عبد الغني طليس
تهديدات أفيخاي أدرعي ، وتنفيذ الطيران الحربي اليهودي تهديداته بالتدمير والقتل يومياً ، يصرف نظرَنا عما يجري على الحافة الأمامية من حدودنا مع الدولة العبرية الفاجرة : أربعمائة مقاتل (فقط!) يقفون أقوى من السدّ العظيم ويمنعون جيش إسرائيل من التقدم خطوة إلى تراب لبنان . وإذا تقدّموا فإن تقدّمَهُم يصبح كميناً ينقضّ فيه المقاومون على وحدات النخبة العسكرية فيكبدونها بين كل صباح وليل ما يفوق الثلاثين جندياً بين قتيل وجريح ، والرقم لبيانات العدوّ نفسه .
نتنياهو الذي يُمطر لبنان وشعبه شتى أنواع الصواريخ والقنابل الفوسفورية ويصل من الناقورة إلى أطراف الهرمل الشمالية مروراً بالسهل والجبل وضاحية بيروت ، هناك أربعمائة مقاتل من “حزب الله” يشكلون شفرة حادة في حلْقهِ ويخنقونه مع جنوده عند الحافة الأمامية من الوطن .
نتنياهو الذي أسكتَ العرب بلداً بلداً ، وتنتظر إيران ضربتَه “الآتية لا ريب فيها” والتي يتأنى في اختيار أهدافها بين نووية أو مدنية أو عسكرية ، هناك أربعمائة مقاتل يقاومُه عند الخط الأزرق اللبناني اليتيم الأبوين ويكسرون أرجل رجاله المشاة ورؤوسَ المتمرسين في الدبابات ، ويحطمون حلمه بالدخول إلى “جنوب الليطاني”.
نتنياهو الذي لا يردّ على أحد في العالَم ، فيهاجم فرنسا ويركل رئيسها ، ويُطنّش على توصيات الرئيس الأميركي وتنبيهاته ، ويضع الأمم المتحدة على رأس إصبعه الوسطى غروراً ، ويريد أن توافقه دول الكون على حربه غير المعروفة الأهداف بعد اختلاط كبيرها بصغيرها بالمقمّط بسريرها ، يقف حائراً قلقاً غاضباً مستنفراً ويائساً أمام أربعمائة مقاتل أعاروا جماجمهم لله كما تقول الآية ، ولا يعلم من أين يطلعون له ، من تحت التراب أم من فوقه ، من وراء البيوت أم من الأنفاق ، من الهواء أم مع الغيم ويطوقون جنوده ويضربونهم بالحديد والنار والإرادة البطلة .
كل ذلك التشاوف الأسطوري الذي يُبديه نتنياهو محكوم بالانحناء أمام هؤلاء الأربعمائة مقاتل . ويعرف كل من قرأ ودرَس وتعلّم تجارب الحروب على وجه الأرض أن القتال من “السماء” يهدّم ويدمّر ويقتل ويعيث فساداً وخراباً ، لكنّه لا يُصرَف في النتائج العسكرية والسياسية إلا إذا اقترن بالأرض . وليس هناك أحمق يظن أن نتنياهو كان يمكن أن يتوقف عند حد في الجنوب لو استطاع التقدم ليفرض شروطه المجلجلة . و”جنوب الليطاني” كان سيتجاوزه إلى الشمال مظفّراً . الآن ، لا يستطيع تقديم إنجاز لجمهوره ولشعب إسرائيل ولكل مشجّعيه شرقاً وغرباً ، ذلك أن الأرض بقيَت عصيّة عليه . الأرض في الجنوب أحرقت أعصابه . أحرقت جنوده . أحرقت مشاريعه . أحرقت تخطيطه لإيصال رئيس جديد للجمهورية على الدبابة . ولا حتى على الدبابة السياسية . فالدبابات من جميع الأنواع معطلة عند الحدود ، وتفكير نتنياهو بالبدائل معطل أيضاً لأن أيدي المقاومين في الجنوب تشدّ على خِناقه ، ولن يحصد شيئاً من تخاريصه السياسية والعسكرية التي راكمَها خلال الشهر الأخير والتي ظنّ أنها ستكون طوع بنانه . وإذا كانت الهدنة لواحد وعشرين يوماً ستأتي ، فستأتي بفضل ثبات رجال الله على الحدود .
أوَليس قصف المباني السكنية الكبرى التي لا شيء فيها لحزب الله ، تعبيراً عن خنقةٍ لدى نتنياهو الذي لا يحب أن يبقى أي كبير (بما فيها المجمّعات السكنية ) في الضاحية ؟
أوَليس ضرب مكتب قناة “الميادين” تجسيداً لخنقةٍ معنوية تامة يعاني منها نتنياهو فما عاد يحتمل محطة تلفزيونية تناهضه وتناصبه العداء ، وتواجه مع المقاومين على أرض الجنوب الطاهرة فِرَق جيشه الذي انتصر في “الفضاء” وهُزم في القتال المباشر ؟
أوَليس قصف بلدة كفركلا بخمسمائة غارة جوية ( كما قال معلّقون يهود) لتنظيفها من أي مقاومة ، والاطمئنان أنها دانت للجيش الاسرائيلي ، وحين حاول الدخول إليها خرجوا له “أشرف الناس” وفتكوا بعناصره الذين هبّت سبع طائرات هليكوبتر لنقلهم إلى مستشفيات الداخل الإسرائيلي ؟
يحار المرء كيف يعمل هؤلاء الأبطال ، أين يتموّهون وكيف يهاجمون ويعودون ، وماذا يأكلون وماذا يشربون ، وما هي ماهية تلك الأنفاق التي يسبحون فيها ، ومنها يدخلون ويخرجون وطائرات التجسس فوقهم ؟
سيذكر التاريخ هذه الحرب ، وسيقول إن كبرياء نتنياهو وجبروته وسلطانه ضُربَت بالإعاقة والتحطيم على أعتاب تلك الحافة السحرية حقاً في الجنوب ، و بأربعمائة مقاتل فقط لا غير أمام ست فِرَق عسكرية تبلغ سبعين ألفاً ؟