ما يجري في سورية من تطورات أمنية في محافظة السويداء، وفي منطقة الحسكة وشرقي الفرات، وإعادة تحريك غرفة الموك، ينبئ بأحداث دراماتيكية خطيرة. فالأميركي ومن يسير وراءه من حلفاء وعملاء ومرتزقة، لن يترك المنطقة المشرقية، ولن يتراجع عنها كما تصوّر العديد من “المحللين” الذين ذهبوا بعيداً بشططهم، بعد “انسحاب” الولايات المتحدة من أفغانستان، حيث دبّت فيهم النشوة والحماس بعد الذي جرى، ما دفعهم الى الجزم بأنّ واشنطن انهزمت وتركت الساحة المشرقيّة خالية لروسيا، حتى تتفرّغ مستقبلاً لمواجهة الصين في جنوب شرق آسيا!
ليس بهذا الاندفاع العفويّ والحماس المفرط يتمّ رصد تطورات الأوضاع في منطقة الشرق الأدنى، التي تبقى على الدوام، واحدة من أبرز وأهمّ المناطق الاستراتيجية في العالم، التي تسيّل على الدوام عبر التاريخ، لعاب الدول العظمى وسياساتها الاستراتيجية التي بها تقود العالم وتسيطر على قراراته .
لا، لم تتراجع الولايات المتحدة من تلقاء نفسها عن هيمنتها وتسلطها واستغلالها للمنطقة، لم ولن تتوقف قراراتها وعقوباتها، وإجراءاتها الشرسة التي تشتدّ يوماً بعد يوم في العراق وسورية وإيران، ولبنان وغيره، بعد أن انتكست في ترتيبها لأوضاع ومستقبل دول غربي آسيا وفق مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، كي تقبض عليها وتتحكّم بقرارها ومصيرها.
كانت سورية لواشنطن منذ البداية، الشوكة في حلقها، وعقدة العقد، في إفشال مشروع سلام الأمر الواقع الأميركي – الإسرائيلي، الذي يهدف إلى إنهاء الصراع العربي – “الإسرائيلي” على حساب شعب بأكمله، وفي ما بعد إخضاع المنطقة كلها ووضعها تحت هيمنة ونفوذ الولايات المتحدة لتكون مستقبلاً في خدمة مصالح واشنطن والكيان “الإسرائيلي”.
ليس غريباً او مفاجئاً إذن، أن تتحرك اليوم وفي الوقت نفسه، فصائل إرهابية، ومجموعات مشبوهة، وعناصر مرتزقة مسلحة، وخلايا نائمة في أكثر من مكان، في سورية والعراق، ولبنان، يؤازرها تحرك ودعم عسكري ولوجستي أميركي لها، مع فرض المزيد من العقوبات الأميركية اللاإنسانية المستبدّة، على دول وأفراد، ومؤسّسات في دول المنطقة، وعلى رأسها سورية.
واشنطن تعمد إلى ممارسة المزيد من الضغوط وشدّ الخناق على الشعب السوري وتجويعه، لدفعه إلى العصيان ضدّ السلطة المركزية، بغية حملها على الاستسلام، وفرض الأمر الواقع الأميركي عليها. لا سيما بعد أن فشل الرهان الأميركي – الإسرائيلي على إسقاط الأنظمة الوطنية في دول المنطقة الرافضة بالشكل والأساس للهيمنة الغربية، عن طريق القوى، والمجموعات، والفصائل المسلحة الإرهابية التي لقيت دعماً متواصلاً على كلّ المستويات من جانب واشنطن وحلفائها في المنطقة، لم يبقَ أمام الأميركي إلا أن يشدّد من حصاره، وعقوباته، علّ الظروف المعيشية الصعبة تصبح السلاح القاتل والأفعل، الذي قد يُجبر المواطنين وإنْ كانوا موالين للنظام، للتحرك ضدّه، وتحميله كامل المسؤولية عما هم فيه.
إنّ ما هو أخطر من تحرّك المواطنين والتنديد بالوضع المعيشي الصعب في جنوب سورية وغيرها، هو انحراف فئات من الشعب بمطالبها المعيشية، لتأخذ هذه المطالب أبعاداً طائفيّة مشبوهة خطيرة جداً، حيث تؤجّجها أياد خارجية، تؤدّي إلى نتائج وتداعيات كارثية على سورية، وحدة، وسيادة، وأرضاً، وشعباً وأمناً.
ما يجري في السويداء ومحافظة الحسكة، لهو مؤشر خطير لن يقتصر على سورية وحدها، وإنما سيطال رقعة الدومينو للمنطقة المشرقية، إنْ لم تواجَه الأمور بحكمة وحزم، ومسؤولية وطنية عالية. إنها الفرصة الذهبية التي يجدها الأميركي سانحة له للانقضاض مرة أخرى على سورية، عبر عملاء ومرتزقة الداخل الذين يشكلون له الغطاء وجسر العبور الى قلبها.
إنّ طائفة الموحدين الدروز التي ما كانت يوماً إلا رمزاً للوطنية والكرامة، وقد سطّر أبناؤها بنضالهم ضدّ المستعمر صفحات مشرقة من تاريخ سورية، حيث كانوا نبضها، والدعامة الأساسيّة لوحدتها، وسيادتها، والمتمسكين بأرضها والمدافعين عن عروبتها وقوميتها.
لقد أفشلت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، المشاريع والسياسات التي كان يحضرها المستعمر الفرنسي لتقسيم سورية عام 1920، فكانت السويداء وجبل العرب كله يلبون نداء زعيمهم، يقفون وقفة رجل واحد، يدافعون عن وحدة وطنهم، ويفشلون مؤامرة تفتيت سورية.
إنّ طائفة الموحدين الدروز مدعوّة اليوم كي تقف وقفتها الوطنية القومية الشجاعة التي عوّدتنا عليها، كالتي وقفها يوماً في أحلك الظروف سلطانها الكبير سلطان باشا الأطرش.
ليس أمام الشعب السوري إلا المزيد من الصبر والصمود، وإنْ كان الصبر قاسياً وخانقاً. فما يُحضّر لسورية أسوأ بكثير من العقوبات، والحصار والتجويع. فما يبيّته الأميركي ومعه الإسرائيلي هو تفكيك سورية وتمزيق شعبها، ومن ثم الانتقال بعد ذلك من سورية الى باقي دول المنطقة.
لكن السؤال الذي يطرح بكلّ أمانة وشفافية ومسؤولية هو: أمام صبر الشعب السوري، ووقوفه الرائع خلف قيادته الوطنية القومية، متحمّلاً الأعباء المعيشية، والعائلية، والنفسية الثقيلة، هل حصنّا البيئة الشعبية الحاضنة للدولة والنظام معاً وكيف؟! هل قضينا على مراكز القوى، وعلى أثرياء الحرب الذين استغلوا، واستفادوا من الحصار والحرب العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، والمالية المفروضة على سورية منذ عام 2011 وحتى اليوم؟! إنّ الأثرياء من حديثي النعمة الحرام، أساؤوا بشكل كبير الى الدولة والشعب معاً، ما جعل أدوات الخارج، وعملاءها في الداخل، يستغلون الأوضاع المعيشية الصعبة للتشويه بالنظام وتأليب الرأي العام عليه. فهل واجهنا بكلّ حزم الفساد وطبقة الفاسدين والمفسدين الذين أثروا على حساب المواطنين، وانتزعوا لقمة العيش من أفواه الجائعين، الصامدين، المتمسّكين بكلّ إيمان وعنفوان بوطن وشعب؟!
هل منعنا الاحتكارات، وأوقفنا التلاعب بالعملة الوطنية، ووضعنا حداً للعابثين بحقوق المواطنين، وملاحقة الذين أثروا دون وجه حق، منتهزين الظروف الاستثنائية التي تعيشها سورية، والذين ينخرون في جسم الدولة ومؤسساتها؟!
لا بدّ من مراجعة الحسابات، وتحصين البيئة الشعبية الوطنية التي هي الضمانة الحقيقية لسورية، والقوة الحقيقية الأساسية التي تحفظ وتصون النسيج الوطني لسورية، وتدافع عن وحدة أرضها وسيادتها.
أمام المشهد المقلق، كلّ القوى الوطنية والقومية في المنطقة مدعوّة الى التنبّه والوقوف بكلّ قوة، ومسؤولية قومية الى جانب سورية. فلا يتصوّر عاقل في المنطقة أنّ أمن بلده منفصل عن أمن سورية، وأنّ وحدة بلده لا علاقة لها بوحدة سورية، وأنّ استقرار بلده لا يتعلّق باستقرار سورية. ما ترسمه الولايات المتحدة من سياسات الهيمنة والنفوذ، ينسحب على لبنان والعراق وإيران، وغيرها من الدول الرافضة لسياسات واشنطن ونفوذها وتسلطها.
الوقوف إلى جانب سورية ضرورة وواجب قومي، فأمن وسلام واستقرار وسيادة المنطقة المشرقية لا يتجزأ، والكلّ معني بالدفاع عنها وتحصينها، والوقوف بكلّ حزم ضدّ ما يحضّر لسورية من مشاريع مدمّرة، حتى لا تتهاوى بعد فوات الأوان، أحجار الدومينو، على رؤوس الجميع.
(البناء)