تقديم وحوار: هاني سليمان الحلبي
كان موعدنا الساعة 3 عصراً، وقصدتُ أن أمشي الطريق نفسها التي درجتُ عليها منذ كنتُ طفلاً تُمسك أمي بيدي، حين كانت شابّة بما يكفي، للصعود إلى عيحا سيراً على الأقدام، في حجيج دأب عليه أهل القرى المجاورة، لإيفاء نذورهم لـ”مولاي بهاء الدين”، ومعظم الطريق تكون حافية، لتبري ذمتها كناذرة نحو منذور، فيكون الحساب صفراً بالوصول إلى المقام في بلدة عيحا العريقة، الضاربة جذورها في أقداس التاريخ والهوية لآلاف السنين الخالية.
الشمس لطيفة ناعمة. أشعتها تغمر الطبيعة بحبور وتغسل الأشياء بالضوء. وعلى جانبي الطريق عاتيات الزيزفون وقد جارت عليها أيدي المارة والزائرين، لقطف زهور العطر فينتزعون الشجرة من أكواعها أو من أكتافها. لكنها ما زالت تستصرخ بلدية راشيا بأنامل الرعاية والتقليم الفني لتقوى وتفوح عبر الأجيال مجدداً. هي الأشجار نفسها التي كانت عندما نقطف منها الزهور خلال رحلتنا تضحك لنا وتكاد ترقص طرباً لنقل عبيرها إلى العيون قبل الأنوف.
الموعدُ مع صديق عتيّ، صديق أسرتي، صديق أخوتي، ومن ثم صديقي منذ سنوات عشر تقريباً. لطيف العشرة، محبّب الروح، دمث الأسلوب، مبتكر الطُّرَف والدعابة الكاسحة لجليد القلوب.
هو الروائي والقاص اللبناني محمود حسين شباط.
وكلّما يمرّ اسمه في ذاكرتي تلمع مأثورة المتنبي “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”، وكأن المتنبي تنبأ بأنه في مقبلات الأيام سيكون في هذا الدور من الزمان محمود شباط وستحلّ به بعد جهاد مضنٍّ ونعيم العطاء، عزائم قاسية وصروف وامتحانات وابتلاءات ربّانية عتية لتفحص قلبه وروحه ويقينه، فتجد عنده إيجاب المؤمنين، متيقناً بالعدل، معتصماً بالرضا، مستقوياً برحمة الله، فـ”لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم”. وأشد ما يحزّ في قلبه ويحفر في روحه الصابرين رحيل ابنه البكر المرحوم أياد، الذي انتُشل جثة من بحيرة القرعون منذ تشرين الاول 2023، وانتشرت شائعة انتحاره، ما ولّد ردة فعل التزاماً بالعرف الديني والاجتماعي مع المنتحرين، بمنع الصلاة على جثمان الفقيد. ولم يحصل تدبّر للأمر ولا تحقق في حينه لإنصافه.. ولكن لم يفت حقه علينا جميعاً كمربٍّ وندعو لإنصافه في الذكرى السنوية الأولى لرحيله.
عبر أعمدة حكمته السبعة بإصدارت سبعة بين القصة والرواية، استحقّ محمود عضويّة اتحاد الكتاب اللبنانيين، منذ سنوات. فأرادت منصة حرمون أن يطلّ مجدداً على قرائه ومتابعيها، ليعتصر إكسير خبرته وتجربته للشباب، فكان هذا الحوار..
1 – الروائي والقاص محمود شباط غنيّ عن التعريف. ممكن إخبار متابعينا عن جديدك؟
كلّ الشكر والتقدير لمنصة حرمون على اللفتة الكريمة الحالية، وتلك التي سبقتها، على أثر مروري بما قدره الله عليّ من اختبارات مؤلمة صعبة تتالت تباعاً ضمن فترات قصيرة، أحالت ظروفي العصيبة إلى قيود وأغلال تحول دون الكتابة وحتى القراءة.
2 – ما أبرز ما تتذكّره من مخزون الطفولة والنشأة؟
وُلِدتُ في قرية عيحا، قضاء راشيا في لبنان، حيث تعود بي الذاكرة لصور غامضة حين كنتُ في الثالثة، ثم انتقلنا إلى راشيا في خريف عام 1955. كتبتُ عن عيحا وراشيا ما استطعت تذكّره عنهما في منتصف خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات، وذلك متوفر على صفحتي على الفايسبوك لمن يرغب في الاطلاع على تلك المذكرات، أو الذكريات.
3 – حبذا لو تعرّف المتابعين إلى كتبك في القصة والرواية؟
لَديَّ سبعة كتب، ثلاث مجموعات قصصية: أيّهما أمي، ولو بعد حين، وعلى صهوة حلم أبيض. وأربع روايات: رجوع النورس إلى عيون سنبل، عذراء قصر الشيخ، أرملة محترمة جداً، ورجال العميد.
مضامين بعض تلك القصص والروايات تدور حول سوء استغلال السلطة ونبذ الظلم والتعسف، إضافة إلى الإضاءة على البعدين الوطني والقومي.
4 – ما هو مفهوم بطل القصة أو الرواية في نصك؟
للبطولةِ وقع محبّب رائع في النفس وفي السمع، وفي كلتيهما تكاد تشاهد صور الشهامة والشجاعة والصدق والأمانة.
5 – كيف تنتقي موضوعك؟
لكلِّ موضوع أنتقيه أمتطي صهوة خيالي أولاً كي أختار الزمان والمكان والفكرة، ولكل منها مواضيع فرعيّة، هي التي تنتقي دروبها وبداياتها ومضامينها ونهاياتها.
جَدْلُ الخيال والواقع
6 – غلبت البيئة المحلية والمعيشة في محيطك على نصوصك. هل هي حقيقيّة أو بعضها منسوج من الخيال؟
الخيالي Fiction والواقعي Nonfiction هما العربتان المدرعتان اللتان لهما “حق المرور” على كل صفحة إبداعية، تفرضان ذاتيهما على العمل الأدبي، رواية كان أو قصة أو شعراً، وهذا ما التزمتُ به في قصصي وفي رواياتي.
وأزعم بأن هذه الآلية يمكن إسقاطها على السير الذاتية والمذكرات الشخصية أحياناً.
7 – كيف ترى واقع الكاتب والمبدع في لبنان؟ وما يجب القيام به لتحسينه؟
واقعُ الكُـتَّاب الحالي تحديداً لا يشي بالخير والطمأنينة، حزين، مزرٍ، وبائس، فلا دخل ثابت ومضمون ولا ضمانات اجتماعية ولا تقاعد.
8 – كيف تقيم التفاعل الفكري والاجتماعي مع إنتاجك؟
لَو كان في لغتنا تعبير “نصف خيبة أمل” للجأت إلى إسقاطه على خيبة أملي بمدى هزالة التفاعل الفكري والإجتماعي، ليس فقط مع إنتاجي، بل مع الإنتاج الأدبي بشكل عام، والكتاب الورقي بشكل خاص.
9 – هل ندمت على بعض ما كتبت؟ ولو توفّرت الظروف لطبعة ثانية هل تعدل؟
قرأتُ في مقدمة كتاب لأحد عمالقة الرواية والأدب العالمي، قد يكون همنغواي أو تولستوي أو مَن هو في وزنهما. يقول بأنه أرسل بمسودة أحد كتبه إلى المطبعة خمسين مرة وفي كل مرة يرجع الكتاب فيها كان يجد فيه ما يجب تعديله أو إضافته أو حذفه. فإذا كان هذا هو الحال مع العمالقة فكيف تتوقع الحال مع مَن هم مثلي.
مأساة أياد تستوجب الإنصاف
10 – فقدت أحباء من أسرتك. أبرزهم ربما ابنك البكر المرحوم أياد. وربما لحقه ظلم إضافي أضاف لأوجاعك وجعاً؟ بماذا تعلّق؟
للفقدان رنين موجع، دقت أجراسه جدران القلب مراراً وتكراراً، أشدّها إيلاماً رحيل إبني البكر أياد، عريس بهيّ دون عروس في ريعان شبابه. كُـتِـبَت عليه الإصابة باللوكيميا (سرطان الدم) ونجا منه بعد علاج لمدة عام ونصف العام. ولكن الموت لم يمهله فأفل نجمه الجميل بعد أشهر قليلة من تسلمنا تقرير المستشفى الذي بشّرنا بتعافيه من المرض الخبيث، تاركاً في قلبي ندبة سوف تبقى مطبوعة على شغاف قلبي ما حييت.
نَدبةٌ أخرى يتأجّج جمرها في كياني هو رحيله يوم جنازته دون صلاة جنازة كما يتوجّب، اعتماداً من البعض على ما سمعوه بأن ابني أقدم على الانتحار، لم ينتظروا ما يثبت ذلك أو عكسه.
أحد المستندات الحكوميّة الرسميّة كوثيقة الوفاة لم يرد فيها إي ذكر للانتحار، وهي متوفرة لدى الدوائر الرسمية، ولدي الأصل وصور عنها لمن يهمه الأمر.
لَكَمْ تمنيتُ أن يتمّ التحقق مع ما أشيع عن انتحار ابني أياد قبل التعامل معه كمسلمة غير قابلة للمراجعة والنقاش، وهنا يحضرني هذا الشعر الذي نظمته منذ سنوات عن هذا الموضوع، ودعوت فيه إلى الصدق في إخبار الخبر، وفي التروي في نقله على عواهنه، لأن في ذلك أمانة ثقيلة ومسؤولية كبرى تجاه الضمير والعباد وتجاه رب العباد:
كم حادثٍ في اليوم ينقله الورى
ينتاب نقله سوء النقل بالنقل
دع عنك ما ينحاز من كيد الهوى
واتبع بعقلك ما ينحاز للعقل.
أحياناً تقودني فرضيّات تجعلني أتساءل: لو كان في نية ابني المرحوم المظلوم الإقدام على الانتحار، لكان أقدم عليه حين أخبره الطبيب المعالج بأنه مصاب بالسرطان، يومها قال أياد كلمته التي نقلها لي أشقاؤه: “ونعمي بالله .. اللي حطّ المرض بيشيلو”، أو خلال مراحل العلاج وأوجاعها التي استمرت لعام ونصف العام، ذاق المرّ خلالها ولم ينتحر، حرم من كثير من الفاكهة والحلويات والمشروبات الغازية ومن كثير من الأطعمة لمدة عام ونصف ولم ينتحر، حُرم من الاختلاط والجلوس معنا ولم ينتحر. تساءلت: ولماذا ينتحر بعد أن شفي من المرض تماماً وحصلنا على تقرير من المستشفى يثبت الشفاء وأرسلناه إلى الشركة التي كان المرحوم المظلوم على وشك السفر للعمل لديها، وعلى أساسه قبلته السفارة السعودية وشركة التأمين التي تتعامل معها الشركة.
فلنفترض بأن المرحوم المظلوم قرّر الانتحار وأقدم عليه، ألم يكن أسهل عليه أن يأخذ حبة زائدة من أدويته تؤدي به إلى الوفاة وهو نائم بدل أن يرمي بنفسه على الصخر ويلاقي ما لا تتحمّله النفس البشرية من آلام؟
غصّتي المزدوجة المتمثلة بخسارتي له وبعدم حصوله على الرحمة الدينية حدا بي لرثائه بهذه الرباعيّة:
ألا أياد قد أدميت قلبي
بفقد حين قاربت الرحيلا
وديعاً مؤمناً حراً عفيفاً
رشفت داءك صبراً جميلا.
وأكملت رثاء مهجة قلبي بشعر حرّ قبل أن أعلم ماعرفته من حقائق بعدها:
ليتك أخبرتني يا فلذتي
كنه المواجع
ليتك أشعرتني “لستُ براجع”
ليتك شاركتني حالِكَ السر الخطير
ليتني أدركت ما يؤلمك تحت الرماد
قبل أن تستعجل سرج الجياد
تاركاً دنيا الوجود
دون عرس.. دون إكليل ورود
وإلى أن ألقاك يا ولدي
سوف يبقى كاوياً في كبدي
حرقة الغفو الأخير.
والدك المشتاق جداً.
ألا تنصُّ معظم قوانين الدول، إن لم تكن كلها بأن “المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته”. وهذا ما لم يحصل. ولم يظهر في وثيقة الوفاة.
طبقاً لما ورد من كلام مرجعٍ سامٍ من مراجع طائفة الموحدين الدروز في كتيّب صادر عن مقام مكتب مشيخة العقل يقول بأن “الرحمة الدينيّة طلب وسؤال” ، بما معناه بأنها التماس من رب العباد جُـلَّ وعلا، “وهو الأقدر على التمييز بين الطيب والخبيث” ولا أحد أقدر منه سبحانه وتعالى.
ما عَوّضني عن وجعي الجسيم بعدم النطق برحمة إبني هو ما يلي:
- الحضور الكثيف يوم غَصَّ الموقف بالمشيّعين ما اضطر العديد من أهل القرية إلى الوقوف خارج الموقف إفساحاً في المجالِ لآخرين من المشاركين من خارج البلدة للجلوس في داخل الموقف. وفي ذلك رحمة. كما كان حضور المعزين في اليومين الثاني والثالث معتبراً ويكاد يشغل نصف مساحة الموقف. واستمرينا في استقبال المعزين في المنزل لمدة تقارب الشهر.
- انتشال الجثة من المياه قبل تشغيل التوربينات بثوانٍ. كما قيل لي، وكذلك في هذا رحمة.
- تبيان عدم أثر لانتحار المرحوم المظلوم في شهادة الوفاة، حيث يظهر فراغ في البند رقم 18-أ الذي يقول: “أذكر مخصصا هل هناك حادث انتحار أم قتل” حيث الفراغ الذي لا يمكن تفسيره إلا بالنفي لكونه لم يؤكد الإيجاب.
بعد رحيله الموجع لبثت أمرُّ على غرفة نومه، أتلمس طريقي عبر دموعي إلى سريره، أنضده وأتحسس كتبه وثيابه وأغسلهم بعبرات الأب الفاقد الموجوع، أرى العصافير التي كانت تأتي بينما هو يقرأ كتاباً تحت العريشة على سطح البئر، أخالها تتساءل عن ذلك الهادئ العاقل المسالم اللطيف، لا أقوى على الوقوف بينما أنا أبكيه، بل أبكي نفسي، أرثيه بما يتيسر لي من الشعر العامي:
يا مهجتي
يا خيار وجه الخير
يا حرقتي ع يوم ودّعتك
كل يوم عم بيطل هاك الطير
يتفقدك …
يوقف على الشباك
يبكي على الربّاك
يكرج على كتابك
وعدروس طلابك
يسوّي بجناحو فرشتك
يحلمس على ثيابك
العصفور قَـلِّـي حب يقشعني
وعن سبب بعدك
حبّ يسمعني
دندن لحالي “ريت شيّعني”
من قبل ما عالقبر شيّعتك.
كنت أتمنى على من يعنيهم الأمر أن يغلّبوا نهج المودة والرحمة، والإمساك الطيّب بنصية درر الدين التي تميّز بين النور والظلمة.
11– ما علاقتك بالتقنيّة وكيف وظّفتها؟
إن كان المقصود عن علاقتي بالتقنية هو علاقتي بالحاسب الألي، فتلك تعود إلى العام 1984 حين أدخلت الشركة التي كنت أعمل لديها في المملكة العربية السعودية نظام الكومبيوتر إلى قسمَي شؤون الموظفين والمحاسبة.
من البديهي القول إني استفدتُ كثيراً من الكومبيوتر في كتاباتي سواء بالعربية أو الإنكليزية، ولاحقاً من المحيط اللامحدود من معلومات غوغل.
12 – هل ترى معارض الكتب وحفلات التوقيع مساعِدة بترويج الكتاب؟
شاركتُ في السعودية بمعرض الكتاب في مدينة الرياض منذ سنوات. ولم تسنح لي فرص المشاركة في معارض في لبنان بسبب السفر، إلا بعد عودتي من المملكة مؤخراً حيث شاركت في معرض المهرجان اللبناني للكتاب الذي تنظمه الحركة الثقافية في أنطلياس، وكانت النتيجة إيجابية وواعدة بحمد الله.
لا دعم ولا اهتمام
13 – هل ترى واقع وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب داعماً للكتاب والمؤلفين؟ كيف؟
لم ألمس أيّ دعم أو اهتمام من الجهتين، باستثناء قبول اتحاد الكتاب اللبنانيين لعضويتي في الاتحاد.
14 – ماذا تقول للناشئة والطلاب المقبلين إلى القلم والحبر والكتاب؟
أدعو شاباتنا وشباننا إلى القراءة ثم القراءة ثم القراءة، سيما عبر الكتاب الورقي أو أي وسيلة ورقية أخرى. إذ فيها يكمن سر اكتساب وتخزين المعلومات والمتعة والتسلية وقتل الوقت إيجابياً. وفيها لا يتأثر بصرهم ولا يحتاجون لبطارية ولا لكهرباء. كما أناشدهم أن يكتبوا ما يخطر لهم، أو حتى محاولة الكتابة في أضعف الإيمان، لعل وعسى. إذ لطالما كانت الدرجة الأولى على السلم هي أهم الدرجات.
كما أودّ تذكيرهم بأن لغتنا هي هويّتنا، ويستحسن سبكها بحروف لغة الضاد وليس بالحرف اللاتيني، وبأنها أحد المقومات الأساسية للكيانات التي ترغب في البقاء على قيد الحياة، كي يبقى ناسها على قيد الحياة بما للحياة من عمق المعنى.