البندقية | بعد ظهر حار في جزيرة ليدو في البندقية، في صالة كورينتو، إحدى الصالات التي تعرض أفلام «مهرجان البندقية السينمائي»، خيّمت روح المخرج اللبناني مارون بغدادي (1974 – 1993)، عبر فيلم «وعاد مارون إلى بيروت» (عرض ضمن تظاهرة «كلاسيك» في المهرجان) للّبنانية فيروز سرحال. قبل عرض الفيلم، تحدّث فيديريكو جيروني مبرمج قسم «كلاسيك» في المهرجان عن الفيلم قليلاً وعن مارون بغدادي. أثناء الحديث، سأل فيديريكو الحاضرين إن كانوا يعرفون مارون بغدادي أو شاهدوا فيلماً له. قلّة رفعت يدها. ثم تحدثت المخرجة فيروز سرحال، والمنتجة سينتيا شقير، وبدأ العرض، في الصالة الصغيرة شبه الممتلئة. قبل العرض، لم يكن إلا عدد قليل جداً من الحاضرين يعرف صاحب «بيروت يا بيروت»، وبقي الأمر كما هو عليه بعد مشاهدة الفيلم. لم يقدم العمل أي جديد لمن يعرف المخرج الراحل، ولم ينجح في بناء صورة واضحة لمن لا يعرفه. من يعرف مارون بغدادي، سوف يقتله الضجر، ومن لا يعرفه لن يفيده الفيلم في شيء.
بدأ «وعاد مارون إلى بيروت»، بصعود سرحال درج «بناية سماحة» في منطقة التباريس، حيث تعثّر وسقط مارون بغدادي وتوفي. ثم استقلت سيارتها المكشوفة، التي تشبه سيارة مارون، وبدأت تتجول في شوارع بيروت شبه الخالية، بينما تخبرنا عن مارون، ولبنان الحرب الأهلية وصولاً إلى يومنا هذا، مروراً بكل ما حدث بطريقة مقتضبة جداً. ثم تخبرنا بأنها مخرجة هذا الفيلم! أثناء تنقّلها، صعد في السيارة معها أصدقاء مارون، الواحد تلو الآخر، جلسوا في مقاهي بيروت، بدءاً بالكاتب والروائي اللبناني حسن داوود، ثم الكاتب والمؤرخ فواز طرابلسي، فثريا خوري بغدادي، والمخرج إيلي أضباشي، والمخرجة والفنانة المعاصرة جوانا حاجي توما. جميعهم تحدثوا عن مارون كأصدقاء، وشركاء حياة ومخرجين عايشوا سينما مارون ولبنان في ذلك الوقت. هذا هو هيكل الفيلم الأساسي. أثناء الأحاديث، تعرض سرحال مقاطع من أفلام مارون، ومقابلاته، وتسلّمه لجائزة لجنة التحكيم في «مهرجان كان» (عن فيلمه «خارج الحياة» ــ 1991)، بينما تضع على الشاشة بين الحين والآخر أقوالاً لمارون، وتقرؤها لنا.
ذُكر الكاتب والصحافي الراحل ومؤسس «الأخبار» جوزيف سماحة أكثر من مرة في الفيلم، على لسان حسن داوود وفواز طرابلسي. قالا إنه هو الذي عرّفهما إلى مارون بغدادي. في عام 1996، أنجز سماحة كتاب «قضاء لا قدر، في «أخلاق» الجمهورية الثانية» الذي اتخذ من واقعة موت مارون بغدادي مدخلاً للحديث عن الحريرية ولبنان في زمن الجمهورية الثانية. كتاب صغير ينتهي بساعتين من الزمن، وهي مدة الفيلم تقريباً، محمّل بالكثير من الأفكار وفيه أيضاً محضر التحقيق في وفاة بغدادي. مارون بغدادي الذي تمكّن من توثيق أهم مرحلة من تاريخ لبنان الحديث، التي حملت صورته قضايا لا تُحصى عن المفاهيم والانتقادات والتطلعات للبنان والحرب، يستحق فيلماً أهم من الذي شاهدناه. سينماتوغرافيا بغدادي تشمل ثمانية أفلام طويلة و13 فيلماً وثائقياً وعشرات الأفلام القصيرة وعدداً من تسجيلات الفيديو، اختصرتها سرحال في ساعتين، فيها الكثير من الكلام غير الضروري من ضيوف سرحال في السيارة، ليس لأنّ الكلام غير مهم، بل لأن الحديث بدا كأنه مجتزأ، ناقص، أخذت منه سرحال ما تريده وتركت لنا الفتات. لم تتمكّن من تقديم فيلم يُحاكي مارون، بل قدمت رؤية مجزأة، من وجهات نظر عدة، ومن دون الغوص بعمق في أي شيء. استخدمت انبهارها «البارد» بمارون، وحاولت أن تهزّها وأن تقدم شيئاً مفيداً، لكن انتهى بها المطاف من دون الأمرين. لقد أرهقتنا على مدى ساعتين، وخصوصاً في الدقائق الخمس عشرة الأخيرة، إذ جمعت بعضاً من طلاب السينما في لبنان وبعض المخرجين والمخرجات والعاملين في السينما اللبنانية، ليتحدثوا عن واقع مارون وواقع لبنان والسينما اللبنانية. حديث مرهق، يمكن أن يكون مفيداً ضمن حلقة حوارية مباشرة، ولكن ليس على شاشة سينما صوب نهاية فيلم!
المشاركة العاطفية مع الفيلم صعبة جداً، لأنه لا يتطور. هو أشبه بالريبورتاج التلفزيوني منه إلى فيلم وثائقي سينمائي. بدت سرحال صحافية لا مخرجة، تطرح أسئلة على ضيوفها وتنتظر الإجابات منهم. جلست قبالة ضيوفها، كأيّ مقدم برامج، ولم تأخذ منهم أي شيء مفيد لا عن لبنان ولا عن مارون ولا عن السينما. ليس هناك في الفيلم أي وجهة نظر من سرحال. كانت حاضرة غائبة. لم تقف عند أي لحظة أو نقطة مهمة، بل كانت تدفع بالسرد إن كان موجوداً عبر مشاهد أفلام مارون، وكلماته، وكلمات الضيوف والأماكن الذي تواجد فيها أو صور مشاهده فيها. مشكلة الفيلم الأساسية تكمن في المونتاج: الفيلم غارق في المتاهة، غير ناضج، ويأتي على حساب تناسق الصورة واتساقها وحقيقتها. لم يقدم فكرة واحدة عامة، مع الكثير من الحشو والتكرار المفرط، فبدا محاولة جوفاء لتقديم فيلم عن مخرج لبناني، أتت فاقدة للمعنى الحقيقي والعمق.
انطلقت فيروز سرحال بسيارتها لكنها لم تصل إلى أي مكان، فالمعلومات المكتوبة والصور والمشاهد بديهية، خالية من أي منطق سردي، ننتقل من مشهد إلى آخر من دون أي سلاسة. «وعاد مارون إلى بيروت» درس تاريخي مملّ، لم يُجب حقاً عن أي شيء. تحدّث بعض الضيوف عن اليسار اللبناني و«منظمة العمل الشيوعي»، وطرابلسي عن بيروت قبل الحرب، وتساءل كيف يمكن لفترة ذهبية أن تُنتج حرباً؟ لكنّ سرحال لم تتوقّف عند أي شيء، لا طفولة مارون، ونشأته، وأفكاره، وفلسفته، وميوله وقناعاته السياسية. مرّت الكلمات عبر مسامعنا بسرعة كبيرة، لم نفهم كثيراً ممّا قيل، لأنه مقتطع (كان الله في عون من يقرأ الترجمة!). «وعاد مارون إلى بيروت» فيلم مصطنع، بلاستيكي، مدّع بعض الشيء، يبدأ وينتهي وهو في مكانه تماماً.
الاخبار