تقع المصارف الليبية، سواء كانت بنوكاً خاصة أو حكومية، في قلب الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بالبلاد منذ ما يزيد عن عشر سنوات.
ومع استمرار الصراع بين الفصائل المتناحرة والتنافس على السلطة بين الحكومات المتعاقبة، تفاقم الوضع المالي بشكل خطير وزادت المخاوف من تفاقم الفساد في القطاع المصرفي. وفي خضم الصراع السياسي الحاد بين الأطراف المتنازعة في ليبيا، يعاني مصرف ليبيا المركزي من أزمة غير مسبوقة، تعكس مدى عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد.
ومنذ بداية النزاع بين المجلس الرئاسي وحكومة عبد الحميد الدبيبة من جهة، ومجلس النواب ومجلس الدولة من جهة أخرى، أصبح المصرف المركزي ساحة جديدة لصراعات السلطة وانقسامات السياسة.
تراجع الثقة في النظام المصرفي
نتيجة لذلك، تراجعت الثقة في النظام المصرفي، سواء من قبل المتعاملين معه، أو الأطراف الخارجية من تجار ومراسلين، وارتفعت معاناة المواطنين الذين يواجهون نقصاً حاداً في السيولة، وتدهوراً في قيمة الدينار الليبي، وتراجع مستوى الخدمات المصرفية المقدمة.
عن أسباب هذا التراجع أكد المحلل الاقتصادي، عادل المقرحي، لـ”العربي الجديد” أن “استخدام مصرف ليبيا المركزي أداة في الصراع السياسي يعقد الأزمة.
والأطراف المتنافسة تستخدم السياسات المالية لتحقيق أهداف سياسية ضيقة، مما يضر بالاقتصاد الوطني، ويزيد من معاناة المواطنين”. وأشار إلى أن تحويل الأموال إلى المنطقة الشرقية وتجميد المقاصة بين الشرق والغرب المستمر منذ أكثر من عشر سنوات، يفاقم من المشكلة.
وأوضح المحلل الاقتصادي أن توزيع كميات كبيرة من الأوراق النقدية المطبوعة بشكل غير قانوني، والمصنفة من قبل “مركزي” طرابلس بأنها مزورة، زاد من الطلب على الدولار في السوق الموازي، مما ساهم في تآكل قيمة الدينار الليبي، وانخفاض القوة الشرائية، فضلاً عن طباعة عملة مزورة نهاية عام 2023، ودخلت إلى الأسواق.
معاناة من الفساد
إلى جانب النزاع السياسي، يعاني القطاع المصرفي في ليبيا من فساد مستشرٍ. في السياق، يقول عبد الناصر المليودي، المحلل المالي إن “الفساد المستشري في مؤسسات مثل مصرف ليبيا المركزي لا يؤدي فقط إلى إهدار الموارد، بل يعوق أيضاً أي جهود لتوحيد النظام المصرفي وتحقيق الاستقرار النقدي”.
ويضيف أن الفصائل المتصارعة بين شرق وغرب ليبيا تستغل هذا الوضع، لتعزيز نفوذها على حساب استقرار النظام المالي، مما أدى إلى تدهور الوضع المالي في البلاد.
في الغرب، فتحت حكومة الوحدة الوطنية الخزائن على مصراعيها خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث صرفت أموالاً تفوق حجم الموازنة بنسبة 66%، دون تحقيق أي تنمية حقيقية. بينما في الشرق، لجأت الحكومة المكلفة من مجلس النواب إلى الاقتراض من المصارف التجارية، مما أضر بسلامتها المالية.
وأدى ذلك إلى خسارة خمسة مصارف، مما دفع المصرف المركزي إلى رفع رؤوس الأموال لإنقاذها من الإفلاس.
وللأزمة المصرفية في ليبيا تأثيرات وخيمة في حياة المواطنين، حيث إن نقص السيولة وارتفاع التضخم أثرا سلباً بالقدرة الشرائية للمواطنين، بينما تواجه الشركات صعوبات كبيرة نتيجة تدهور قيمة العملة المحلية. كما أصبح النظام المصرفي ساحة لتصفية الحسابات السياسية، حيث يجري استخدام تجميد الحسابات وتقييد التحويلات أدوات لإضعاف الخصوم السياسيين، بالإضافة إلى التحكم في أسعار الصرف، لتحقيق مكاسب سياسية، على حساب استقرار الاقتصاد.
تأثيرات النزاع السياسي
منذ عام 2014، يعيش مصرف ليبيا المركزي حالة من الانقسام بين فرعين متنافسين: واحد في طرابلس وآخر في بنغازي، ولكل منهما سياساته النقدية الخاصة. هذا الانقسام العميق أدى إلى اضطراب المعاملات المالية وصعوبة الوصول إلى السيولة، ما زاد من معاناة الاقتصاد الليبي المترنح.
في هذا السياق، يقول المحلل الاقتصادي حسين البوعيشي لـ “العربي الجديد”: تجزئة مصرف ليبيا المركزي هي إحدى العقبات الرئيسية أمام الاستقرار المالي في البلاد. والانقسام بين طرابلس وبنغازي يعمق الأزمة، ويعزز الفجوة الاقتصادية بين شرق وغرب البلاد”. ورغم توحيد إدارة المصرف في عام 2023، فإن النزاع السياسي لا يزال يلقي بظلاله على العمليات المالية. ووفقاً للبوعيشي، فإن الأزمة عادت للظهور مع انقلاب المجلس الرئاسي وحكومة الدبيبة على إدارة المصرف.
وأشار إلى أن “صراع السلطة على المال بعد إقرار موازنة ضخمة لمجلس النواب بقيمة 179 مليار دينار (الدولار = 4.8 دنانير)، أدى إلى تطورات كبيرة في القطاع المالي، وزاد من تعقيد الأوضاع الاقتصادية. في عام 2014، ألغى محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، تحويلاً مالياً بقيمة 80 مليون دينار لحساب مجلس النواب، مما يعكس عمق الخلافات والتلاعبات داخل النظام المصرفي الليبي.
وتاريخ الصراع المالي في ليبيا مليء بالتوترات، إذ عارضت القوى الشرقية، بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، قيادة الصديق الكبير في مصرف ليبيا المركزي منذ عام 2014. ولكن مع تزايد الجهود لتوحيد مؤسسات الدولة بعد سنوات من الحرب، برزت نزاعات جديدة بين الكبير والإدارة في طرابلس، مما زاد من تعقيد الوضع المالي.
وفي نهاية عام 2017، قامت الكتيبة رقم 106 بقيادة صدام خليفة حفتر بالسيطرة على فرع مصرف ليبيا المركزي، وسط مدينة بنغازي، ونقل كمية كبيرة من النقود والفضة إلى جهة مجهولة.
وأكد تقرير مقدم إلى مجلس الأمن، في 5 سبتمبر/ أيلول الجاري، أن محتويات الخزينة التي صادرتها كتيبة 106 بقيادة صدام خليفة حفتر، تقدر بنحو 639 مليوناً و975 ألف دينار ليبي، و159 مليوناً و700 ألف يورو، ومليون و900 ألف دولار، إضافة إلى 5869 عملة فضية.
ووفقاً لتقرير فريق الخبراء المعني بليبيا، فقد أشار عدد من مديري المصرف المركزي إلى أن قادة جيش حفتر ضغطوا عليهم بشدة للحصول على النقد وخطابات الائتمان، وقد قرر بعضهم المغادرة إلى الخارج لأسباب أمنية.