عندما أعلن ترامب – الرئيس الأميركي السابق – رؤيته للسلام في الشرق الأوسط والتي أسميت يومها بـ “صفقة القرن”، كان واضحاً أن تلك الصفقة، كما أعلنت، تمسّ بالحقوق وبالمصالح اللبنانية في أكثر من محل، لكن الأهمّ في ذلك كان أمرين، الأول يتعلق باللاجئين الفلسطينيين وفيه الاتجاه إلى توطينهم في دول اللجوء ومنها لبنان الذي يؤوي حالياً ما يناهز الـ 600 الف فلسطيني (يدّعي الأميركيون خلافاً للحقيقة أنهم 200 الف فقط)، والثانية تتعلق بالأرض والحدود اللبنانية، حيث ضمّت خريطة صفقة القرن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بكاملها الى الأرض التي تحتلها “إسرائيل” في فلسطين وأسقطت صفة الديمومة والدولية والنهائية عن حدود لبنان مع فلسطين المحتلة، تلك الحدود التي كرّست باتفاقية بوليه نيوكمب 1923 وأكد عليها باتفاقية الهدنة 1949، لكن ترامب جاء في خطته أو رؤيته للسلام وأطاح بها وأبرزها على الخريطة المرفقة برؤيته بخط متقطع، وهو في المصطلح القانوني يعني المؤقت الذي يحتاج إلى إرادة الطرفين لتثبيته. ما يعني أنه نقل الحدود من منطقة الحق الثابت المسلّم به إلى دائرة النقاش والخلاف عليها.
بعد أن وقفنا يومها على هذا الانتهاك الأميركي لمصالح لبنان وحقوقه من باب “صفقة القرن” ورفعنا الصوت عالياً ضدّه وطالبنا الحكومة اللبنانية بموقف حازم يحفظ تلك الحقوق والمصالح وانتظرنا أن يقدِم لبنان الرسميّ على رفض هذا الاعتداء خاصة أنّ كلا الأمرين منصوص عليهما في الدستور اللبناني الذي يرفض التوطين ويؤكد على الحدود الدولية. بعد كلّ ذلك تثاقل المسؤولون اللبنانيون في التحرك لمواجهة الخطر، لا بل سقط بعضهم في الفخ الأميركي وراحوا يتحدثون عن “ترسيم حدود برية” بشكل يحاكي أو يستجيب للخطة الأميركية المُسقطة لنهائية الحدود وثباتها ما جعلنا وآخرين من المعنيين بالشأن “نخوض حرباً قانونية ومصطلحية” انتهت بعد سنوات الى تمسك لبنان الرسمي علانية بهذه الحدود ورفض الترسيم لها مجدّداً والتأكيد على مسألة ترميم علاماتها ميدانياً (marquage) بعد أن عبثت “إسرائيل” بالمعالم الحدودية فدمّرت بعضها واقتلعت بعضها الآخر، ورغم كلّ ذلك لا زلنا بين الحين والآخر نسمع من هذا المسؤول الرسمي اللبناني أو ذاك عبارة “ترسيم الحدود البرية” مع فلسطين ينطق بها جهلاً او خفة او تآمراً لا أدري، لكن يستعملها وتكون النتيجة إضرارا ًبالحقوق اللبنانية.
أما في المسالة الأخرى أيّ مسألة التوطين. فقد كان جلياً أنّ هذا التوطين لا يمكن ان يحصل بسلاسة وسهولة كما يشتهي الأميركي لسببين: سبب قانوني وفيه النص الدستوري المانع، وسبب عملي موضوعي متصل بطبيعة وواقع المخيمات التي يسكنها الفلسطينيون، ولذلك كانت خطة بومبيو للبنان التي أطلقت في العام 2019 وتضمّنت في مراحلها الخمس ما ينبئ بأنّ لبنان سيوضع تحت حصار اقتصادي يؤدّي الى انفجار أمني ويفضي الى اقتتال داخلي لبناني ـ لبناني وفلسطيني ـ لبناني وفلسطيني ـ فلسطيني، اقتتال ينتهي الى تدمير المخيمات وإفراغها من أهلها الذين يتوزّعون عندها بين فئة تغادر لبنان وفئة تتغلغل في النسيج اللبناني ويكون ذلك مقدّمة للتوطين الذي تعمل عليه أميركا.
هذه المخاطر والهواجس عززتها أحداث ووقائع وخطط وسلوكيات كان آخرها الاقتتال غير المبرّر والبالغ الشراسة والخطورة في مخيم عين الحلوة، ثم كان ما نشر عن وثيقة أعدّتها سفارة عربية تضمّنت تحركات عسكرية أميركية حول مخيم عين الحلوة والاهتمام الشخصيّ لقائد المنطقة الأميركية الوسطى الجنرال فوتيل وزيارته إلى محيط المخيم من أجل الاستطلاع الميدانيّ لوضع الخطط المناسبة للإجهاز عليه، ولتكرار ما حصل في مخيم تل الزعتر الذي اقتلع من الوجود كلياً في العام 1975.
أما عن الاقتتال الأخير في مخيم عين الحلوة والذي توقف والحمد لله بمسعى لبنانيّ، فإننا نعود ونؤكد بأنه قتال لم يكن مبرّراً ولم يكن صحيحاً اللجوء الى الحلّ العسكري للردّ على فعل أو ثأر أو جريمة ارتكبت، بل كان المنطق يفرض اللجوء الى الحلّ الأمني المنسق مع الدولة اللبنانية، وهو حلّ يكون أكثر نجاعة ورشاقة وأقلّ كلفة ولكن لم يعمل به وهذا ما يثير الريبة، الآن وبعد أن حصل ما حصل وفشلت الحلول العسكرية وتسبّبت بخسائر كبيرة في البشر والحجر نخشى أن تكرّر التجربة وتستعاد المواجهة التي إنْ حصلت مجدّداً فإنها لا تخدم إلا “إسرائيل” وتسهل الخطة الأميركية الرامية لإفراغ المخيم من أهله لتهجّرهم خارج لبنان أو توطنهم فيه.
إنّ هذه الخشية تسكننا اليوم خاصة أنها انْ تحققت تسدي خدمات هامة لـ “إسرائيل” وأميركا لا تنحصر بالمخيم والفلسطينيين بل تتمدّد الى خارجه وتمسّ بأمن لبنان وتفاقم مفاعيل الحصار الأميركي ومخاطر خطة بومبيو وآثارها التدميرية للاقتصاد اللبناني من جهة، كما أنها من جهة أخرى تمسّ بأمن المقاومة والسكان المتحركين على الطريق الى الجنوب ومنه، وهو أمر بالغ الخطورة، لذلك ينبغي العمل وبكلّ جدية لتثبيت وقف إطلاق النار ونزع الهواجس وسحب الذرائع مهما كانت هذه الذرائع التي يتكئ عليها للعودة الى خنادق القتال مجدّداً داخل المخيم أولاً ثم التمدّد الى خارجه ثانياً.
إننا ورغم اعتقادنا الراسخ بأنّ “صفقة القرن” لن تكتمل وأنّ موجة التطبيع تتعثر، إلا أننا ومعرفة منا بأسلوب العمل الأميركي الذي يقوم على فكرة التأجيل والتمديد وتكرار المحاولة في كلّ مرة يخسر او يخفق في إنجاح خطة ما يضعها موضع التنفيذ، ولذلك ابتدع ما أسماها “استراتيجية إطالة أمد الصراع “حتى يبعد عن نفسه الإقرار بالهزيمة اذا حلت به، لذلك يجب الحذر الشديد والتأكيد على انّ مخرجات “صفقة القرن” في ما خصّ لبنان لا تزال على الطاولة وأنّ إعادة النظر بالحدود البرية مع فلسطين لإعادة ترسيمها من جديد لإعطاء “إسرائيل” ما تشتهي من قمم لبنان وأرضه هو أمر قائم لدى أميركا، كما أنّ مسألة التوطين هي هدف أميركي إسرائيلي لا تراجع عنه من قبلهما، وعلى الفلسطينيين الحذر الشديد من ذلك لأنه يهدم حقاً هاماً من حقوقهم الكبرى أيّ حق العودة، وعليهم ان لا يسهّلوا للأميركي خطته وأن يمتنعوا عن الاقتتال الداخلي مهما كان السبب والذريعة، وليكن مبدأ “لئن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ” هو قاعدة التعامل في الداخل الفلسطيني.
أما الحكومة اللبنانية ورغم وضعها الدستوري غير العادي فإنها مطالبة اليوم بالتصدي لمخاطر “صفقة القرن” على لبنان. فالصفقة التي لا تزال على الطاولة تنتج مفاعيلها وأخطارها، لذلك، وبالإضافة الى وجوب الحذر والحيطة المطلوبة لمواجهة الأخطار الأمنيّة – المسؤولون المعنيون يعرفونها جملة وتفصيلاً – فعليها توجيه كتاب الى الأمم المتحدة والدول الأعضاء في مجلس الأمن تؤكد فيها رفضها المسّ بحقوق لبنان في حدوده وأرضه ورفضه لتوطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين فيها مهما كانت الأسباب والذرائع. وعليها أن تقوم بأعلى درجات التنسيق مع سورية والفلسطينيين خدمة للمصالح المشتركة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي.