تتجه تونس في مشروع قانون المالية لسنة 2026 إلى الاعتماد بشكل متزايد على التمويل الداخلي لتغطية احتياجات الميزانية، في إطار خطة لتقليص الاقتراض الخارجي الذي بات يثقل كاهل المالية العمومية ويزيد تبعية البلاد للمؤسسات المالية الدولية.
تخطط الحكومة خلال العام القادم لتعبئة الجزء الأكبر من حاجيات التمويل عبر السوق المالية المحلية، من خلال إصدار رقاع خزينة واستقطاب البنوك وصناديق التأمين والمؤسسات العمومية للمساهمة في تمويل العجز.
ويأتي هذا التوجه في سياق سياسة “التعويل على الذات” التي تهدف إلى الحد من المخاطر المرتبطة بتقلبات الأسواق الخارجية وشروط الإقراض الصارمة التي يفرضها المقرضون الدوليون، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي. وأخيرًا، أعلنت الحكومة عقب مجلس وزاري عن حزمة إصلاحات مالية سيتم إدراجها في مشروع قانون المالية لسنة 2026.
وقالت الحكومة وفق منشور على صفحتها الرسمية على “فيسبوك” إن الإصلاحات الهيكلية سترتكز على تكريس مبدأ التعويل على الذات واستقلال القرار الوطني من خلال تعبئة الموارد الوطنية وحسن توظيفها وضمان الإيفاء بكل التزامات الدولة الداخلية والخارجية.
ووفق بيانات رسمية لوزارة المالية، نجحت تونس هذا العام في السيطرة على الدين الخارجي وخفض نسبته ضمن تركيبة الدين العام إلى 50% مقابل 70% سنة 2019.
وتواجه سياسات السلطة بالاستغناء عن الاقتراض الخارجي انتقادات بسبب الضغوط على مصادر التمويل الداخلي واللجوء المكثف إلى التمويل المباشر للموازنة من خزينة البنك المركزي، رغم عدم توافق هذا الإجراء مع القانون الأساسي للبنك المركزي الذي يمنع الاقتراض المباشر من خزينته.
يرى الخبير المالي زياد أيوب أن توجه السلطات نحو مواصلة التعويل على الموارد الداخلية لتمويل الموازنة يعكس رغبة الدولة في الحفاظ على سيادتها الاقتصادية، خصوصًا بعد تعثر المفاوضات مع صندوق النقد الدولي خلال السنوات الماضية بسبب الخلاف حول شروط الإصلاح.
وقال أيوب في تصريح لـ”العربي الجديد”، إن “الاعتماد على الاقتراض الداخلي قد يوفّر للدولة مرونة أكبر في حوكمة الدين الخارجي ويحفز الاقتصاد المحلي لتحسين تغطية السوق بالمواد المصنعة محليًا وتقليص الواردات المستنزفة للعملة الصعبة”.
واعتبر أيوب أن خيار التعويل على الذات وتمويل الموازنة من الموارد الداخلية أثبت نجاعته خلال العامين الماضيين، ما نتج عنه تحسين لتصنيف تونس من قبل وكالات التصنيف الدولية.
وقال: “أظهرت مراجعة تصنيف تونس من قبل وكالات مثل (فيتش) و(موديز) اتجاهًا إيجابيًا للاقتصاد المحلي، وهذا التحسن مدفوع بالتحسن في إدارة الديون الخارجية وتقلص العجز الجاري واستقرار احتياطيات النقد الأجنبي”.
ويعتقد الخبير المالي زياد أيوب أن القطاع المالي في تونس لا يزال قادرًا على تلبية حاجيات الموازنة، مشددًا على ضرورة مراجعة القانون الأساسي للبنك المركزي من أجل رفع موانع النفاذ المباشر للاقتراض وتوفير الموارد الكافية للخزينة.
أظهرت بيانات البنك المركزي التونسي أن البنوك التونسية سجلت خلال السنة الحالية تسارعًا ملحوظًا في وتيرة تمويلها للدولة، حيث بلغت القروض المسندة للقطاع العمومي إلى غاية نهاية أغسطس/ آب 2025 زيادة سنوية بنسبة 37.5% مقارنة بالفترة ذاتها من سنة 2024، وهي الزيادة الأعلى منذ أكثر من خمسة عشر عامًا.
هذا التوسع في التمويل البنكي لفائدة الدولة انعكس بوضوح على هيكلة الميزانيات البنكية، حيث أصبح الائتمان الموجه للدولة يمثل 17.9% من إجمالي أصول البنوك التونسية بنهاية شهر أغسطس/ آب الماضي مقابل 14.3% فقط في التاريخ نفسه من العام الماضي، و12.3% عام 2021.
رغم أن هذا الخيار يُعد أقل كلفة من حيث المخاطر السياسية، إلا أنه يطرح تحديات على المدى المتوسط، خاصة في ما يتعلق بقدرة النظام البنكي على تلبية الطلب الحكومي المتزايد على التمويل دون التأثير على النمو الاقتصادي وفق البنك الدولي.
وحذّر البنك الدولي من أنه في حال استمرار الضغط على التمويل الخارجي في غياب خيارات تمويل خارجي كافية، فقد تُجبر السلطات على اللجوء مجددًا إلى الاقتراض بالعملة الأجنبية من البنك المركزي. وتوقع البنك الدولي أن يصل النمو الاقتصادي التونسي إلى 2.6% في عام 2025، مقارنة بـ1.9% المُقدّرة في مايو/ أيار الماضي.
كما توقع أن يتباطأ النمو التونسي إلى 2.5% في عام 2026، ثم إلى 2.2% في عام 2027، بسبب محدودية فرص الحصول على التمويل الخارجي، وارتفاع مستويات الدين، والمخاطر المالية التي لا تزال تثقل كاهل الاقتصاد.
العربي الجديد