د. أدمون ملحم
منذُ خمسةٍ وسبعين عاماً، وتنفيذاً لوعد بلفور المشؤوم، ارتُكِبَت في جنوبِ بلادِنا أفظعُ جرائمِ التاريخ من قِبَلِ العصاباتِ الصهيونيةِ الهمجيةِ المتحجّرةِ في مُعتقداتِها والممتلئةِ حقداً ولؤماً وكراهيةً للشعوب، إذ اغتصبتْ تلك العصاباتُ فلسطينَ الحبيبة على مرأى العالمِ وبمباركتِه، وارتكبتِ العديدَ من المذابح ِوالمجازرِ الجماعية بحق أهلِنا الآمنين، ودمّرتْ ما يقاربُ الخمسمئةَ من قُراهُم، وشرّدتْ مئاتِ الآلافِ منهم، الذين طردوا من بلداتِهِم وبيوتِهُم بالقوة ولجأوا إلى الكياناتِ المحيطةِ بفلسطين. ودنّستْ تلك العصاباتُ الأرضَ والمقدساتِ، وراحت تمعن ُبالبطشِ والقتلِ والهدمِ وارتكابِ الجرائمِ الفظيعةِ، والاستيلاءِ على الأراضي والممتلكات، بهدفِ السيطرةِ على كاملِ فِلسطين، تحقيقاً لحُلمِهِمِ التوراتيِّ الخُرافيِّ بإنشاءِ دولتهم العنصريةِ القائمةِ على الظلمِ والعدوانِ والاستيطانِ والتوسعِ والاحتلال.
وعلى مدى خمسةٍ وسبعين عاماً من الانتهاكات الممنهجة وسياسات القتل والاغتيالات والاعتقالات وحملات التطهير العرقي والتدميرِ الممنهج، وشعبُنا صامدُ في أرضِهِ، وصابرٌ على المآسي والظلمِ والقهرِ والتعسُّفِ والطغيان.. ورغم المعاناة الهائلة ما زال شعبُنا المقيمُ والمُشرّدُ يتمسكُ بحقِّهِ في الحياة وبحقِّ عودتِهِ إلى أرضِهِ وممتلكاتِه، مهما طالَ الزمنُ على تشرّدِهِ وتحمّلِهِ مآسيَ العيشِ في مخيماتِ الذلِّ والألمِ واليأسِ والحرمانِ.
وعلى مرِّ السنين، بدأت تتأكدُ الحقيقةُ الساطعةُ التي جاهر بها أنطون سعاده موضحاً طبيعةَ المشروعِ الصهيوني ومؤكداً أنّ خطرهم على فلسطين هو خطرٌ على سورية كلها، هو خطرٌ على جميعِ هذه الكيانات.”
ولكن شعبَنا أثبت بالبراهين ِالقاطعة أنه شعبٌ جبّارٌ يرفضُ الذل َوالعبوديةَ، ولا تهزمُهُ النكباتُ والويلات، بل يواجهُ الصعابَ بكل عزمٍ وإيمان، ويصارعُ بكلِّ بطولةٍ وعنفوان، مقدّماً الأرواحَ والتضحياتِ الكبيرة من أجلِ الحريةِ والشرفِ والكرامة.. العدو يشنُّ علينا العدوانَ تلو العدوان، يدمّر المرافق والمنازل ويقتلع الأشجار ويبني المستوطنات ويحاولُ التمدّدَ على كامل فلسطين وباتجاهِ الشام ولبنان والإستيلاء على أرضنا وثرواتنا، ولكنَّ شعبَنا المصارعَ والمؤمنَ بالحياةِ لا يركعُ ولا يستسلمُ ولا يهادنُ ولا يستكين، بل يقاومُ المحتلَّ بصبرٍ وعزيمةٍ وإرادةٍ صلبةٍ وإيمانٍ راسخٍ وثقةٍ بالنصر. ويوم احتلَّ العدوُّ جنوبَ لبنان وبقاعه الغربي في ثمانينياتِ القرنِ الماضي، انطلقتِ الحركةُ القوميةُ الإجتماعيةُ بعملياتِها الاستشهاديةِ الرائدة مجسِّدةً البطولةَ الأسمى ومعبّرةً عن كرامةِ شعبِنا وتوقِهِ للحرية.. وتتالتْ عملياتُ المقاومةِ الباسلةِ وأدّت إلى هزيمةِ العدوِّ المحتلِ وطرده ذليلاً من جنوب لبنان. هذه المقاومة البطلة أسقطت نظرية “الجيش الذي لا يُقهَر” وأكدت أن لبنان لم ولن يكون سائراً في الركب “الإسرائيلي”. كما انطلقتِ المقاومةُ السوريةُ لتحريرِ الجولانِ المحتل رافضةً الهويةَ “الإسرائيلية” وقرارَ ضمِّ الجولان الصادرَ عامَ 1981. وانطلقتْ المقاومة في فِلسْطينَ المغتصَبَةِ وتجسّدت أفعالاً وبطولاتٍ في انتفاضاتٍ متكرّرةٍ شاركَ فيها بكلِّ عزيمةٍ وإقدامٍ رجالٌ ونساءٌ وشيوخٌ وأطفال، يتصدّون بأجسادِهِم وبالحجارةِ والمقلاع لجنودِ العدو، ويقاومون اعتداءاتِهِ الإجراميةَ ومشاريعَهُ الاستيطانية التوسعية.
وها هو شعبُنا اليوم في غزة المنتصرة يُثبِتُ مجدداً، بصمودِهِ وصلابتِهِ ووِحْدتِهِ وإصرارِه، على تحريرِ أرضِه فيهبُّ بمقاومةٍ شجاعةٍ وبقلبٍ واحدٍ دفاعاً عن فلسطين.. يقاومُ ببطولةٍ عزَّ نظيرها ليكتُبَ صفحاتِ العزِّ بالدَّمِ والنّار، وليُسَجِّلَ بكفاءةٍ عاليةٍ وقتالٍ منقطعِ النظير، الانتصاراتِ العظيمةَ على هذا العدوِّ المدعومِ من الاستعمارِ الغربي المعادي لمصالح الشعوب وحقوقها ومنَ الأنظمةِ العربيةِ المتصهينة، وليفرِضَ معادلاتٍ جديدةً على الأرض.
العدو الغاشم برهنَ للعالم عن طبيعته الإجرامية البشعة بارتكابه المجازر وسفك الدماء وقتل الأطفال والنساء والأطباء والصحافيين وتدميره المباني بمن فيها واستهدافه المستشفيات والمدارس ودور العبادة ومراكز الإيواء وتدميرها.. إنها مذبحة مفتوحة لا بل حرب إبادة بكل المعايير. حربٌ تستهدف القضاء على شعب غزة وتهجير من يبقى منه حيّاً إلى خارجها.
شعوب العالم كلها تظاهرت وعبّرت عن إدانتها لحرب الإبادة وللوحشية الظالمة بحق هذا الشعب الذي يعاني من العدوان والتدمير والقمع والتعذيب والقتل الممنهج ومن التشرّد والإذلال والحرمان. هذا العدو المستبّد، الذي ينتهك القوانين والمواثيق الدولية ويدوس على القيم الإنسانية والأخلاقية ويرتكب أعماله الهمجية على مرأى العالم وبدعم غربي وأميركاني، لا يُعير أي اهتمام لرأي المجتمع الدولي ولاستنكار معظم شعوب العالم وادانتها لممارساته الهمجية.
لقد بدأ شعبُنا في فلسطين – أرضِ الصمود – وفي كل كياناتِ الأمة، يعي أن تحريرَ الأرضِ لا يُنْجَزُ بالمساوماتِ والاتفاقياتِ المذلّة، ولا بالتسكُّعِ والاتّكالِ على أنظمةِ الذُّلِ والتبعيةِ والتطبيع، بل بتقديمِ التضحياتِ النبيلة وبمواجهةِ العدوانِ بوحدةٍ متينةٍ وبمقاومةٍ شرسةٍ وضرباتٍ موجعةٍ وبلغةِ الحديدِ والنار – لغةِ القوة الضامنة لحقوق الأمة وسيادتها، فالقوة، يقول سعاده، “هي القولُ الفصلُ في إثباتِ الحقِّ القوميِّ أو إنكارِه.”
في المعارك التي تخوضها، ابتداءً من سيف القدس مروراً بمعركة ثأر الأحرار وصولاً إلى طوفان الأقصى، وفي ملاحم الصمود والبطولة والمواجهات المباشرة في صدّ العدوان، أحدثت المقاومة تطوراً نوعياً في صناعةِ مستقبلِ فلسطين، وفي الدفاعِ عن كل شبر منها وعن أبنائها. وبالرغمِ من القوة التي يمتلكها هذا العدوِ الغاشم، والدعمِ السخيِّ الذي يتلقاهُ من الغربِ الأميركاني والأوروبي وأنظمة التطبيع ومن الحركةِ الصهيونيةِ العالميةِ الإرهابيةِ المسيطرةِ على مراكزِ القرارِ والمالِ والإعلام.. فإن هذا العدو يتكبّد الهزائم والخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية الهائلة ولم يتمكن جيشه من تحقيق الانتصار وترميم صورته منذ هزيمته في العام 2006. هذا الفشل الميدانيّ وما تبعه من هزيمة إعلامية وهروب المستوطنين وارتفاع أرقام الهجرة العكسية وتصدّع للكيان الغاصب كل هذه العوامل تؤكد أن نهاية هذا الكيان لم تعد مستحيلة إذا توحّدت جميع قوى المقاومة حول فلسطين واعتبرتها جزءاً من قضيةٍ واحدةٍ كاملةٍ، هي قضيةُ الأمةِ جمعاء.. فإنقاذُ فلسطينَ لا يتحقق إلا بمجهود موحّد يقوم به جميع السوريين في جميع الكيانات السورية. إنها مسؤولية قومية. فلكي نربح الأرض، “يجب أن نقاتل صفوفاً موحَّدة في سبيل الأرض”، كما يقول سعاده. ويضيف: “إن إنقاذ فلسطين هو أمرٌ لبنانيٌ في الصميم، كما هو أمرٌ شاميٌ في الصميم، كما هو أمرٌ فلسطينيٌ في الصميم”.
فلسطين الحاضرةُ في عقولِنا ووجدانِنا هي اليوم القضية المحورية، قضية حقنا القومي في أرضنا وقرانا ومدننا المغتصبة. هي اليوم بوصلةُ الصراع التي تميّز المناضلين الأحرار والشرفاء عن المستسلمين العملاء والخونة، والتي تفضح الضمائر الإنسانية، لأنها قضية حق وشرف وكرامة وتحرير وطن من الاغتصاب وقضية شعب يواجه مشروعاً عدوانياً استعمارياً يمثل الباطل العنصري والنفسية البربرية الهمجية.
وغزة اليوم هي الشهيدةُ الحيّةُ، المنتصرة ُ والناهضةُ بأطفالِها ونسائها ورجالِها الشامخين الذين يعانقونَ الموتَ لتبقى القضيةُ حيّةً، لأن العيشَ بلا حريةٍ تحتَ رايةِ الإحتلال جريمةٌ وعار، “ويا لذلِ قومٍ لا يعرفونَ ما هو الشرفُ وما هو العار!”
نرفعَ تحيةِ إكبارِ وإجلالِ لكل الشهداء الأبرار ولكل المقاومين الأبطال ونباركَ انتصارَات شعبنا في هذه الجولةِ من حربِنا الطويلةِ مع هذا العدوِّ اللئيم.
ولكم التحيةُ أيها الصامدون في أرضِكم المقدسة والراسخون في ترابِكم المجبولِ بدماءِ الشهداء.. لبنان سينتصر وفلسطينُ ستنتصر، ولن يصادروا منا وطناً نفتديه بالدماء التي تجري في عروقنا.. سننتصر وستبقى بلادنا وطناً للخيرِ والحقِ والجمال.
لإعلاناتكم في منصة حرمون يرجى الاتصال واتس:
0096176920208
وللانضمام:
مجموعة حرمون للتعليم والإعلام والتدريب:
https://chat.whatsapp.com/HQi7bkJTOGGLYmdqUsKYOB
مجموعة منصة حرمون وندوة حرمون الثقافية:
https://chat.whatsapp.com/HFNrMOLD5TKDxmZTTjYZi3
مجموعة حرمون بالتلغرام:
رادي وحرمون:
https://onlineradiobox.com/lb/haramoon/?cs=lb.haramoon&played=1