د. حسن أحمد حسن*
تساؤلات كثيرة تراود أذهان جميع المهتمّين بتطوّر الأحداث وتداعياتها في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم؟ فإلى متى يبقى مستقبل المنطقة ومصير شعوبها مرهوناً بنزعة القتل والتدمير وسفك الدماء المهيمنة على حكام تل أبيب وداعميهم الذين لا يهتمّون بقانون دولي، ولا بأية قيم أو أعراف سماوية ولا أرضية؟ وهل ثمة ما يطمئن الدولة العميقة إلى أن الاشتباك سيبقى مضبوط الإيقاع على الرغم من ارتفاع التوحش والعدوانية الإسرائيلية إذا كانت واشنطن حريصة فعلاً على عدم اشتعال المنطقة وتوسع ألسنة اللهب التي ستؤدي بالضرورة إلى حرب إقليمية، وقد تتجاوز الحدود الإقليمية؟ وإذا كانت أطراف محور المقاومة على يقين بأنّ الاستعصاء المزمن منذ عقود في طريقه إلى مزيد من التعقيد واختلاط المدخلات المتناقضة فهل يستمرّ إلى ما لا نهاية التعامل بالردّ مضبوط الإيقاع على الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تستثني أحداً من أطراف محور المقاومة؟ وماذا لو خرجت الأمور عن السيطرة واشتعلت المنطقة فعلاً؟ وما مدى قدرة كل طرف من أطراف الصراع على التعامل مع التداعيات وتحمّل تكلفة الذهاب نحو الهاوية، وإن لم يكن ذلك مطلوباً؟
الإجابة على أيّ من التساؤلات المذكورة سابقاً استناداً إلى معلومات مطمئنة يكاد يكون شبه مستحيل، والاستناد إلى التحليل بمختلف مدارسه ومناهجه وأسسه ومنطلقاته المعروفة حتى الآن، ومهما بلغت دقته وحرص من يقدّمه يبقى ناقصاً ومبتوراً وعاجزاً عن تقديم إجابات شافية، وهذا يعني إبقاء الجميع بحالة من القلق والتوتر والاستنفار، وهو أمر مرهق للأفراد والدول والشعوب على شتى الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية، وهنا ندخل في التقاطع بين الحرب بمفهومها الشامل وبين الحرب على الوعي وطرائق التفكير، وهي القسم الأخطر من الحرب المركبة المفروضة على المنطقة، وخير شاهد على ذلك ما يعيشه الجميع من تداعيات عالية الخطورة جراء إصرار حكام تل أبيب على رفع مستوى العدوانية والإجرام، ونسف كلّ السقوف التي قد تخطر على الذهن، وهنا يجد الباحث نفسه أمام تناقض عميق يصعب فهم مكوناته، فكل ما يصدر عن حكومة الثلاثي نتنياهو ــ سموتريتش ـــ بن غفير يشير إلى التوجه والعمل بكل السبل لتصدير أزمات الداخل الاستيطاني الضاغطة، والتنفيس عنها بالجملة عبر الانتقال إلى حرب شاملة تكون واشنطن شريكاً كاملاً في كل تفاصيلها، ولا ضير عند ذلك إن أبقت الإدارة الأميركية الحالية أو المقبلة لوحة التحكم بين يديها، وتفرّدت بمسؤولية الزعامة والقيادة، وتوزيع الأدوار والمهام ومستوى المسؤوليات، انطلاقاً من أن تل أبيب وصلت إلى حائط مسدود، وبالتالي هي تعيش الأسوأ، وليس بعد هذا الأسوأ إلى التفكك والعودة القسرية للتعايش مع المجتمعات الأصلية التي تركها المستوطنون قبل توجههم إلى الكيان المفروض على الجغرافيا الفلسطينية، وهذا السيناريو ليس ترفاً فكرياً ولا تعبيراً عن أمنيات ورغبات دفينة، بل نتيجة متوقعة وشبه حتمية لواقع يقول: لا إمكانية لتجاوز واقع العجز عن الحسم وتحقيق الأهداف إلا بإشعال المنطقة كلها وليكن ما يكون، فالأسوأ الذي لم يكن يخطر على الذهن حقيقة قائمة يعيشها الكيان بكل مكوناته مستوطنين ومسؤولين مدنيين وعسكريين، فمع كل فصل جديد يهندس معالمه الفكر الصهيوني الشيطاني وينتهي بالفشل عن بلوغ المطلوب تجد حكومة نتنياهو نفسها تقترب أكثر فأكثر من خيار “شمشوم ــ عليّ وعلى أعدائي” ولا أحد يستطيع نكران حقيقة أنه لا إمكانية اليوم لتحقيق الأهداف التي تم الإعلان عنها بعد مضي قرابة عام من حرب الإبادة الجماعية والتهجير القسري المعلن ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، والأمر ذاته ينسحب بشكل أو بآخر على المواجهة المفتوحة مع حزب الله حيث تؤكد معطيات الواقع الميداني أن الحزب استطاع أن يفرض قواعد الاشتباك، ويمنع الإسرائيلي وداعميه من تغييرها، أو إدخال تعديلات عليها من جانب واحد، فكيف يمكن الحديث ضمن هذا الواقع عن اعتماد إستراتيجية جديدة وفق منطق نتنياهو لإعادة ضبط الميدان ومسارح العمليات بما ينسجم ونزعة عدوانية لا تملك مقومات النصر، كما لا تملك متطلبات الاستمرار بحالة الاستعصاء غير القابل للحل، وهذا يفسر الحرص على نقل آلة القتل والتدمير باتجاه الضفة الغربية من دون التفكير بالنتائج، فالهدف المعتمد وإن لم يتم الإعلان عنه هو تفادي تفكك روافع الكيان القائم، ومحاولة تعميم منهج القتل والإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة، لعل في ذلك ما قد يحمل بارقة أمل بمسارعة المايسترو الأميركي إلى رفع سقف التهديدات مع إمكانية الانتقال إلى خطوات عملية تقنع أطراف المقاومة بأن البديل هو دمار المنطقة بكليتها، وهذا ما لا يتمناه أحد، لكن في الوقت نفسه أصبح من المسلمات لدى جميع أطراف المقاومة أن الذهاب في هذا الخيار الأسوأ هو أفضل بكثير من الخوف والتردد والتفكير بإمكانية القبول بالممكن المتاح اليوم خوفاً من تبخر هذا الممكن غداً، فأميركا ومن معها ليست قدراً، وأخطار مشروع النيوليبرالية الجديدة بزعامة واشنطن لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من الاقتراب من نهاية التاريخ وفق الرؤية الأميركية والنزعة العنصرية الفوقية التي تحكم كل من ينضوي في ما يسمونه” الدولة العميقة”، ومن الطبيعي أن القوى الإقليمية والدولية الصاعدة هي اليوم أكثر أهلية وكفاءة للانتقال بالعالم إلى نظام دولي جديد، وقبل ذلك لا بد من إتمام مراسم دفن الأحادية القطبية.
في ضوء هذا الفهم لحقيقة ما يجري من أحداث وتطوراتها وتداعياتها المحتملة يمكن قراءة التصعيد العدواني الإسرائيلي ضد الدولة السورية، ورفع سقف الاستهداف المباشر ليل 8/9/2024م. وهذا ما أدى إلى ارتقاء /18/شهيداً و/37/ جريحاً، إضافة إلى أضرار مادية كبيرة في البنى التحتية في أكثر من موقع غرب حماة، وبعيداً عن الدخول في التفاصيل يمكن الإشارة هنا إلى بعض النقاط التي لها علاقة بالتوقيت والأهداف بما قد يساعد على فهم أفضل للوحة الكلية التي ما تزال قيد التشكل المفتوح على شتى الاحتمالات المتراوحة بين السيّئ والأسوأ لمحور العدوان، وبين الممكن والأفضل لمحور المقاومة:
*العدوان جزء من الحرب الصهيو ـــ أميركية على المحور المقاوم بكل أطرافه ومكوناته، وهذه الحرب المفتوحة بكليتها جزء من مشروع السيطرة الكونية وفق مقولة “نهاية التاريخ”، وقد ارتطم هذا المشروع بإرادة من يرفضون الإذعان والتبعية، ويتمسكون بحقوقهم، ويمتلكون الإرادة لدفع ضريبة السيادة مهما ارتفعت، وتم إحراز نتائج إيجابية دفعت بقية القوى الأكثر قدرة وفاعلية على رفع الصوت في وجه الغطرسة الأميركية التي لم تكن تقيم وزناً لأحد في العالم.
*القرائن الأولية الدالة على عدم جدوى نقل الأعمال القتالية من قطاع غزة إلى الضفة الغربية، وتكرار التعثر في مصادرة إرادة الفلسطينيين في الضفة، فالنتائج التي ظهرت حتى الآن غير مشجعة، لا بل تحمل الكثير من المؤشرات السلبية المبشرة بإمكانية اندلاع انتفاضة شاملة في الضفة وأراضي 48 مما يضيف خيبة جديدة إلى مكدس الخيبات الإسرائيلية المتتالية وبسقوف مفتوحة تتناسب طرداً مع العدوانية الإسرائيلية المنفلتة من كل عقال.
*العملية البطولية التي نفذها البطل الأردني ماهر الجازي ابن عشيرة الحويطات العربية الأردنية الأبية، ونجاحه في قتل ثلاثة جنود أمنيين صهاينة بمسدس فردي تحمل الكثير من الدلالات والمعاني، ولا يمكن النظر إليها على أنها عملية فردية، بل هي تعبير عن الروح الشعبية التي تسكن غالبية أبناء المنطقة بعيداً عن أجندات الأنظمة الحاكمة، وهذا يعني إضافة تحدّ جديد في الحرب الدائرة التي يفقد الداخل الاستيطاني الإسرائيلي أيّ أمل بإمكانية إحراز النصر فيها، بل يتجه نحو مزيد من اليقين بحتمية الخسارة في هذه الحرب التي وصفها نتنياهو بأنها وجودية.
*زيادة الضغط الذي تشكله جبهة البحر الأحمر على الكيان الإسرائيلي، وتبلور ذلك بوضوح بالإعلان عن انسحاب أميركي شبه كلي من مياه البحر الأحمر، وهذا كفيل بتخصيص جزء من القدرات اليمنية لتوسيع دائرة حظر مرور السفن إلى الموانئ الإسرائيلية، وبقاء حتمية الرد اليمني على العدوان الإسرائيلي على الطاولة، واحتمال البدء بتنفيذها في أي وقت.
*السقف المجهول لطبيعة الردّ الإيراني الحتمي أيضاً، وبقاء الداخل الإسرائيلي في حالة من الاضطراب والتوجس والخوف والقلق والاستنفار، وكل هذا يرهق الكيان جيشاً ومستوطنين، بالتزامن مع زيادة الشروخ الداخلية وحالة التشظي والانقسام المتفاقمة في الداخل الإسرائيلي مع غياب أية بوادر لإمكانية تفادي الغرق في مستنقعات قاتلة تنتشر على كامل الجغرافيا الفلسطينية، وبخاصة في الشمال، وزيادة عمق المستوطنات التي تعطلت فيها الحياة الطبيعية بفضل قدرة حزب الله على تحديد قواعد الاشتباك وفرض ما يناسبه منها.
*غليان الداخل الاستيطاني ووجود أكثر من نصف مليون متظاهر في شوارع أهمّ المدن والبلدات بما فيها تل أبيب، فضلاً عن حالة أقرب ما تكون إلى التمرّد في صفوف الجنود الذين يرفضون تلبية الدعوات الاحتياطية الجديدة، بالتزامن مع زيادة نفوذ تيار بن غفير ــ سموتريتش، وتصاعد حمى تبادل الاتهامات بين أفراد الصف الأول من المسؤولين الإسرائيليين.
*على الصعيد الإقليمي تتضح معالم جديدة لتآكل فاعلية الأطراف المنضوية في حظيرة التطبيع اللا مجدي، وتراجع حماسة من كان بدأ مسار التطبيع، واستبدال كلّ ذلك بالتريث الحذر.
*الأمر ذاته يمكن أن ينسحب على الساحة الدولية، حيث التراجع الملحوظ في قدرة واشنطن على فرض أجنداتها على مختلف جبهات الاشتباك الدولية، وهذا مؤشر سلبي يفقد الداخل الإسرائيلي ما تبقى من روح معنوية لدى بعض مكوناته، ويبدد الأمل بتغيير معالم الصورة التي تزداد قتامة.
*الهروب من كلّ ما ذكر أعلاه قد يكون ممكناً بزيادة الإحساس بالخطر الوجودي، وهذا يتطلب تنفيذ خطوة توحي بإمكانية اشتعال المنطقة بأسرع مما قد يخطر على الذهن، ولعل صنَّاع القرار الإسرائيلي والأميركي اقتنعوا بفكرة جدوى “تصعيد العدوان على الداخل السوري” لتخويف الجميع من المجهول المتسارع الذي لا يستثني أحداً من أخطاره وكوارثه، وهذا يفسّر تصاعد حمى الاحتلال الأميركي وتعزيز القواعد العسكرية على الجغرافيا السورية بالمزيد من المعدات والأسلحة ووسائط الصراع ذات الطاقة التدميرية العالية.
*استهداف الدولة السورية يعني إلحاق الأذى بواسطة عقد المقاومة، والتهويل بإمكانية اشتعال المنطقة، ومن العبث التفكير بأية أهداف أخرى يتم تسويقها، بعد أن تم نسف كل السردية التي تحدثت عن أهمية وجدوى ما أسموه: “المعركة بين الحروب” فبعد ثلاثة عشر عاماً ثبت للجميع الفشل الذريع في منع وصول ما يجب أن يصل إلى بقية أطراف المقاومة.
باختصار شديد وتكثيف يمكن القول: إنّ رفع سقف العدوان الإسرائيلي على الداخل السوري جزء من الحرب النفسية والحرب على الوعي وطرائق التفكير، وهي تستهدف الداخل الاستيطاني الإسرائيلي لفرملة الانهيار ووقف ما أمكن من التشظي والانقسام والخوف من المجهول، وتسويق صورة خادعة تقول: إنّ الجيش الإسرائيلي ما يزال قادراً ومؤهلاً لخوض حرب شاملة على عدة جبهات، وهذا يتطلب رص صفوف الداخل الاستيطاني، بدلاً من الانقسام الذي يهدد وجود الكيان برمته، والرسالة الأخرى التي يحملها التصعيد وتوسيع دائرة الاستهداف واشتداد وتيرته موجهة لسورية أولاً ولبقية أقطاب محور المقاومة ومضمونها يقول: أميركا وكلّ من يدور في فلكها مع حكومة نتنياهو المستعدة لإشعال المنطقة حتى وإن كان ذلك يحمل تهديدات وجودية لجميع الأطراف دونما استثناء، والقراءة الموضوعية لمثل هذه الخلاصة تقود إلى اليقين بأنّ النتيجة المتوقعة لمثل هذه التهديدات القديمة الجديدة لن تكون إلا الفشل كما سبقها من فصول هذه الحرب المزمنة، ويبدو أنه آن لها أن تصل إلى خواتيمها الموضوعية.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية