د. علي دربج
(أستاذ جامعي محاضر وباحث)
ما زالت الصحف العالمية تبحث في التفاصيل والأسرار لليوم العظيم، الذي أذلت فيه المقاومة في غزة غرور “الجيش الذي لا يقهر”، وتكشف بعض التفاصيل والمعلومات.
يوماً بعد يوم يتكشّف مزيد من الوقائع والقصص، التي فضحت هشاشة الإجراءات والتدابير الأمنية الاستباقية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، من أجل منع عمليات المقاومة في غلاف قطاع غزة، وتثبت بالدليل القاطع عجز جميع أنظمته وتجهيزاته وتحصيناته وأسلحته الدقيقة، وأجهزة الرصد والإنذار لديه، والمصادر الاستخبارية، عن اكتشاف ما كانت المقاومة تحضّره له طوال أعوام خلت، فضلاً عن تفوق المقاومة في لعبة التضليل التي مارستها “القسام” أمام أعين جنرالات “إسرائيل”.
الأكثر إثارة هو الروايات التي توثّق، بالأدلة، نجاحات المقاومة في فصل غرف القيادة والسيطرة الإسرائيلية داخل الكيان، عن الوحدات الاستخبارية والمواقع العسكرية في مستوطنات غلاف غزة، لحظة اجتياحها. وهذا ما جعل القيادات الإسرائيلية في مكان، والجيش والمستوطنين في مكان آخر.
كيف نجحت المقاومة في اجتياح مستوطنات غلاف غزة؟
تُظهر وثائق تخطيط حماس ومقاطع الفيديو الخاصة بالهجوم والمقابلات مع مسؤولين أمنيين غربيين وإسرائيليين، أن مجموعات المقاومة كان لديها فهم متطور لكيفية عمل “الجيش” الإسرائيلي، وأين تتمركز وحدات معينة، وحتى الوقت الذي سيستغرقه وصول التعزيزات.
من هنا، تمكّنت المقاومة الفلسطينية، من خلال التخطيط الدقيق والوعي غير العادي بأسرار “إسرائيل” ونقاط ضعفها، من اجتياح جبهة “إسرائيل” مع غزة، بعد وقت قصير من فجر 7 تشرين الأول/أكتوبر، الأمر الذي أحدث صدمة عميقة، في كيان لطالما عدّ تفوق جيشه عقيدة إيمانية. أمّا كيف حدث ذلك، فإليكم التفاصيل (التي كُشفت حتى اللحظة).
في اللحظات الاولى، استخدمت المقاومة طائرات من دون طيار، دمرت أبراج المراقبة والاتصالات الرئيسة على طول الحدود مع غزة، الأمر الذي أدى إلى فرض نقاط عمياء واسعة على جيش الاحتلال.
أكثر من ذلك، يعترف المسؤولون الإسرائيليون بأن حماس قامت باستخدام المتفجرات والجرارات من أجل إحداث فجوات في الحواجز الخراسانية والسياج الحدودي، الأمر الذي سمح لمجموعات محددة “قليلة العدد” (بخلاف الرواية الإسرائيلية التي تدعي وجود آلاف من عناصر حماس) مدرًَّبة ومجهزة جيداً” بالتدفق، فدخل بعضهم سيراً على الأقدام، وآخرون على متن دراجات نارية وشاحنات صغيرة، واقتحموا المستوطنات، واجتاحوا بالتالي ما لا يقل عن ثماني قواعد عسكرية، وشنوا أيضاً هجمات عسكرية ضد أفراد جيش الاحتلال والمستوطنين (وهؤلاء أغلبيتهم من العسكريين الذين يخدمون في هذا الجيش) في أكثر من 15 قرية ومدينة.
تفاصيل اقتحام المقاومة موقعاً تابعاً للاستخبارات الإسرائيلية
أوكلت المقاومة مهمة السيطرة على أحد المواقع الاستخبارية المركزية، فائقة الاهمية في منطقة غلاف غزة، إلى قوة كوماندوس خاصة لا يتجاوز عددها 10 أفراد، كانوا يعرفون بالضبط كيفية العثور على مركز الاستخبارات المذكور، ويعون جيداً طريقة دخوله.
في أعقاب عبورهم إلى الموقع المحدّد، اتجهوا شرقاً على متن 5 دراجات نارية، وعلى متن كل مركبة مقاومان اثنان، وأطلقوا النار على السيارات العسكرية المارة في أثناء تقدمهم.
وبعد 10 أميال (16 كيلومتراً)، انحرفوا عن الطريق إلى منطقة من الغابات، ونزلوا خارج بوابة غير آهلة، ليعبروا منها إلى قاعدة عسكرية، وقاموا بتفجير الحاجز بعبوة ناسفة صغيرة، ودخلوا القاعدة، وتوقفوا من أجل التقاط صورة شخصية جماعية. ثم أطلقوا النار على جندي إسرائيلي، فأردوه قتيلاً.
للحظة، بدا المهاجمون غير متأكدين من المكان الذي سيتوجهون إليه بعد ذلك، إلى أن أخرج أحدهم شيئاً من جيبه: خريطة مرمزة بالألوان للمجمع. وعلى إثرها، تمت إعادة توجيههم، بحيث وجدوا باباً مفتوحاً لمبنى محصَّن. وبمجرد دخولهم، توجهوا إلى غرفة مليئة بأجهزة الكمبيوتر: مركز الاستخبارات العسكرية.
تم التقاط هذا التسلسل بكاميرا مثبتة على رأس مقاوم (استُشهد لاحقاً)، وتأكّد ذلك من خلال مراجعة اللقطات من جانب الصحافة الأميركية، بما فيها “نيويورك تايمز”، ثم التحقق من الأحداث من خلال إجراء مقابلات مع مسؤولين إسرائيليين والتحقق من الفيديو العسكري الإسرائيلي للهجوم.
تبعاً لذلك، احتوت صور تلك الكاميرات ومشاهدها على تفاصيل صادمة ومرعبة للاحتلال وقيادته، وتسرد كيفية تمكُّن حماس من مفاجأة أقوى جيش في الشرق الأوسط والتغلب عليه، بحيث اقتحمت الحدود واجتاحت أكثر من 30 ميلاً مربعاً، وأسرت أكثر من 150 جندياً ومستوطناً عسكرياً، الأمر الذي أسفر عن مقتل أكثر من 1300 شخص.
كيف عرف لواء النخبة في المقاومة خوادم أنظمة الاتصالات والمراقبة ودمروها؟
كشفت لقطات من الكاميرات المثبَّتة على رؤوس المهاجمين، بما في ذلك فيديو الغارة على مركز الاستخبارات، قيام مسلحين من حماس – من لواء النخبة المدرب (بحسب أقوال الاحتلال) تدريباً عالياً – وهم يقتحمون حواجز عدة قواعد في ضوء الصباح الأول.
بعد الاختراق، أطلق المقاومون النار على بعض الجنود في أسرّتهم وهم في ملابسهم الداخلية. وفي عدة قواعد، عرفوا بالضبط مكان خوادم الاتصالات وقاموا بتدميرها، وفقاً لضابط كبير في “الجيش” الإسرائيلي.
مع تعطّل كثير من أنظمة الاتصالات والمراقبة، لم يتمكن الإسرائيليون، في كثير من الأحيان، من رؤية قوات الكوماندوس قادمة. لقد وجدوا صعوبة في طلب المساعدة والرد. وفي كثير من الحالات، فشلوا في حماية أنفسهم وحماية المستوطنات المحيطة بهم.
وعليه، أظهرت وثيقة تخطيط (تزعم “إسرائيل” أنها تابعة لحماس) – عثر عليها المستجيبون الإسرائيليون للطوارئ في إحدى القرى – أن المهاجمين تم تنظيمهم في وحدات محدَّدة جيداً، وذات أهداف وخطط معركة واضحة.
الوثيقة مؤرخة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، الأمر الذي يشير إلى أنه تم تخطيط الهجوم، منذ عام على الأقل.
ماذا حدث في مستوطنة ناحال عوز؟
يقع كيبوتس “ناحال عوز”، وهو مستوطنة يبلغ عدد مستوطنيها نحو 500 نسمة، على بعد بضع مئات من الأمتار شرقي الحدود مع غزة. بدأت الأحداث في الصباح الباكر مع إطلاق المقاومة صليات صواريخ، في اتجاه مستوطنات الغلاف، بينما اتجه كثيرون من المقاومين إلى عمق الأراضي المحتلة.
تقول احدى المستوطنات في مقابلة صحافية، وتدعى أدي تشيري: “بعدها سمعنا صوت طلقات نارية في الحقول المحيطة بالمستوطنة، ثم انتبهت إلى صراخ زوجي، وهو يقول: يا إلهي. حماس في الكيبوتس! حماس في الكيبوتس!”.
تتابع: “في ذلك الوقت، كانت الساعة 7:20 صباحاً، حينما وصل عناصر حماس، الذين كانوا يحملون بنادق وقواذف صواريخ محمولة على الكتف، ويرتدون عصابات الرأس الخضراء، يتدفقون عبر الأراضي الزراعية”.
كان ذلك جزءاً من هجوم منسَّق، بحيث كشفت الوثائق ومقاطع الفيديو أنه تم تعيين فرق (صغيرة ومختارة بعناية) من المهاجمين لأهداف محددة. وبينما اجتاح البعض القواعد العسكرية، اندفع آخرون إلى داخل المستوطنات، وقاموا بقتل الجنود وأسر آخرين.
تستحضر تشيري مجريات ذلك يوم، فتقول بغضب كبير إنه “كان هناك قاعدة عسكرية في جوار القرية، وعلّقت آمالي عليها، بحيث توقعنا أن قواتها ستصل إلى هنا في غضون دقائق”، لكن ما لم تكن تعرفه هو أن كثيرين من تلك القوات ماتوا بالفعل.
في موازاة ذلك، كان مقاومو حماس على طول الحدود اجتاحوا فعلاً معظم القواعد الحدودية الإسرائيلية، إن لم يكن كلها. واللافت أنه كان للمجموعة هدف محدد – كيبوتس – وتم تكليف المهاجمين اقتحامَ المستوطنة من زوايا محددة. وكانت لديهم تقديرات لعدد القوات الإسرائيلية المتمركزة في المواقع القريبة، وعدد المركبات التي كانت تحت تصرف جنودها، والمدّة التي ستستغرقها قوات الإغاثة الإسرائيلية للوصول إليهم.
وفي أماكن أخرى، تم نشر مهاجمين آخرين عند تقاطعات الطرق الرئيسة من أجل نصب كمين للتعزيزات الإسرائيلية، وفقا لأربعة ضباط ومسؤولين كبار.
أدّت سرعة هجوم حماس ودقته وحجمه إلى وضع الجيش الإسرائيلي في حالة من الفوضى، ولساعات طويلة بعد ذلك، تُرك المدنيون ليتدبروا أمرهم بأنفسهم.
باستخدام المعلومات القليلة التي تمكن من جمعها، قال الجنرال دان غولدفوس (46 عاماً)، وهو قائد مظلي، (كان في إجازة في المنزل): اصطف القتلى الإسرائيليون على الطرق، إلى جانب هياكل السيارات المحترقة والمقلوبة.
وبالقرب إلى كيبوتس “ريعيم”، أشار غولدفوس إلى أنه التقى قائداً كبيراً آخر عن طريق الصدفة. ومثله، هرع الضابط إلى مكان الحادث بصورة غريزية، من دون أي تعليمات، وقام بتجميع مجموعة صغيرة من الجنود.
وبحلول بعد ظهر يوم الأحد، أي في 8 تشرين الأول/أكتوبر، كانت عدة قرى وقواعد لا تزال تتمتع بنوع من الوجود لمقاومي حماس. ولم يتم تأمين المنطقة بأكملها بالكامل لعدة أيام.
في المحصلة، حطّمت المقاومة الفلسطينية هالة “إسرائيل”، وتم قهر جيشها الذي مُنِي بسلسلة مذهلة من الإخفاقات في كل المستويات. والمثير للسخرية، أن قادته يقولون إنه بمجرد انتهاء الحرب، فإنهم سيحققون في كيفية تمكن حماس من اختراق دفاعات “إسرائيل” بهذه السهولة. وإلى ذلك الحين، فإن هذا التحقيق سيتغير، ويصبح عنوانه: كيف انهار جيش الاحتلال عند أبواب غزة. هذا إن كان يمتلك الجرأة على منازلة كهذه.
(المصدر: موقع الميادين)