عبدالهادي راجي المجالي
(كاتب من الأردن)
أريد من وزير التعليم العالي، ترخيصاً بفتح مكتب اعتماد للطلبة الذين يريدون الدراسة في الخارج… أنا أعرف أن مكاتب الاعتماد ترسل أولادنا للدراسة في أميركا أو إسبانيا أو فرنسا.. وحتى روسيا، الكثير من الدول معتمدة للدراسة هنا.
أنا أريد ترخيصاً لمكتب وجهته (غزة) فقط، وجامعات (غزة) كثيرة.. أكبرها جامعة الشهداء، هنالك أيضاً جامعة اسمها الكرامة، وهناك جامعة للمقاومة، جامعة للشرف.. وجامعة تعلمك الصلاة على توقيت القصف، وجامعة للأنوف الشمّ العالية… هنالك أيضاً جامعات تمنح الدبلوم في الضمير، في الصبر.. في أن تكون سيّد الأمة وزعيم هذه الدنيا.
بعد الحرب نصيحة لا ترسلوا أولادكم لجامعات بريطانيا، هناك ماذا سيتعلّمون من المستعمر: احترام الوقت، قراءة التاريخ المزيّف، تناول الشطائر الرخيصة.. الوقوف مطولا أمام دائرة الإقامة، الانتظار في مطار هيثرو، ماذا سيعلمون أولادنا غير ذلك؟… غزة على الأقل ستعلمهم أن صوت قذيفة الياسين وهي تخترق الحديد أحلى من مقطوعات بيتهوفن كلها، ستعلمهم أن حمل طفلة شهيدة في ذروة القصف.. وجعل ما تبقى من دمها ينزف على صدرك سيكون أعلى شوامخ الإيمان بالأرض والتاريخ والقضية، ستعلمهم معنى أن تكون صلباً مثل صخر فلسطين.. وأن تكون حراً مثل زيتونها، وأن تكون عربياً حين تغتال العروبة؟
بعد الحرب لا ترسلوا أولادكم لفرنسا، بل ارسلوهم لغزة فترابها وحده جامعة.. وحي الشجاعية وحده فيه من الرجولة والبسالة والضمير، ما عجزت عن إنتاجه جامعات (اكسفورد وجورج تاون، ولندن سكول)… على الأقل هذه الجامعات التي يتغنى بها الغرب، بصقت عند أول منعطف على كل القوانين والقيم والأعراف، ولم تصدر ولو بياناً يعبر عن حزنها… بالمقابل حي الشجاعية منذ أول قذيفة، وهو يستقبل المطر ودماء الشهداء.. منذ أول قذيفة وهو يحيل الدم الفلسطيني الخضيب لدستور وقانون، ولأنبل نضال وكفاح عرفته البشرية… حي الشجاعية دخل التاريخ فهو الحي الوحيد في هذا العالم… الذي فقد نصف أهله، ولكنه يمتلك من الشرف ما عجزت كل عواصم أوروبا… عن الوصول له أو الاقتراب من حجمه.
أرسلو أولادكم لغزة، في خان يونس سيمنحونهم درجة الماجستير في الصبر العظيم… سيأخذونهم إلى حواف المنازل التي هدمت، إلى الحدائق التي حرقت.. وإلى قبور الشهداء التي نبشت… هنالك سيتعلم الجيل الجديد في خان يونس، معنى أن تكون أمة… صدقوني أن المقاوم هنالك اختصر أمة كاملة.. سيعلمون أولادنا، معنى أن تقاوم التهجير ومعنى أن تغرس جذورك في أرض لا تقبل من أولادها إلا الدم والهوى والرصاص، ولا تقبل من أحد أن يرفع يديه مستسلما… خسئوا أن تستسلم خان يونس، لقد استسلم الضمير العالمي كله لليهود وسقط.. استسلمت العواصم، واستسلمت القلوب.. إلا التراب في خان يونس لم يستسلم لأنه التراب الأغلى والأعز.. لأنه التراب الذي لا يزرع فيه النخل فقط.. بل تزرع فيه الحياة التي تعيشها بكرامة، وتأكل خبزها مرفوع الرأس… وإن استفز هذا التراب سيجعل القبور التي يحملها على ظهره تقاتل معه.. في خان يونس حتى القبور تقاتل.
لا ترسلوا الأولاد بل البنات أيضاً، هنالك سيتعلّمن أن الكحل الذي يوضع على العيون (الغزاوية) يصلح أيضاً باروداً للطلقات الصائبة، هناك ستتعلم البنات من نساء غزة… أن الرحم الفلسطيني ليس مكاناً كي يحتضن الجنين فقط، بل الأرحام هنالك هي أشرف الأرحام وأطهرها وأنبلها.. وأن كل طفل يغرس فيها، تولد معه بندقية وقذيفة… ويأتي للدنيا رافعاً سبابة الشهادة وشارة النصر.
أرسلوا البنات أيضاً، كي يتعلّمن معنى أن تقاتل الظفيرة.. معنى أن تقاتل العيون ومعنى أن تصرخ امرأة تحت الركام في بيت حانون على المسعفين قائلة: (يا ابني غطي راسي).. لم تفكر وقتها بالنجاة بل فكرت بطاعة الله… النساء في غزة وحدهنّ عن دون الدنيا، اللواتي لا يحتجن للضوء في صلاة الفجر، لأن الإيمان في قلوبهن وحده ينير لهن المنازل.. وسجادة الصلاة، وممر الغرفة.
بعد المعركة… أنا أيضاً سأرسل قلبي لغزة، كي يأخذ هناك.. جنسية من الرمل ومن النخل ومن القذائف… من كل الأحياء التي هدمت.. غزة وحدها من تمنح صكوك الحب والهوى في هذه الدنيا، وحدها من تمنح التائه درب الإيمان.. وحدها من تمنح الدم.. وحدها من تسترد الكرامة حين تهدر الكرامة.
صحيفة الرأي الأردنية
الإثنين، ٢٥ ديسمبر / كانون الأول ٢٠٢٣