المسحوب”.
وتابع ضياء: “هذا الواقع جعل المواطنين يشعرون بأن القطاع المصرفي فقد دوره الأساسي كمصدر أمان مالي، فلا معنى لعودة البنوك وأنا لا أستطيع سحب أموالي دون خسارة جزء منها”.
ازدحام أمام الفروع القليلة في غزة
وتمثل قصة الفلسطيني عبد الرحمن شبير، وجهاً آخر من الأزمة، فمنذ إعلان سلطة النقد عودة فتح الحسابات الجديدة قبل أسبوع، حاول عبد الرحمن فتح حسابه الأول في أحد البنوك، لكنه لم يتمكن بسبب الازدحام الشديد أمام الفروع القليلة العاملة في القطاع.
وقال شبير لـ”العربي الجديد”: “من غير المعقول أن يكون هناك فرع أو اثنان فقط يخدمان مئات الآلاف من الناس، هذا يكرس المشكلة بدل أن يحلها”، وشدد على أن الحاجة اليوم ليست إلى فتح الحسابات فقط، بل إلى إعادة بناء شبكة الفروع التي دمرها الاحتلال خلال الحرب، فوجود عدد محدود من المكاتب البنكية يجعل الوصول إلى الخدمة مهمة شاقة، خاصة مع طوابير الانتظار الطويلة.
وأضاف: “نحتاج إلى فروع جديدة حتى نتمكن من مراجعة البنك بسهولة دون أن نقضي يومنا في الانتظار، المواطن العادي يريد ببساطة التعامل الطبيعي مع ماله دون وسطاء أو عمولات”.
ومن الناحية الاقتصادية، يقدر الخبراء أن أكثر من 95% من البنية المصرفية في غزة تضررت خلال الحرب، ما أدى إلى خسائر كبيرة، وترك معظم الفروع خارج الخدمة لعامين كاملين.
ويرى الخبراء أن أي خطة لإحياء القطاع المصرفي يجب أن تبدأ بضخ الأموال المنتظمة عبر القنوات الرسمية، وإلغاء الاعتماد على السوق السوداء التي تفاقم الخسائر، كما ينبغي توسيع أنظمة الدفع الرقمي وتسهيل استخدامها للمواطنين العاديين، مع ضمان حماية الودائع واستعادة الثقة بين البنوك والمجتمع.
وتجدر الإشارة إلى أنه بدون سيولة حقيقية، ستبقى البنوك “تعمل من دون أن تعمل”، وسيبقى الاقتصاد الغزي يواجه شللاً كبيراً يعرقل كل فرص التعافي، بحسب مراقبين.














