د. حسن أحمد حسن*
مَن يتابع زيارات وتحركات المسؤولين الأميركيين يتأكد بالدلائل القاطعة التي تصل مرحلة اليقين أنّ الشؤم والخراب والكوارث والموت والدمار، وكلّ روافع الاضطراب وعدم الاستقرار وما تتطلبه من مسبّبات تحضر بشكل أوتوماتيكي إلى مسرح تحرّك المسؤولين الأميركيين الذين يدلون بتصريحات متناقضة جملة وتفصيلاً مع النتائج التي تترتب على تحركاتهم والمناطق الجغرافية التي تشملها، وإذا كان من المتعارف عليه أنّ الغربان تحوم فوق المناطق التي فيها جثث لم يمضِ على موتها وقت طويل، فزيارات المسؤولين الأميركيين نذير شؤم بأنّ تلك المناطق ستشهد الكثير من الجثث المقدّر لأصحابها الموت في المستقبل القريب المتفاوت من عدة أيام إلى عدة أشهر، وكيلا يبقى الكلام عاماً أتوقف عند بعض النقاط المهمة، وما تتضمّنه من دلالات، من الأحدث إلى الأقدم:
*تناقلت وسائل الإعلام المختلفة أنّ وفداً مكوناً من ثلاثة نواب أميركيين بينهم عضو الحزب الجمهوري فرانش هيل دخلوا إلى مناطق في شمال سورية تسيطر عليها ميليشيات مسلّحة تعمل تحت الرعاية التركية وبإشرافها، وبعضها يخضع لسيطرة مسلحي “هيئة تحرير الشام” أيّ القاعدة سابقاً، وقد اطلع النواب الأميركيون على معبر “السلامة” الحدودي ومناطق ضربها الزلزال، وعدد من المستشفيات، واطلعوا على الوضع المعيشي والخدمي في تلك المناطق. وهنا يجد القارئ المحلل نفسه أمام كمٍّ لا متناهٍ من التساؤلات المشروعة ومنها: أما يزال تنظيم القاعدة وفرعه المستحدث “هيئة تحرير الشام” على لوائح الإرهاب وفق تصنيفات المنظمة الدولية؟ وماذا يعني تداخل عمل سيطرة الميليشيات المسلحة التابعة لتركيا مع مناطق سيطرة تنظيم القاعدة؟ وهل زيارة النواب الأميركيين للجانبين بسلام وأمان وطمأنينة تؤكد أنّ الطرفين مرؤوسان مباشران عند سيدهم الأميركي، أم لا؟ أليس من المنطق أن يتمّ الربط بين تلك الزيارة وبين حدة التصعيد ضدّ الجيش العربي السوري من قبل “هيئة تحرير الشام” والميليشيا التركية التي مهّدت للزيارة قبل عدة أيام؟ وفي الوقت نفسه ألا يمكن فهم العدوان الإسرائيلي الذي أخرج مطار حلب المدني عن الخدمة ضمن فصول المسرحية الأميركية الممجوجة التي يتمّ تصديرها بمنطق لا يقنع طفلاً يافعاً يريد استخدام عقله في فهم حقيقة ما يجري وتداعياته؟ وإذا تذكرنا أنّ النواب الأميركيين الزائرين كانوا وغيرهم من مجلس النواب الأميركي الذي رفض في التاسع من آذار الماضي مشروع قرار تمّ تقديمه لانسحاب القوات الأميركية من سورية، لكنه سقط بانجراف كاسح لنواب حماة “الديمقراطية” و”حقوق الإنسان”، لأنّ استمرار احتلال أراضٍ في دول مستقلة ذات سيادة يتناسب تماماً والمفهوم الأميركي للديمقراطية، طالما تلك المناطق المحتلة غنية بثرواتها وتساعد في الانتقام من الشعوب التي ترفض الإذعان للإدارة الأميركية، ومحاربة تلك الشعوب بحبة الدواء وقطرة الماء ورغيف الخبز ولو أدّى الأمر إلى إبادتها؟ لكن هيهات لهم هيهات أن يبلغوا أهدافهم الشيطانية الشريرة، ويبقى التساؤل الأهمّ والمشروع: هل التقى النواب الأميركيون أياً من المكلفين بالتصعيد وإشعال النار لإحراق الجنوب السوري إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً؟
*وزير الدفاع الأميركي السابق، كريستوفر ميلر حضر في 16/8/2023 إلى مناطق في شمال وشمال شرق سورية، والتقى قيادات من “قسد” وما يسمّى “الإدارة الذاتية”. وتباهت وسائل الإعلام لمن التقاهم ميلر بأنه شدّد على “ضرورة حماية ما تمّ تحقيقه من مكاسب ضدّ الإرهاب وضرورة الدعم الأميركي للإدارة الذاتية والحفاظ على هذه التجربة النوعية في المنطقة. وهذا النموذج وربط هذا الدعم بتحقيق الاستقرار وفناء الإرهاب”. وهنا أيضاً تطفو إلى السطح تساؤلات كثيرة مشروعة، ومنها: عن مكافحة أيّ إرهاب يتحدث ميلر وبلاده التي كانت وراء تصنيع داعش والنصرة وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة باعترافات رسمية صدرت على ألسنة مسؤولين أميركيين؟ وكيف يمكن فهم تصاعد عمليات داعش ضدّ الجيش العربي السوري والقوافل المدنية والمدنيين بالتزامن مع تلك الزيارة المشؤومة؟ وإذا أردنا توسيع دائرة البيكار قليلاً قد نرى تساؤلاً أخطر، فالاشتباكات الدامية بين قسد والتنظيم المسلح الآخر الذي أشرفت القوات الأميركية على تدريبه وتسليحه كانت متزامنة أيضاً مع زيارة ميلر، وكلا الطرفين يعملان تحت رعاية واشنطن. وإذا تساءل أحدهم وقال: وكيف يمكن فهم ذلك؟ أجيبه بالقول: إنها سياسة “كيس الفئران” المطلوب خضّه وتحريكه كيلا تفكر الفئران بقضم الكيس المحبوسة فيه، فـ “قسد” ثبت أنها غير قادرة على تنفيذ الدور الوظيفي الذي أنيط بها، و”الجيش” الذي يتمّ تعزيزه أكثر فأكثر لينفذ ما عجزت قسد عن تنفيذه يحتاج لفرض سطوته وفق المشيئة الأميركية وليس خارج علمها وتوجيهاتها، وخلق صراع بين الطرفين يجعلهما أكثر انبطاحاً وانقياداً وإذعاناً للتقيّد بالتنفيذ الحرفي لكلّ ما يطلب من أيّ منهما، ولذا يتمّ دعم الجانبين ولا ضير من إفناء بعضهما بعضاً، والنقطة الأخرى يمكن لحظها من خلال الحرص الأميركي على إبقاء المنطقة متوترة، وخلط البعد القبلي والعشائري، بالبعد العربي والهوية الوطنية. فهذا يساعد في تأخير تبلور مقاومة شعبية وطنية فاعلة ضدّ قوات الاحتلال وأتباعها، وهذا ما تعمل عليه القوات الأميركية في السر والعلن.
*النقطة الأخطر في زيارة ميلر هي تلك المتعلقة بتأكيده على: ضرورة الدعم الأميركي للإدارة الذاتية والحفاظ على هذه التجربة النوعية في المنطقة، وقد لا يجد المتابع كبير عناء ليرى بأمّ العين العمل على بلورة ذلك على الأرض من خلال الاضطرابات التي تشهدها محافظة السويداء بمباركة أميركية وإشراف ومتابعة على مدار اللحظة، فهل يعي أبناء الوطن من أهلنا الأعزاء في جبل العرب هذه الحقيقة اليوم قبل الغد؟ نأمل ذلك.
*في الرابع من آذار/ مارس 2023 حطّ الرحال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي في قاعدة أقامها الاحتلال الأميركي في شمال شرق سورية، والتقى بقواته المنتشرة هناك مدّعياً أنّ حضوره لتقييم الجهود المبذولة لمنع عودة ظهور الجماعة المتشدّدة ومراجعة إجراءات حماية القوات الأميركية من الهجمات، وأنّ نشر تلك القوات في سورية منذ ما يقرب من ثمانية أعوام لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) لا يزال يستحق المخاطرة، مع ملاحظة أن تلك الزيارة السرية لمارك ميلي جاءت عقب زيارته إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي ألا يمكن ربط كلّ التصعيد الذي شهدته الأشهر المنصرمة على أنه تنفيذ لأمر العمليات الذي أسنده “ميلي” إلى قواته وجميع التنظيمات المسلحة العاملة في الكنف الأميركي. ومن جديد يصبح التساؤل مشروعاً أيضاً: هل كانت الفترة السابقة تمهيداً لما يهدّد محافظة السويداء هذه الأيام؟
النقطة الأخرى المتعلقة بهذه الفقرة خاصة بالتصريحات الأخيرة لمارك ميلي عبر مقابلة تلفزيونية أجرتها معه قناة أردنية في 23/8/2023، والتي استبعد فيها خروج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وأضاف أنهم سيلتزمون “بالبقاء سنوات كثيرة وعقوداً كثيرة مقبلة»، ومن المهمّ التوقف عند هذه النقطة، فمن قال لمارك ميلي إنه باستطاعة بلاده الإبقاء على قواتها لعقود؟ وهل يمكن تفسير ذلك كحقنة لرفع معنويات الأدوات التنفيذية المرتبطة بالقوات الأميركية على الأرض كي تطمئن، وترفع أكثر فأكثر حدة التصعيد الميداني للانتقام من الدولة السورية شعباً وجيشاً وقيادة لأنهم منعوا المشروع الأميركي من المرور على الجغرافيا السورية رغم التكلفة الباهظة جداً التي دفعت، والأخرى التي يمكن أن تدفع لإخراج المحتلّ الأميركي وأعوانه وأدواته القذرة من المنطقة بكليتها؟ وهل يمكن للمتابع المدقق أن يشتمّ رائحة ما يخطط للسويداء الغالية في هذه التصريحات المشبوهة والخبيثة لرئيس هيئة أركان الجيوش الأميركية، أم لا…؟
سؤال أتركه مفتوحاً، ولا أعتقد أنّ المدة ستطول لتتضح معالم الجواب الصحيح عليه، ويقيني أنه سيكون مخالفاً لما يتمنّاه مارك ميلي، ومُخيّباً لآمال أصحاب مشروع التشظية والتقسيم. فمستقبل المنطقة يحدّده أبناؤها وشعوبها العريقة الحريصة على كرامتها وحقها في أن تعيش وفق ما تريده، لا وفق ما يريده الظلاميّون الجدد وعشاق الجاهلية الأولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.
البريد الإلكتروني للكاتب: