د. علي دربج
(أستاذ جامعي محاضر كاتب وباحث)
اعتقد القادة الصهاينة أن السياج الذكي الذي وصلت كلفته المالية إلى نحو 3.5 مليار شيكل (1.1 مليار دولار)، واستغرق استكماله أكثر من 3 سنوات، سيوفر درعاً دفاعياً حول المستوطنات القريبة من غزة.
فلسطين المحتلة
سياسة
علي دربج
12 تشرين اول
لأكثر من عقد ونصف عقد، وعلى مدى 6 فترات قياسية بصفته رئيس وزراء الكيان الغاصب، تفاخر بنيامين نتنياهو بإنجاز أمني غير مسبوق هو جعل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تحت السيطرة.
ولكن عندما وقعت عملية “طوفان الأقصى”، واقتحم المئات من عناصر حركة حماس السياج الحدودي الإسرائيلي المحاذي لمنطقة غلاف عزة، الذي بلغت تكلفته مليارات الدولارات، وتمكنوا من تخطيه بسهولة، إما عبر تفجيره وإما القفز فوقه وإما باستخدام الجرافات والطائرات الشراعية، وحتى سيراً على الأقدام، تحطمت في لحظة عقيدة نتنياهو في غزة التي تتعامل مع المقاومة الفلسطينية باعتبارها تهديداً يمكن احتواؤه.
عقيدة الردع الإسرائيلية.. الجدران والأسلاك
في الواقع، كان المفهوم الأمني التقليدي لـ”الجيش” الإسرائيلي يقوم على 3 ركائز متكاملة: الردع، والإنذار المبكر، والنصر الحاسم في ساحة المعركة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم، خاضت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حروبها مع الجيوش العربية التقليدية، وبنى “جيش” الاحتلال قوة هجومية مصممة لردع “أعدائه” عن الهجوم، ومنظومات استخباراتية نشطة وفعالة لاكتشاف متى يتآكل هذا الردع.
لكن بعد الانتفاضة الثانية، أصبحت “إسرائيل” أسيرة الجدران والأسلاك الحديدية الشائكة، فكان بناء جدار الفصل العنصري الذي يفصل فلسطينيي الضفة الغربية عن مستوطنات الكيان (في أعقاب عملية “السور الواقي” 2002)، ثم شرعت في إقامة سياج جديد ومحصن على الحدود بين المستوطنات الإسرائيلية وغزة (وما بين جدار الضفة وسياج غزة، جرى إنشاء عدد من الجدران بمحاذاة حدود كل من مصر وسوريا والأردن ولبنان).
وتأكيداً على ذلك، قال نتنياهو خلال جولة على الحدود الإسرائيلية الأردنية في شباط/فبراير 2016: “في النهاية، في دولة إسرائيل، كما أراها، سيكون هناك سياج يحيط بها”، وأضاف: “سيقولون لي: هذا ما تريد أن تفعله، الدفاع عن الفيلا؟ الجواب هو نعم. هل نحيط إسرائيل بأكملها بالأسوار والعقبات؟ الجواب هو نعم”.
والمضحك أن هذه الجدران بدأت، وفقاً لجنرالات صهاينة، تؤثر في عقلية الجنود والقادة المختبئين خلفهم، إلى حدّ أن “الدولة”، بحسب وصفهم، “أنشأت حواجز عقلية في أذهان المدافعين عنها لا تقل فظاعة عن تلك الموجودة على حدودها”.
ويلفت هؤلاء الجنرالات إلى أن اختطاف جلعاد شاليط عام 2006 أعطى حماس والجهاد حافزاً لتكرار تجربة “تخطي جدران إسرائيل المحصنة” بسهولة وهدوء واطمئنان كبيرين، انطلاقاً من كون هذه العملية شكلت مثالاً مذهلاً للآثار النفسية السلبية المترتبة على البقاء في الجدار. حينها، حفر مقاتلو حماس أنفاقاً تحت السياج الحدودي، وهاجموا مواقع استيطانية ودبابة، وفشل الجنود في الرد بفعالية. وفي التحقيقات، تبين أنهم لم يكونوا يركزون تماماً على وجود تهديد محتمل أو كانوا ببساطة نائمين، على افتراض أن مجرد وجود السياج من شأنه أن يبقيهم آمنين.
زد على ذلك أن أعداء “إسرائيل” واصلوا، بحسب عدد من الضباط الصهاينة، الردّ المنطقي على استراتيجية “الجدار والسياج”، فكثفوا تطوير ترساناتهم الصاروخية والتحليق فوق الحواجز إلى حدّ أن هذا التهديد فتح في نظرهم بالفعل الطريق أمام الدفاع ليأخذ مكانه بين العناصر التقليدية الثلاثة لمفهوم الأمن الإسرائيلي.
لذا، وبعدما نجح حزب الله في مواصلة إطلاق الصواريخ طوال حرب لبنان الثانية عام 2006، قدّمت لجنة ميريدور لعام 2007 المعنية بعقيدة “الأمن القومي” الإسرائيلي عنصر الدفاع، باعتباره الركيزة الرابعة في هذه العقيدة.
وتعقيباً على ذلك، تحدث العقيد يهودا فاخ، قائد مدرسة تدريب الضباط، إلى قادة الكتائب والألوية العاملة على طول السياج الحدودي الإسرائيلي ونشر أفكاره في مقال نشر عام 2019 في مجلة مركز “دادو” التابعة لـ”جيش” الاحتلال الإسرائيلي.
وقال إن “حزب الله وحماس يطرقان السياج، ويدركان أنهما لا يحتاجان إلى التوغل في عمق الأراضي الإسرائيلية لتحقيق مكاسب استراتيجية، ولكنهما يحتاجان ببساطة إلى عبور السياج وتنفيذ هجمات وعمليات اختطاف قربه”، وكتب: “العدو ينفذ استراتيجية حول السياج، فينا نحن نحرس السياج بقوات صغيرة وضعيفة”.
والأكثر أهمية أن فاخ كان قد “توقع أن يسعى العدو (وهنا يقصد حماس) في الحملة المقبلة إلى تنفيذ عملية خطف جنود وإلحاق الأذى بالمستوطنين في البلدات القريبة من السياج، وبالتالي تحقيق أول إنجاز في الحملة”. وخلص إلى القول “إن السياج يخلق وهماً ويعطي إحساساً زائفاً بالأمان لكل من جنود الجيش الإسرائيلي والسكان قرب السياج”.
المميزات التكنولوجية لسياج غلاف غزة وتكلفته المادية
عام 2021، أعلنت “إسرائيل” الانتهاء من “سياجها الذكي” الذي يفصل القطاع عن مستوطنات غلاف غزة، وهو عبارة عن حاجز يشمل جداراً خرسانياً تحت الأرض كدرع مانع للتسلل.
تم الإعلان عن البدء بالمشروع علناً عام 2016 بعدما استخدمت حماس الأنفاق تحت الأرض لمهاجمة “جيش” الاحتلال في حرب عام 2014، إذ تطلب الأمر أكثر من 140 ألف طن من الحديد والصلب. وكان الوصول إلى السياج في جانب غزة يقتصر على المزارعين الآتين سيراً على الأقدام. وفي الجانب الإسرائيلي، أقيمت أبراج مراقبة وكثبان رملية لرصد التهديدات وإبطاء المتسللين.
علاوة على ذلك، يتضمن هذا السياج الحاجز الذي يبلغ طوله 65 كيلومتراً (40 ميلاً) أنظمة رادار ومئات الكاميرات وشبكة من أجهزة الاستشعار تحت الأرض للكشف عن أنفاق المقاومة. وفي مرحلة لاحقة، تم استبدال السياج بـآخر ذكي بارتفاع 6 أمتار مزود بأحد أحدث أنظمة الرصد والكشف والإنذار المبكر في العالم.
ليس هذا فحسب، يضم الحاجز البحري للسياج وسائل لكشف التسلل عن طريق البحر، وأجهزة استشعار بحرية، ونظام أسلحة يتم التحكم فيه عن بعد. ولم تكشف وزارة الأمن الإسرائيلية عمق السور تحت الأرض.
وانطلاقاً من ذلك، اعتقد القادة الصهاينة أن هذا التحصين الذي وصلت كلفته المالية إلى نحو 3.5 مليار شيكل (1.1 مليار دولار) واستغرق استكماله أكثر من 3 سنوات، سيوفر درعاً دفاعياً حول المستوطنات القريبة من غزة.
ولهذه الغاية، أعلن وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك أن “هذا الحاجز، وهو مشروع تكنولوجي إبداعي من الدرجة الأولى، يحرم حماس من إحدى القدرات التي حاولت تطويرها، ويضع جداراً من الحديد وأجهزة الاستشعار والخرسانة بينها وبين سكان الجنوب”.
وعام 2021، قال حينها وزير الدفاع السابق حينها بيني غانتس إن “السياج يشكل جداراً حديدياً بين حماس وجنوب إسرائيل”. وبالرغم من هذا، أسقطت عملية “طوفان الأقصى” كل هذه التحصينات والتجهيزات بلحظات، وأطاحت كل ما عوّلت عليه “إسرائيل” لحماية أرواح مستوطنيها.
كيف اخترقت المقاومة الفلسطينية سياج “إسرائيل” الذكي؟
في الحقيقة، أعرب أكثر من 12 محللاً استخباراتياً وخبيراً عسكرياً غربياً عن دهشتهم من تسلل هجوم حماس الذي اشتمل على غارات منسقة عبر الحدود الإسرائيلية نفذها مئات المسلحين الذين قطعوا مسافات براً وبحراً وجواً في وقت مبكر من يوم 7 الجاري، وأصابوا أهدافاً بدرجة من الدقة لم تشهدها هجمات حماس السابقة.
في المقابل، ما يحزّ في نفوس القادة الصهاينة في المؤسستين السياسية والعسكرية أن الكارثة وقعت، والسياج لم يفعل شيئاً تقريباً لوقف الغزو، إذ مكنت سلسلة مفاجئة من الجهود المنسقة حماس من تجاوز السياج الذي تم اجتيازه عند 29 نقطة، استناداً إلى “الجيش” الإسرائيلي. وعلى الرغم من وجود أبراج حراسة إسرائيلية متمركزة عند كل 500 قدم على طول محيط الجدار في بعض النقاط، فيبدو أن المقاتلين لم يواجهوا مقاومة تذكر.
أكثر من ذلك، استخدم المقاومون المتفجرات لتدمير أجزاء من السياج. كما أن النكسة الكبرى بالنسبة إلى جنرالات الاحتلال أن حماس هدمت جانباً من السياج بالجرافات، ثم توجه مقاتلوها مباشرة عبر الفتحات في سيارات الجيب والدراجات النارية، فيما أبحر آخرون على متن طائرات شراعية، وقفز أفراد البحرية التابعة لحماس على متن قوارب لمحاولة الوصول إلى المستوطنات عن طريق البحر.
بعدها، أسقطت طائرات من دون طيار لحماس متفجرات على أبراج المراقبة، وقصفت البنية التحتية للاتصالات وأنظمة الأسلحة الإسرائيلية على طول الحدود.
من هنا، قال مدير برنامج مكافحة الإرهاب في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى ماثيو ليفيت: “إنه يظل مجرد سياج؛ سياج كبير، لكنه مجرد سياج.. إن فكرة اقتراب الجرار الكبير من السياج إلى هذا الحد تحير العقل على الإطلاق”.
بدوره، أشار مايكل إي. أوهانلون، وهو زميل بارز في معهد بروكينغز، إلى أن “المفتاح هو نقل المعدات إلى مكانها على مدى أسابيع قبل ذلك”، وأوضح أن العديد من المركبات كان من الممكن أن تكون مخبأة على مرأى من الجميع في مواقف السيارات أو مناطق البناء.
في المحصّلة، اكتشف الصهاينة خداع قادتهم بعدما تبدد الوهم، وتحطم الشعور الزائف لديهم بالأمان الآن، وأصحبوا تحت رحمة المقاومة الفلسطينية التي أظهرت في كل مرة قدرة على النهوض من تحت الأنقاض وإعادة تنظيم نفسها وتعزيز قدراتها، بالرغم من كل البؤس والدمار والقتل والتهجير. وبالتالي لم يعد ينفع المغتصبين الصهاينة جدار ولا سياج ذكي. وحتماً بعد هذا الطوفان، توصّل بعضهم إلى فكرة “أن الغبيّ من الإسرائيليين وحده من يبقى في فلسطين هذه الأيام”.
(المصدر موقع الميادين: )
للانضمام:
مجموعة اكاديمية حرمون للإعلام والتعليم:
https://chat.whatsapp.com/HQi7bkJTOGGLYmdqUsKYOB
مجموعة منصة حرمون وندوة حرمون الثقافية:
https://chat.whatsapp.com/HFNrMOLD5TKDxmZTTjYZi3
راديو حرمون:
https://onlineradiobox.com/lb/haramoon/?cs=lb.haramoon&played=1