سارة طالب السهيل
(كاتبة من الأردن)
من الأمثال الشعبية المصرية الطريفة (عشنا وشفنا)، ويطلق المثل على العجائب أو النوادر التي لم تكن تخطر على البال، فلما وجدت هذه العجائب عاشها الناس متحققة في زمانهم، فتندروا بها استهجاناً ورفضاً داخلياً لها بسبب خطورتها الاجتماعية.
وفي زماننا العجيب وبفعل تكنولوجيا عصرنا التي أتاحت للكثيرين من عامة الناس الاطلاع على بعض الجوانب السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية، ودون استيعاب منهم لها باتوا يتفاعلون معها، ويتحدّثون بها كالببغاء عبر إنشائهم قنوات خاصة أو صفحات إلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعية على اختلاف أدواتها.
الغريب في الأمر أن هؤلاء العامة – ولهم الاحترام – لم يدرسوا ولم يعرفوا معنى التخصص العلمي أو الأكاديمي، حتى يفتوا في كل شاردة وواردة في أمور حياتنا العلمية أو السياسية أو الاقتصادية، ولم يعرفوا الفرق بين الرأي العلمي المتخصص، وبين الرأي السريع غير القائم على دراسة المشكلات وسبل حلها علمياً، فاختلط الحابل بالنابل، وضيّعت الحقائق بينما المتابعون لهذه الصفحات يتلقون عن العامة كأنهم أساتذة وخبراء دون تمييز.
الحضارات كلها لم تعرف هذا النمط معرفة الجهال أو العامة أو عامة العامة، بل قامت كلها على العلم المتخصص أو الفكر الموسوعي. ففي الحضارة العباسية كان العالم دارساً للعلوم الشرعية ومتبحرا فيها، وفي الوقت نفسه آخذاً بنصيب وافر من علوم الرياضيات والفلك والطب والشعر من أمثال ابن سينا وابن الهيثم، الفخر الرازي والكندي والفارابي وغيرهم، فأعطوا ما عرف بالفكر الموسوعي الشامل.
وحتى في عهد نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد استفاد من خبرة ذوي الخبرة والاختصاص، عندما تجمع أصحاب الأحزاب لقتال المسلمين بالمدينة، جمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليستشيرهم في كيفية الدفاع عن المدينة وصدّ الأعداء. فأشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي – رضي الله عنه – بحفر الخندق، حيث قال: يا رسول الله: إنّا كنّا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا، فوافق الرسول.
صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الكرام بهذه الخطة الحكيمة فكانت من أسباب صد الأحزاب وفشلهم.
كما قال الله تعالى في كتابه الكريم:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43).
كما قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم :
(إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
وقال الله سبحانه وتعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾.
ولا مكان في الشأن العام والقضايا الهامة لاختيار عامة الناس أو عامة العامة ليدلوا برأيهم فعلاً او قولاً، ليس انتقاصاً من إنسانيتهم، بل لقلة خبرتهم في إدارة شؤون البلاد والعباد. فدائماً وفي كل المجتمعات النخبة ونخبة النخبة التي مكّنها الله تعالى باكتساب الخبرات والعلوم وأهلها لإدارة الناس وفق أسس علمية ومواهب أيضاً ربانية هي من يتولّى هذه المهمة.
وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي بيته الشهير:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم.
لم يُبنَ ملك على جهل وإقلال.
كفاني ثراء أنني غير جاهل.
وأكثر أرباب الغنى اليوم جهال
وخاصة الخاصة ممن مكنهم الله من فن إدارة الناس قد امتلكوا من الخبرات التي تمكنهم من هذا العمل، وكان أغلبهم أصحاب ضمائر وطنية مخلصة، والبعض القليل منهم عميل أو منتمٍ لدول أو أحزاب خارجية غير أمينة على مصالح البلاد الداخلية، فكان الركب سائراً بالأوطان إلى بر الأمان خاصة بعد قدرة الوطنيين على كشف وفضح زيف العملاء وغير الشرفاء.
أما اليوم، فإن عامة العامة تحشر أنفها في كل كبيرة وصغيرة، فتجد من لا يفهم بالاقتصاد يحلل بورصة النفط والأسهم، ومن لا يفهم بالدين يُفتي وينظّر، ومن لم يحصل حتى على الشهادة الابتدائية يعطي إرشادات طبية غير مبنية على حقائق علمية، ومن يعمل في الطب يفتِ في السياسة، وهو ليس مطلعاً على أي قانون أو معاهدة، ومن يعمل في التجارة يطلق الأحكام الباطلة على مجريات الأمور!!!!
والنتيجة أن احتل عامة العامة من الناس محل أهل الاختصاص من خاصة الخاصة. وحلت محل الخاصة الوطنية الخاصة العميلة، لأن الباب أصبح مفتوحاً للجميع على مصراعيه دون ضوابط أو أصول، وضاع الكثير من دور خاصة الخاصة في تحصين المجتمع من الفساد والمفسدين، بسبب المنصات الإلكترونية التي ساوت بين الجميع، أصبح الحكم فيها عدد المتابعين، بعد أن صار لكل جاهل منبر يصدح منه، جلس الخاصة في منازلهم، وحلّ محلهم من لا يريد خيراً.
فقد تربينا على أمثولة (أعطي الخبز لخبازه لو أكل نصفه)، لأنه أكثر خبرة في العجن.
والخبز، واليوم صار عامة الناس يدعون معرفة أسرار صنع الخبز، وهم ينعمون بالجهالة، من أين هبط علينا هذا الكم الهائل من مدّعي العلم والفهم؟ ومنذ متى الناس جميعها فهيمة وعليمة وحكيمة؟!!!
فعلا أننا نعيش في فوضى عارمة تقودنا للهلاك تستدعي العمل السريع والمخلص على إيقافها، خاصة وأننا لم نجد على سبيل المثال لا الحصر في أوروبا أو اليابان أو الصين، فمن يتكلم بغير مجاله، ويطلق الأحكام، ويسمح له بتوجيه المجتمع ولديه منصة مجانية ومنبر يطلق ترهاته من خلالها؟!!
لقد بتنا في أشد الحاجة إلى وقف هذا النزيف العقلي، بتحديد المفاهيم والمصطلحات وتقديم التعريفات المبسطة عن أصل الأشياء، لنعرف من هم الخاصة مرة واحدة، ومن الخاصة مرتين، ومن هم العامة ومن هم العامة العامة.
فالخاصة هم متعلّمون ومثقفون، لكن الخاصة الخاصة هم النخب المنتقاة وزبدة العلم والفكر. أما العامة فهم أقل جهلاً ومطلعون على بعض المعارف السطحية، بينما عامة العامة فلا يعلمون لا يفقهون لا يدركون ولا يقرأون، ولكنهم يعطونك انطباعاً أن من الديمقراطية أن يؤخذ برأيهم، وأن يكون لهم صوت في إقرار القانون والدستور والقرارات الحكومية، وإلى آخره من شؤون الناس.
نعم أمر الله تعالى نبيه المصطفى بأخذ رأي الناس وإعمال مبدأ الشورى مصدقاً لقوله تعالى (اعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل الله) آل عمران.
ولكن من الذين كان يؤخذ بآرائهم من هم الذين يؤخذ منهم الشورى؟ بالطبع الخاصة الخاصة أصحاب العلم والفهم والمكانة والفكر، ممن هم أهل الخبرة والاستشارة. فالشورى من قواعد الشريعة وأسس الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وفي حديث نبينا المصطفى قوله صلى الله عليه وسلم: “ما خاب من استخار ولا ندم من استشار”.
وقال عليه الصلاة والسلام “المستشار مؤتمن”. صفة المستشار في الأحكام.
أن يكون عالماً متبحراً، واسع المعرفة والفكر صاحب حق وعدل وضمير وادراك قادر على الفهم والتحليل والاستنتاج والاستنباط وأخذ القرار وأما صفة المستشار في أمور الدنيا، فيشترط أن يكون عاقلاً مجرباً صاحب ضمير ووعي ودراسة.
ويوحي ذلك.
فإن الديمقراطية إذا أخذت برأي جاهل غير مبني على فهم وإدراك وتخصص قاد المجتمع إلى الهلاك، وعلى أن يكون الرأي لأصحاب الرأي الرؤية والخبرة والبصيرة، وإلا عمّت الفوضى، ووصف الدواء بالسم، والسم بالدواء ووصف الطيب بالخبيث والخبيث بالطيب، أتوا الحكمة أهلها، وكما قال الله تعالى.
في محكم كتابه (ومن يؤت الحكمة، فقد أوتي خيراً كثيراً) البقرة.
وكما أوصى الحكيم لقمان ابنه قائلا: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك. فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء. وما أحوجنا إلى الحكمة والعمل بها. فالحكمة هي ضالة المؤمن، كما أخبرنا المصطفى صلى الله عليه، وسلم في حديثه:
(الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها)، أخرجه لنا خيرة العلماء المحدثين، ومن أهميته في حياتنا صار مثلاً وقولاً مأثوراً يحفظه الناس ويرددونه.
ولكن كما فهمنا من الحديث أن الحكمة يعطيها الله للمؤمن، وليس الناس كلهم بمؤمنين.