فاطمة شحوري*
(باحثة من لبنان)
لم نعرف من المنتجاتِ الأدبيّة المطروحة في سوق الاستثمار الفكريّ والثّقافيّ، خلال حقبٍ زمنيّةٍ خَلَت إلّا تلك النّصوص الخرساء الّتي توظّف في تواصلها شبكةً من الوحدات اللّغويّة والبنيويّة والأيديولوجيّة المتّسقة على صفحاتٍ ورقيّةٍ بيضاء تخلو منها الأصوات المختلفة والألوان المتشابكة والصّور المتحرّكة، فلا تتراصّ مع الكلمات في مشهديّة المعنى الغائيّ، ولا تنفتح أمام القارئ إلّا من نافذة الرّؤية البصريّة المُبرمجة على الرّسم الحرفيّ فقط، الأمر الّذي يُكثّف دوره في مُساءلة هذه النّصوص، ويُضاعف احتمالاته التّأويليّة للقبض على الدّلالة النّهائيّة الّتي قد لا تُدرَك.
بَيْد أنّ الدّفق التّكنولوجيّ الّذي عزّز التّواصل الإنسانيّ أفرز نوعًا جديدًا من الإنتاج الأدبيّ يتعالق مع آليّاته وتقنيّاته، ويتهيكل مع تطبيقاته وتحديثاته، فإذ بنا إزاء نصوصٍ يُثرثر فيها اللّون والموسيقى والنّبر… ويشتغل فيها السّمع مع البصر في توزيعٍ عصبيٍّ معرفيٍّ وعاطفيٍّ على النّسق الكلاميّ الممتزج بكوكبةٍ من العناصر الشّكليّة والسّمعيّة المتنوّعة، وإذ بنا في الآن عينه إزاء كاتبٍ مخرجٍ ممثّلٍ يؤدّي دوره على مسرحٍ إلكترونيٍّ، أمام جماهير متعلّمةٍ وأُمّيّةٍ مثقّفةٍ وجاهلةٍ، ليحرّر نصّه من سلطة المثقّفين والموهوبين، ويفتحه للعامّة، فيتلقّفه أغلبهم ويحفظونه وينشرونه، لأنّ إحدى مؤثّراته أتاحت لهم بعض تأويلاته. وفي بعض تأويلاته ما يتماسّ مع تجاربهم وخبراتهم الإنسانيّة. لكن هل أسرف شعراء الأدب الرّقميّ في الاهتمام بالإضافات الحسّيّة على حساب الاهتمام في المتن الشّعريّ؟ وهل ساهم هؤلاء في تشتيت الأذهان عن البعد الدّلاليّ الغائر لصالح المصطلح الوَسم، أم أنّهم نجحوا في توظيف كلّ الحواسّ في خدمة التّأويل الدّلاليّ؟
يُعَدّ “مهدي منصور” شاعرًا معاصرًا من الّذين حضروا بقوّةٍ في السّاحة الثّقافيّة اللّبنانيّة، وقدّموا القصيدة التّفاعليّة المتأثّرة بروح العصر وسِماته، ولعلّ قصيدته “قدّاس الجمعة في بيروت” هي أبرز تلك القصائد، لأنّها تنفتح على مشهديّةٍ غنيّةٍ بالتّفاصيل ومشبعةٍ بالتّضمينات. هذه المشهديّة هي كنيسةٌ مليئةٌ بالمقاعد الفارغة، والكتب المتطايرة المُحلّقة باتّجاه النّافذة. ويُشكّل اللّون الرّماديّ المتدرّج، مع اللّون الأسود غطاءً لهذا المكان وحدادًا لا يكسره إلّا ذاك الضّوء المنبعث من النّافذة.
هذا المكان يبدو للوهلة الأولى مكانًا مهجورًا تسكنه الأشباح وتتصارع فيه، لكنّ التّحديق فيه يُظهر الأشباح كتبًا متقاذفةً تنسلّ نحو النّور. فما الّذي أكسب هذه الكتب صورة الأشباح، لونها أم انتشارها اللّامنطقيّ؟ وما الّذي صبغ الكنيسة بألوان الرّعب، ونحن الّذين اعتدناها زاهرةً صاخبةً؟ وأين هذه الكنيسة الّتي تحمل أمارات الموت، وتتفرّد بكلّ هذه الوحشة والأسى؟ ولماذا تخترق الكنيسة موسيقى فيها من صمت الحزن وهدوئه أكثر من عويله ونحيبه، وفيها من أنين الحسرة والخواء والتّلاشي بقدر التّحدّي والقوّة والثّبات؟
إذا أردنا أن نؤوّل عناصر هذه المدوّنة البصريّة والسّمعيّة بسياقٍ كلاميٍّ أدبيٍّ قبل ولوج القصيدة، فإنّنا نلقاه موزّعًا على قطبين غير متساويين: القطب الواسع، هو قطب المكان الدّينيّ الثّقافيّ المحمّل بالسّوداويّة والهجران والفزع، والقطب الضّيّق نافذة النّور الّتي تمثّل روح الأمل والخلاص من العتمة. ولذلك، تسعى الكتب الّتي طالها ما طال المكان من سوداويّةٍ، بعد أن أُهملت وتوقّفت عن دورها المتمثّل بالإرث الثّقافيّ والمعرفيّ للمكان المقدّس، إلى استعادة دورها ومسؤوليّتها وألوانها الّتي ستزهر حتمًا في هذا المكان من جديدٍ.
بعد ذلك ينبثق العنوان باللّون الأبيض ليُعلن أنّ بيروت موقع المكان المقدّس، ثمّ يطلع علينا صوت الشّاعر بنبرةٍ واثقةٍ، ويُجري على لسان لبنان افتتاحيّةً تُفصح عن حالته المأسويّة، مع إيمانه ويقينه بالبعث بعد الموت، يقول:
أطلِ الأسى وانحرْ صبايَ، ولا تخفْ أنا كالهلال أعودُ حينَ أموتُ.
عقب ذلك تستنفر حاسّة السّمع على صوتٍ آخر يُحاور صوت لبنان، صوتٍ يبدو أشدّ استغرابًا وتأثّرًا بهيئة لبنان الحيّة والمُلهمة على الرّغم من الموت الّذي يُصهر باطنه، وعلى الرّغم من النّار المشتعلة في أرضه، ويشتدّ تأثّر هذا الصّوت ويرشح عن صاحبه حبٌّ وعشقٌ كثيران، في حين تبقى حاسّة البصر مشغولةً بجداريّة الموت والأمل بالقيامة، يقول:
لبنانُ كيفَ سماكَ تَعبَقُ بالمدى وحيًا، وأرضُكَ رملُها كبريتُ
وطني أتنكسرُ البيوتُ حزينـــــــةً وبيوتُ كلَ العاشـــقينَ بيوتُ؟
ثمُ يتأهّب السّمع والبصر ويتّحدانِ معًا لرسمِ الفضاء القصائديّ كما يتأهّب لبنان بكامل حواسّه المجسّدة بالشّعراء والمضحّين من أبنائه لحراسته وهزيمة أحزانه، لما لهم من خصيصة القوّة الكامنة والجبروت المستمدّ من مجد الأرز وعراقة بيروت، يقول:
يتنــــزّلُ الشّــــــــــعراءُ كلّ عشـــــــــيّةٍ ويُعرّشُ الشّــــــــهداء والياقــــــوتُ
شعبٌ إذا مـــــــــا الفقرُ حلّ بِـــــــــداره كَتمَ الجراحَ وقلبُه مكبــــــــــــــوتُ
لو تُحشَدُ الدّنيا على إخضــــــــــاعه ينمـــــو بحجمِ عذابه الجبروتُ
هبني أكُن ألمَ الجراحِ… دمَ الإبا ما همّي إن ذُبْتَ بي وشَقيـــتُ
مادامَ مَجــــــدُ الأرزِ يسكنُ جبهتي وتنامُ بين حقــــــــــائبي بيروتُ
وفي المناخ ذاته الّذي تتشابك فيه الأذن مع العين لتوليد مدوّنةٍ شعريّةٍ تفاعليّةٍ، تنكشف أمامنا قصيدة “هلالٌ ذاك أم جسدي؟!”، مشرّعةً السّتار عن جلسةٍ ليليّةٍ تجمع الشّاعر بموسيقارٍ يُخضع المكانَ لحاكميّة عوده المبتهل الحزين، فيملأه صفاءً وروحانيّةً وعتقًا من قبضة القوّة والتزاماتها، إلى لذّة الاستسلام للضّعف والعجز والبكاء. ثمّة في هذه الموسيقى المنبعثة، وفي المكان القديم المكشوف على المدى، وفي هيئة الشّاعر الخاشعة، حنينٌ إلى الاحتواء، وسعيٌ نحو الالتصاق بالطّاقة الكونيّة الكبرى، كأنّنا في رقصةٍ صوفيّةٍ يؤمّها شيخٌ درويشٌ يتجاوز في أدائها الحفظ وربقة الفروض، إلى الإتيان بها شعرًا يُعبّر فيه عن آلامه وضيقه ورغبته في أن يفتح الله له أبوابه الموصدة، ليشهد دموعه وانكساره، وعدم قدرته على تأجيل البوح بجراحه، يقول:
أبوابُ بيــــتك هذا اللّيلِ موصَـــــــدةٌ والسُّـــــــورُ حتّى لســــــــيل الدّمعِ لم يَحِـــــدِ
فكيفَ أجمـــــــــعُ آلامـــــــــــــــي لنافلــــةٍ وكيفَ أُسكتُ هذا الجرحَ في خَلَـــــــــدي؟
ويطعن هذا الدّهر في خنقه، ويطعن هو في التّوسّل والعتاب وبثّ الشّكوى، ليجذبه الله إليه ويبرئه من تصدّعاته ومعاناته، وتكثر في الآن عينه حركات يديه وهزّة رأسه راثيةً نفسه متأسّفةً على ما تعرّضت له من آلام الصّلب والمحنة، وهي الّتي لم تُبشَّر بنبوّةٍ ورسالةٍ! فكيف بها أن تحمل هذا الأذى كلّه، إن لم تُسَدَد وتحلّ فيها روح اللَه؟! يقول:
يا ربّ، والطّــــــــرقاتُ امتدّ آخـــــــــرها وحِــــــــبالُ العُمــــــر مــن مَسَـــــــدِ
وهذه الأرضُ ما ضاقَتْ على أحَدٍ فكيفَ، يا ربّ، ضاقَتْ في أحدِ؟!
كأنّ ما بي مسيحٌ من دمٍ وأسـىً لكنّ مريم هذا القـــــــلب لم تــــــــلدِ
ثمّ تتضخّم هذه الأحزان عنده وتشمخُ بحجمِ مئذنةٍ تُشيرُ إلى كلّ المتعبّدين ليأتوها ويُلقوا آلامهم الجمّة عندها، لأنّه رسولٌ يتعبّد بتحمّل آلام الآخرين، ويتقرّب من ربّه متشوّقًا متحرّقًا كلّما توسّعت مساحة هذه الآلام في كيانه، وهذا ما يجعله شبيهًا بمسجدٍ يؤمّه النّاس ليتخفّفوا ويجنّحوا باتّجاه الضّوء، يقول:
أمشي وقامة حزني طولُ مئذنةٍ وكلّ ما كتــــــــــــــــب الزّيتون معتقدي!
وفوق ظهري حنيني حملُ قافلةٍ حتّى اشتَبَهْتُ: هلالٌ ذاكَ أم جسدي
إذًا، لقد أردفت القصيدة الرّقميّة المتن الشّعريّ بخارطة عبورٍ نحو الدّلالة، ومكّنت المتلقّي من الوصول إلى وجهتها، من خلال تكثيف الإمكانات التّأويليّة، وإشغال السّمع بالكلم والنّغم، وفكّ الضّغط عن حاسّة البصر المضبوطة على رؤية القوافي، وتغيير إعداداتها لتنظر الرّسم واللّون والحركة، فكانت حدثًا تجديديًّا كثّف التّأويل بتكثيف الحواسّ.