فاطمة علي شحوري
المنفى زمانُ الأرصفة المأكولة المنهوشة، وفضاء الأنفاس المُصْطَنَعَةِ، وتُخُومُ الموتى السّرائرييّن. إنّه مكانٌ بلا مكانٍ، وحاضرٌ بلا عجلاتٍ ومقاود تدفع إلى الحياة. إنَّه متاهة يفرّ روَّادُها إلى خوابي الماضي ليعبثوا بالآتي، ويعدموا اللّيل الكامن فيه. نرى مُرْهَفيها يتأبّطون أمّاتِ تاريخهم الأدبيّ والثّقافيّ، يستعيدون أساطيرهم؛ رموزهم؛ أمجادهم؛ ويطعّمون بها كلماتهم لِيُحيوا أمّةً غَفَتْ عن ودائعها، وتَرَاخَتْ عن أعنَّةِ جيادِها، ليمنعوا قَرْصَنَة هُويَّتهم، واستلابَ وجودهم، ويثبتوا استمراريّتهم، ويعبّروا عن عواطفهم الحارقة، ومعاناتهم الصّادقة عساهم يخرجون من الغربة إلى نقيضها، ومن المحنة إلى طليقها.
لذلك كان لجوء الشّاعر إلى الرّموز، لِمَا للرّمز من ديمومةٍ في طاقته الإيحائيّة “تنهض أوّلًا من عدم إقباله على مضمونٍ محدّدٍ، كما تنهض ثانيًا من كونه حامل انفعالٍ لا مقولةٍ”([1])، لأنّه “اللّغة الّتي تبدأ حين تنتهي القصيدة الّتي تكون في وعيك بعد قراءة القصيدة، والبرق الّذي يُتيح للوعي أن يستنشق عالمًا لا حدود له، هو إضاءةٌ للوجود المفعم، واندفاعٌ صوب الجوهر”([2]).
ويُعَدّ الشّاعر “المناصرة” من أكبر الشّعراء الّذين اتّكأوا على التّراث الشّعبيّ الفلسطينيّ، وعلى التّاريخ العربيّ الإسلاميّ؛ وقد تميّز شعره بإحياء التّاريخ الكنعانيّ، والرّمز الشعبي الفلسطينيّ “جفرا”؛ لأنّ التّراث التّاريخيّ من أغنى المصادر الّتي يعود إليها الشّاعر المعاصر، لينهلَ منها ويتزوّد من ذخائرها، ولأنّ “التّجربة الشّعوريّة بما لها من خصوصيّةٍ في كلّ عملٍ شعريّ هي الّتي تستدعي الرّمز القديم، لكي تَجِدَ فيه التّفريغ الكلّيّ لِمَا تحمل من عاطفةٍ أو فكرةٍ شعوريّةٍ، وذلك عندما يكون الرّمز المُستَخدَم قديمًا. وهي الّتي تُضفي على اللّفظة طابعًا رمزيًّا، بأن تُركّز فيها شُحنتها العاطفيّة أو الفكريّة على البُعد الشّعوريّ، وذلك عندما يكون الرّمز المُسْتَخدَم جديدًا”([3]). لذلك يقول “المناصرة” في قصيدته “انتخابات” مُسْتَحْضِرًا الرّمز التّاريخيّ “كنعان”:
“ما زالَ
ما انفكَّ
ما برِحَ
كنعانُ في القلعةِ القديمةِ
وتحتَ أنقاضِ البيوتِ
بِلحيَتِه البيضاء
سَمِعْنَه اللّواتي عُدْنَ من النَّبعِ
بعدَ غروبِ الشّمسِ
ورَأَيْنَهُ اللّواتي شَاهَدْنَ ما نَقَشَتْه يدا: “عبد عابدي” و”كينسبل”
يفرُّ من ضريحِهِ الممتدِّ على طولِ القُرى ويصيح
أَنقذونِي من “غوش أمونيم”
ويُقال إنّ فرسَهُ الشّهباءَ
تَصْهَلُ حتَّى مَطلع الفجرِ
تعدو راكضةً في السّهولِ والبَرَاري
ليستيقظَ المرجُ مِنْ نَومِهِ
ولم يَكُنِ المَرْجُ نائمًا
فَرَّ المَرْجُ شاهرًا جماهيرَهُ
وظلَّ صوتُ كنعان يدوّي في السَّاحلِ
حتَّى
حتَّى جاءَتِ النّتائجُ مشرّفةً في الانتخابات”.([4])
يستهلُّ “المناصرة” قصيدته بالنَّفي المصاحِب الفعلَ بشكلٍ متوالٍ (ما زال، ما انفكّ، ما برح) مؤكّدًا بذلك سياقًا زمنيًّا يتّسم بالاستمراريّة والاتّصال من الماضي إلى الحاضر، ثمّ يبنيها على السّرد مستعينًا بالشّبكة الّتي يقوم عليها من أشخاصٍ وأمكنةٍ وحوادث؛ ويُلاحَظ أنّ الشّخصيّة المحوريّة المُسْتدعاة للمشروع السّرديّ هي شخصيّةٌ تاريخيّةٌ (الجدّ كنعان) تجعلها الأفعال المتواترة المأخوذة من النّسق الدّلاليّ ذاته (ما زال، ما انفكّ، ما برح)، مع الأفعال الحسّيّة المادّيّة (سمعنه، رأينه، يفرّ، يصيح..) حيّةً مستمرّةً في الحاضر، مؤثّرةً فيه، مع أنَّ مكانها محاصَرٌ بالموت ومقهورٌ به (كنعان في القلعة القديمة تحت أنقاض البيوت بلحيته البيضاء)؛ لكنّ هذا المشهد الحيّ الحضوريّ لـ”كنعان”([5]*) لم يكن متيسَّرًا للجميع؛ فقد كانت الرّؤية محصورةً بمن استشعَرْنَ فنَّ النَّحت والرّسم، وهنّ المثقّفات المرهفات ثاقبات النّظر وعميقات التّأويل، القادرات على استنطاق الجماد وتأويله وتحويله لسانًا ناطقًا معبِّرًا. وكذلك السّماع أيضًا قد حُصِر بالنِّسوة ربَّات المنازل اللّواتي يَعُدْن مِنَ النَّبعِ بعد غروب الشَّمس لكثرة العمل الملقى على عواتقهنّ، وهنَّ المتَّسمات بتبادل الأحاديث وتناقُل الأخبار، حتّى وإن لم يحصل التّحقّق منها من خلال حاسّة النّظر كما هو شأن المثقّفات المسؤولات. وهذا ما جعل حضور كنعان متأرجحًا بين الشّكّ واليقين على الدَّوام. فهل كان حضوره مجرّد أحاديث نسوةٍ يَمضغن الكلام مع كلّ وجبةٍ وسهرةٍ؟ أو كان حضوره يقينًا تُثبته النّظرات الفاحصة المتأمّلة؟!
إنّ ضريح كنعان الممتدّ على طول القرى، وخروجه من ضريحه مستغيثًا بالخلاص من “غوش أمونيم”([6]*)، وحضور فرسه الشّهباء، وإطلاقها في السّهول والبراري لتحقيق هدفٍ مصمّمٍ ومدروسٍ، يُضفي على الأحداث طابع الأسطورة؛ لكنّ صوت كنعان المدوّي الّذي علا بفعل فرسه الدّالّ على الجهوزيّة للحرب والاستعداد لها، يُخرِجها عن عدّها ترفًا أسطوريًّا، ويُدخلها في إطار الأبعاد الرّمزيّة الّتي يتسيّدها “كنعان” إرث فلسطين التّاريخيّ، وبذرة سلالتها ونسبها؛ فهو الّذي يمنحها هُويّتها وعراقتها وأحقيّتها في المكان؛ ففلسطين كنعانيّة، يشهد على ذلك ضريح “كنعان”، وروحه الممتدّة في الأرض الخائفة من تزييف الحقائق، وتعتيم الموضحات، ومن تسليمها إلى “إسرائيل” ومصادرتها.
هذه الرّوح الكنعانيّة هي الّتي استيقظت في نفوس أبناء فلسطين، وقد شاهدتها النّسوة بجميع أصنافهنّ وثّابةً متحرّرةً متحمّسةً، تسعى إلى هزّ ما تلبّد وسكن، وإلى تحريك المُضْطَجِع وإفاقته. نستدلّ على ذلك من خلال قرينتين واضحتين: الجمهور الصّارخ المحارب المتحدّي، ونتائج الانتخابات المشرّفة.
بذلك يخرج كنعان عن الحضور الماديّ، ويُسقط فرضيّة “الشّكّ واليقين” المتصاحبة مع النّسوة، ويتلازم مع الحسّ الثّوريّ المتيقّظ في نفوس أبناء كنعان، ويُعيد الشّاعر الذّاكرة المفقودة إلى مقاتلي شعبه، وأطفال مخيّماته، حتّى يستطيعوا السّير قدمًا بثورتهم العملاقة، بما يضمن تحرير وطنهم، وتحريره من غربته؛ لأنّ الثّورة هي العامل الأوحد القادر على استرداد الأرض، واسترداد أبنائها من غربتهم، وغسل التّشرّد عنهم. ويقول الشاعر في إحدى قصائده:
“كَبرَتْ حلحول
أَصْبَحَتْ في الثّانية عشرة
لِتقودَ التّظاهرة ضدّ الاندثار
شجرُ الشّجاعة يخرج من كهوف الرّومان
من نقوش الكنعانييّن الّتي كانت
ملاذ السّيّاح
عبرة الأوّلين للقادمين
حلم المدارس الثّانويّة
بعلمٍ يرفرف في القرى
تَمُورُ الأشجارُ بغضبٍ لا يُوصَفُ في الكُتُب
وقد يجيء زمنٌ
وها هوذا”([7]).
ينبغي أن يكون ثمّة صلةٌ قديمةٌ بين القارئ والرّمز التّراثيّ، وألّا يكون غريبًا عنه غربةً مُطلَقَةً، لينجح الشّاعر في إيقاظ الذّكريات والمعاني المرتبطة به، لذلك استدعى “المناصرة” “الكهوف الرّومانيّة، والزّيتون الرّومانيّ، اللّذّيْن يؤصّلان المشهد الكنعانيّ، ويسهمان في جعله مشهدًا أصيلًا متكاملًا”([8])، وأشاعَ “حالةً من الشّجاعة والإصرار على تجاوز المحنة، فالمكان تاريخٌ، وتاريخ المكان حافلٌ بالنّماذج المعبّرة عن الإرادة”([9]). وهذه النّماذج خليقةٌ بأن تدفع “حلحول” نحو التّظاهر لتفجير غضبها، ونَفْث رياح السّموم، كي لا يندثر مكانها وزمانها، وخليقةٌ بأن تُشعِل في نفس الشّاعر جذوةً من التّواصل مع التّاريخ، كي يُعبّر عن قضيّة شعبه، ويتخفّف من معاناته، ويؤكّد مواقفه؛ إذ يقول:
“أنا عزُّ الدّينِ المناصرة
سليلُ شجرة كنعان، حفيدُ البحرِ الميّتِ
من بني نعيم إلى دالية الكرمل
هو قلبي الّذي يتمدّدُ تحتَ بساطيرِ الجنودِ
ولا أعترفُ.
أنا الّذي زَرَعْتُ القنبلةَ
جفرا الّتي ماتت عند شاطئ عكَّا
هي أختي
دمي هو الرّاكض كالشّلّال في جروح الأرض
ولا أشكو
فالشّكوى لغير الخليل مذلّة”([10]).
ينطلق الشَّاعر مُعبِّرًا عن هُويّته الفرديّة مفتخرًا بنَسَبِه المحمَّل بالكثير من الأصالة والتّجذّر والتّراث، “فبالإشارة إلى البحر الميّت يُضيف إلى البحر الميّت إضافاتٍ كثيرة، لأنّه الحديث عن مدائن لوطٍ، وعن الإرث التّاريخيّ المُخْتَزَن في تلك البقعة من أرض الوطن”([11])، وهو حديثٌ عن أحقيّته بالمكان لكونه لكنعان، ونقطةُ امتداد البحر الميّت، و”المناصرة” وريثهما الشّرعيّ الّذي تعود إليه خلافة هذا المكان، فهو وريث الفينيقييّن المعنيّ الّذي تُوكَل إليه مهمّة ريادة الأبجديّة وتوليفها وتركيبها، ومع ذلك ضاع حقّه في أرض آبائه وأجداده، وأصبحت موطئًا لأقدام الجنود ومسكنًا لهم، لذلك يتمزّق معاناةً وأسًى، وينزف دمًا ولوعةً، ولا يشكو إلّا لربّه الّذي يراه ساكنًا مدينة الخليل، يعرج منها إليه، وإلى ذلك أشار في انزياح المثل الشّائع الّذي يقول: “الشّكوى لغير اللّه مذلّة”.
ولا ينفكُّ الشّاعر يستعين بالرّموز التّاريخيّة ليعرّي الواقع، ويكشف عن سلبيّاته، وليكشف عن دلالاتٍ مضمرةٍ في ذاته، لا يستطيع أن يختزلها إلّا الرّمز ذاته بكلّ إيحاءاته، ومؤشّراته، وقابليّته للتّعبير عن المشاعر الوجدانيّة الّتي تعكسها الظّروف الاجتماعيّة، والحياة بكلّ مفارقاتها، ورؤاها المستقبليّة؛ فهو يقول:
“هل أفتحُ دفتر ذكراكَ وأقرأه في هذا الصُّبح النّاعمِ والمفعَمِ بالأمطار وأنا في المنفى الرّابع،
أنتظرُ جرائدَ ثورتنا
أنتظر الأخبار
عنوانك محفورٌ في دفتر ذكراك
وفي كفّ الثّورة يا عمر المختار
أَوَفَيْتَ الوعد… وفي صمتك أَشْعَلْت النّار
وعلى مكتبه
كان الطّحلب يقرأ عنك الأشعار
وأنا في المنفى الرّابع أنتظر الأخبار
الحلم الطّعنة أجمل… والأرض الحبلى بالعشب
وبالأخبار
هل تذكر يا عمر المختار
كنّا نحلم أن تأتي بيروت المجروحة في الأحلام”([12]).
تتسيّد شبكة “البُعد” هذه الأسطر الشّعريّة (المنفى الرّابع/ أنتظر/ ذكراك/ تذكر/ تحلم…) متّخذةً لها طرفين محدّدين بضميريْ المتكلّم والمخاطب (الشّاعر وعمر المختار)، ومنفتحةً على المناجاة والانتظار والتّاريخ، إذ استوجب بُعد المتكلّم من وطنه استدعاء شخصيّةٍ تاريخيّةٍ لها باعها الطّويل، وتضحياتها الجسام، ورمزيّتها الثّوريّة في مقاومة الاحتلال الفرنسيّ، ويقف أمامها مخاطبًا مسترجعًا ماضيها المقاوم، رابطًا واقع الثّورة المشتعلة في وطنه بأصولٍ تاريخيّةٍ، مُعيدًا ولادتها إلى صلب هذا القائد اللّيبيّ الرّساليّ منتظرًا نموّها، ونضجها في زمنه؛ لأنّ في الانتظار أمله المعقود وحلمه الموعود، وفي الانتظار تتشقّق جلاميد منفاه، وفي “عمر المختار” ذاكرة أمّته المكتنزة بالعطاء.
لقد أحدث البعد المقترن بالمنفى، وتَفَتُّق الثّورة في وطنه استحضار زمنٍ مماثلٍ صالحٍ للنّمذجة القتاليّة الفدائيّة؛ إذ إنّ “الأحداث التّاريخيّة والشّخصيّات التّاريخيّة ليست مجرّد ظواهر كونيّة عابرة تنتهي بانتهاء وجودها الواقعيّ، فإنّ لها إلى جانب ذلك دلالتها الشّموليّة الباقية، والقابلة للتّجدّد على امتداد التّاريخ، في صيغٍ وأشكالٍ أخرى، وهذه الدّلالة الكلّيّة للشّخصيّة التّاريخيّة، بما تشتمل عليه من قابليّةٍ للتّأويلات المختلفة هي الّتي يستغلّها الشّاعر المعاصر في التّعبير عن بعض جوانب تجربته، ليضفي عليها ذلك البعد التّاريخيّ الحضاريّ الّذي يمنحها لونًا من خلال العراقة”([13]).
ولا يتوقّف “المناصرة” عند إحياء التّاريخ مُختارًا من شخصيّاته ما يوافق طبيعة الأفكار والقضايا والهموم الّتي يريد أن ينقلها إلى القارئ، بل يتّجه نحو التّراث الشّعبيّ، ويحاول الإفادة منه بما يخدم تجربته الشّعريّة، فيستنسخ من الأغنية الشّعبيّة “جفرا ويا هالرّبع” أسطورة “جفرا”، ويُوفَّق في تحميلها مجموعةً من الدّلالات الوطنيّة والنّفسيّة والشّخصيّة، ويرمز من خلالها إلى المرأة المحبوبة تارةً، وتارةً إلى الوطن، وأخرى إلى الثّورة الفلسطينيّة المستهدفة من “الأعدقاء”([14])، فتُصبِح بذلك رمزًا عربيًّا وعالميًّا، فمثلًا يقول:
“وطالبةً كنتِ في الجامعة
ولم أنسَ وجهك وهو يلوّح للثّورة الدّامعة
تلوحين كالبرق تشتعلين بوجه العسس
وتستنفرين القَبَس
لكي تُصبحَ المزرعةُ
نجمةً في جبينك لبنان يا من نَزَفت طويلًا
ويا من رضيتِ بقبر حبيبي، حبيبي، حبيبي
أغنّي لحزبي، وحزبي هو الفقراء، وليس
الّذين هنا وقّعوا مع قتلي، يدوسهم الفقراء
تظلّين يا ثورتي يانعة
نحن اشْتَعَلْنَا ويا ويلهم سوف نشعلُ
نارًا ونُحرق كلَّ الحدود وتبقى العصافيرُ
بينَ الغيومِ
وتصبحُ جفرا إلهي ولا أعبد غيرَكِ
أنتِ إلهي وأنتِ انتظاري وحِقْدي
الّذي يملأُ الكونَ لا تغفري لي
إذا ما نَسِيتُ رياحَ النَّدى ورياحَ السّموم
ولا تغفري لي إذا ما هَجَرْتُ الكروم”([15]).
حتَّى في لحظات العيش في متاهات المنفى، وما تحمله في ثناياها من آلام الفراق ومرارته، تُسْتَحضَرُ جفرا بوّابةً للعبور إلى السّلام المنبعث من الاشتعال والاحتراق، هذا ما يشير إليه الحقل الدَّلاليُّ الّذي ينتشر في النَّصَّ (تشتعلين، القبس، اشتعلنا، نشعل، نارًا، نحرق)، والّذي يتناسب مع الثّورة الدّامعة اليانعة لكونها تقتضي الاشتعال المعنويّ والماديّ؛ ففي حين يُمزِّق الشّعبُ عنه جدرانَ الصَّمت، ويُفتِّت مداميك الوهن الضَّارب في الدَّم، تتقيَّأ الأحشاءُ نيرانَ التَّمرُّد، فَتُصيب بها كلّ دخيلٍ أَتْلَفَ الأرضَ، وأباد المحاصيل.
يُفتَتَح هذا الحقل الدّلاليّ أيضًا على مفرداتٍ تُحدث الاشتعال النّاتج لا من الثّورة فحسب، بل من التّعدّي والظّلم، فَنَزْف “جفرا” الطّويل، واحتواؤها قبر حبيبها، والتّآمر على قتل أبنائها، وفرض الحدود، ورياح السّموم كفيلٌ بأن يشعلها ألمًا ووجعًا، وكفيلٌ بأن يحيلنا إلى ثلاثة محاور:
- محور الشّاعر، وجفرا الفتاة المعشوقة ذات الوجه المشرق.
- محور الشّاعر، وجفرا الثّورة المشتعلة بوجه الظّلام المتوهّجة بنزفها.
- محور الشّاعر، وجفرا الإله المعبود الأوحد الغفّار.
إنّ الأطراف المتغايرة المشتركة مع الذّات الشّاعرة تمتلك القدرة على إحراق المرتبط بها، وعُدّتها في ذلك استفزاز القلب، وتحريضه على اللّقاء بها والوصول إليها، وغرس بذار الشّوق والانتظار والسّعي إلى الالتحام بها. وما يلفت أنّ “جفرا” خَضعَت للتّحوّل والارتقاء، ولم تُصبِح إلهًا إلّا بالتّدرّج؛ فبعد أن كانت امرأةً أَضْحَتْ ثورةً ثمّ إلهًا، وهو ما يَسْتدعينا إلى القول أنّ خَلْق الشّاعر هذه الرّؤيةَ الجفراويّةَ كانَ خاضعًا للتّنامي، ولَم يَنضُج دفعةً واحدةً، إذ لَم يُبْعِدها في البدء عن تمثيل تلك الفتاة المحبوبة المعروفة في الموروث الشّعبيّ، الفتاة الّتي تُشبه كثيرًا قصّتَي “ليلى” و”عبلة” المعشوقَتَيْن والمعروفَتَيْن في التّراث الشّعبيّ، لكنّه أخَذَ يَتَطوّر بها ويُخرجها من العموم عندما حوّلها إلى الثّورة، وَأسْطَرَها عندما جعلها إلهًا ينتظر غفرانه ووصاله. وَما إقْدامُه عليها إلّا “دليلٌ على مرجعيّةٍ حضاريّةٍ وتَأصيلٍ مرجعيًّ لما هو ماضٍ، وَتقديمٍ لما هو آتٍ في زمنٍ قاتمٍ مؤسَّسٍ على الدّمار والخراب”([16]).
ولم يَقِفْ “المناصرة”، وهو يَنْبشُ تراب فلسطين الشّعبيّ ويتواصل معه عند حدود “جفرا”، بل تجاوز ذلك إلى إحياء شخصيّاتٍ ارتبطت أسماؤها بالذّاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة على غرار شخصيّة “أمّ علي النّصراويّة” الَّتي تُعدُّ الشّخصيّة الشّعبيّة الحقيقيّة في الثّورة الفلسطينيّة، والّتي “هاجرت هي وعائلتها من فلسطين 1948 إلى لبنان بعد أن اقتلعها الإسرائيليّون من بيتها، وقدّمت أولادها جميعًا شهداء للثّورة الفلسطينيّة”([17])، وقد تحقّقَ إحياؤها من خلال قصيدة “كيف رقصت أمّ علي النّصراويّة”، وهي أوّل قصيدةٍ في حقّ هذه المرأة الّتي ارتقت فيها من كونها شخصيّةً عاديّةً إلى مستوى الأسطورة والرّمز؛ إذ يقول الشّاعر:
“غالبًا ما يشدّهم الوجد حين تكونين صوتهم في قفار المدينة، حين تكونين طلقتهم… رَجْعُها كالأغاني القديمة، لا تفتحي الجرح أو تُغلقيه، يجيئون في عرس أحبابهم مفعمين بدمعٍ، يجيئون في عرس أحبابهم مفعمين بدمعٍ، ولكنّهم يفرحون قليلًاـ قليلًا، ويشتدّ رقصك ـ لا تفتحي الجرح ـ يشتدّ رقصك، يبكون، لكنّهم في المساء يصيحون:
هيه… يا أمّ علي
ليش… ما تغنّينا؟!!
عندما ننحني سوف تبكيننا ـ آه ـ يشتدّ
رقصك دون الإجابة، يَنْغَلُ قلبك بين مروج
فلسطين ـ يشتدّ رقصك: … هيه يا أمّ علي
ليش ما تغنّينا؟!!
عندما يَنحني جذعُنَا سوف تبكيننا – آه – يشتدّ رقصك – إنّ حذاءك مهترئٌ، عندما يتشقّق جلد عظامك بين سهول الجليل البعيدة ـ
هيه يا أمّ علي
ليش ما تغنّينا
– أسامة العريس ـ حنّوه بالدّما
ليش يا أمّ علي… ما تغنّينا
أيّها الرّاقصون كيف أترك زغب القطا حاملين بنادقهم، ويموتون مثل العصافير حين تدافع عن زغبها…”([18]).
مع “أمّ علي” نَقِفُ أمام مأساة المسيرة الفلسطينيّة المليئة بالمآسي والمذابح، نقف أمام مرثيّةٍ ثوريّةٍ تُبنى بناءً دراميًّا مسرحيًّا، يُطلّ الشّاعر في مشهدها الأوّل مُقْحِمًا ذاته في الخطاب الّذي يتّجه إلى العامل الذّات (أمّ علي) موصّفًا دوره في قفار المدينة (الصّوت والطّلقة)، ثمّ يلتفّ على الحدث الحكائيّ (يجيئون في عرس أحبابهم مفعَمين بدمعٍ —- يفرحون—- يبكون—- ثمّ يصيحون) واصفًا من خلاله العوامل الأخرى المساعدة (حزانى، فرحين، حماسييّن)، ثمّ لا يلبث أن ينتحي جانبًا، ويُوكِل اللّسان الخطابيّ إلى المجتمعين موحّدًا لازمةً تتكرّر وتتواتر على امتداد القصيدة، وفي مختلف الرّقصات (أسامة العريس حنّوه بالدّما، ليش يا أمّ علي ما تغنّينا)، مقتربين بذلك من النّدب الثّائر، واللّطم الخارج عن الجزع إلى الاستفزاز، مسمّين العامل الذّات المُشار إليه في الإطلالة (أمّ علي)، قاصدين إليه للغناء، لما يملكه من قدرةٍ على تفريغ دواخلهم، وشحذ هممهم، وبلورة مشاعرهم، فاتحين النّصّ على نمطين مختلفين من الشّخصيّات:
- نمطٌ ثابتٌ صلبٌ يتبنّى فعلًا واحدًا حيال كلّ ما يقع عليه، يتمثّل في “أمّ علي” الّتي التزمت الرّقص الدّاخل في معنى الإثارة والتّجييش الّلذين تقتضيهما المناسبة (زفاف الشّهيد أسامة)، والتزمت الصّمت ولم تنطق وإن كان كَثُرَ الإلحاح عليها بالغناء.
- نمطٌ عاطفيٌّ متغيّرٌ (جاؤوا مفعَمين بدمعٍ/ فرحوا قليلًا/ بكوا/ صاحوا) ينعى ويبوح مستشرفًا الشّهادة والبكاء، ويتمثّل في الجمع الحاضر.
لذلك يبدو أنّ النّمط الثّاني في مسارٍ حركيّ وقصديّ نحو النّمط الأوّل الّذي تظهر زعامته الوطنيّة والثّوريّة اعتمادًا على التّضحية والفداء، وليس على الخطب والشّعارات. فأسامة المحنّى بالدّماء هو ابن هذا الزّعيم الأنثى (أمّ علي النّصراويّة) الّذي يجتمع لديه – بحكم الزّعامة – الموالون التّابعون مواسين مستلهمين البأسَ والجلَد والثّباتَ، متنبّئين بانحنائهم الّذي يحوّله السّياق إلى الاستشهاد، وليس إلى الخضوع، لأنّه في محفل الشّهادة تُعقَد الهمم على متابعة المسيرة، والتّأسّي بالسّابقين للّحاق بهم، لا على الاستسلام والتّراجع (عندما ننحني سوف تبكيننا..). وبحكم هذه الزّعامة ذاتها يلحّ الرّاقصون على غنائهم غير المفارق معجم “الزّفاف والفرح والانتشاء”؛ فالحاضرون هنا لا يحيدون عن طلب التّهيئة والتّجهيز لعرس الشّهادة، شأنهم شأن أسامة المخضّب بالدّم. يدلّنا على ذلك خروج “أمّ علي” عن صمتها في المقطع الأخير (أيّها الرّاقصون كيف أترك زغب القطا حاملين بنادقهم…)، وتغيّر الفعل في اللّازمة من طلب الغناء إلى طلب الحنّاء (ليش يا أمّ علي ما تحنّينا).
لم يرسم “عزّ الدّين المناصرة”، في هذه القصيدة صورةَ الأمّ الثّكلى الغارقة في لجّة النّواح والجَزَع والأسى، ولم يرسم صورة المرأة الّتي أعياها الدّهر، بل رسم “أمّ علي” رمزًا أنثويًّا مشحونًا بِطَاقَةٍ قياديّةٍ فدائيّةٍ هائلةٍ قدّمها قطبًا تتقاطر إليه الثّوّار، ورحمًا تنبثق منها أجنّة البنادق، غير مُبالغٍ أو مجاملٍ، لأنّ من يتتبّع سيرة “أمّ علي” يعرف أنّها “امرأةٌ شجاعةٌ ترقص وتغنّي في احتفالات الثّورة في بيروت، وتقود جنازات الشّهداء بالزّغاريد، فإذا أخطأ أيّ قائدٍ فلسطينيّ، تذهب إليه وتوبّخه، وتُخلي الجرحى في المعارك، وأهمّ من ذلك شخصيّتها القويّة”([19]).
هذه المرأة هي بحقٍّ من النّوع الأسطوريّ الشّعبيّ، لذلك انتقاها “المناصرة” لشاعريّته، وأحالَها رمزًا شعريًّا فلسطينيًّا وعربيًّا، ولم يلجأ إلى الأساطير اليونانيّة والفارسيّة، وإلى غيرها ليخرجها من جديدٍ في طابعٍ حداثويٍّ يتوافق والتّجربة الّتي يعايشها؛ ذلك أنّ “الرّمز الشّعبيّ قريبٌ حيٌّ، حين يلجأ إليه الشّاعر لا يحسّ أنّه مثقلٌ بما في الماضي الطّويل من خلافاتٍ ومشكلاتٍ… والجاذبيّة في الرّمز الشّعبيّ تكمن في أنّه يمثّل جسرًا ممتدًّا بين الشّاعر والنّاس من حوله، فهو بذلك يؤدّي دور المسرحيّة إلى حدّ ما في إيقاظ الشّعور القوميّ، وإبقائه حيًّا”([20]).
ولقد استطاعَ “المناصرةُ” أن يوظّف اللّغة المحكيّة، والتّراث الشّعبيّ في أعماله توظيفًا جميلًا، لأنّه “يجد في هذا التّراث الإرث الرّوحيّ الّذي افتقده في ليالي النّفي والغربة والضّياع، ودليلنا على ذلك احتفاء قصائده بالمواويل الشّعبيّة الّتي اعتمدت اللّهجة العاميّة في إثبات هويّتها الفلسطينيّة، وتراثها الفلسطينيّ الّذي لن تحيد عنه”([21])؛ فهو يقول في قصيدته الشّعبيّة “وطلّت خَيْلينا”:
“وطَلَّتْ خَيْلِيــــنَا عَلَى وَسْطِ المَيْــــــدانْ
تُوخِذْ بْثَـــــــــــارَكْ يَا أبو سليمــــــــــــــانْ
وطَلّتْ خَيْلِيْنَــــــا ع ترابِ الشَّيّــــــــــــاحْ
وِسْرُوجْهَا حَمـْرَا والعَلَمْ لَـــــــــــــــــــــــوّاحْ
وطَلَّتْ خـــَيْلِينَـــــا بِإيديها الرَّشَّاشـــــاتْ
تِحْصُدْ خَـــيلينــــا مِيَّــــــاتِ الدَّبَّابَــــــــاتْ
تْزُورِكْ خـديجــة والأهلِ الصَّامِدِيـــــنْ
وطلّت خيلينــــــــا ع جبالِ الخليــــــــــلْ
تزورَكْ يا بَاجِسْ وتِضْوِي القَنَادِيـــــــلْ
وطلّت خيلينــــــــا على بحــــــــــرِكْ غَزَّة
تزورَكْ جِيفـــــــَارَا في وادي العَــــــــــزِّي
وطلّت خيلينــــــــا عَىشَارِعِ المُخْتَــــــارْ
تزورَكْ يا حسين وتِكْتُبِ الأَشْعَــــــــــارْ
وطَلَّتْ خَيليـــــــــــنا يا جفرا حَلحُــــــلولْ
سِتْ طَعْشَرْ ليلـة والشَّعبْ مَغـْلــــــــُولْ
ونَصْرِي في دمُّـو يَا دَمِ الدَّحْـــــــــــدُولْ
أَهْلْي في الغُرْبة طَاحِ الدَّمِ سْــــيــــــولْ
يِنْشَلِّ لْسَانِـــــــــي لَوْ رَاحَتْ أَرْضِينَــــــا
وطَلّــــت خيلينـــا يا جَمَالْ عَيَّـــــــــــــاشْ
شَعْبَكْ يَا جَمَالْ مَا يْمُوتْ في الفراشْ”([22]).
يصوغ المناصرة هذا الموّال بلغةٍ محكيّةٍ، ويضبط له إيقاعًا حماسيًّا يجعله مؤهّلًا ليدخل في أناشيد الثّورة، ثمّ يشحن جوّه بالطّابع العسكريّ بعد أن يُحمّله بالكثير من الرّموز القياديّة والمكانيّة (أبو سليمان، باجس عطوان، جمال عيّاش/ جبال الخليل، تراب الشّيّاح، غزّة…)، وبعد أن يفتحه ويبنيه على اسم العتاد القتاليّ الحاكم والحاسم في المعركة (الخيل) مكرّرًا إيّاه حوالى (اثنَتَي عَشْرة مرّةً) في القصيدة الكاملة، ليؤكّد من خلال ذلك تمسّكه به وإن تغيّرت الأمكنة؛ فبينما يثبت الخيل وحده وسيلةً عسكريّةً هجوميّةً، تتبدّل أمكنة القتال، وتمتدّ من فلسطين إلى لبنان، وتتبدّل معها في بعض الأحيان أسماء بعض الرّموز المَزُورَة (باجس في جبال الخليل/ جيفارا في وادي العزّي/ حسني في شارع المختار…). وهذا ما يضعنا أمام تأويلين اثنين:
- أنَّ الخيل المُتكرِّر لُغويًّا، تكرّر وجوديًّا لكَونه حَلًّا وحيدًا متوفّرًا بين أيدي الآخذين بالثّأر، في قبال الدّبّابات المتوفّرة بالمئات في أيدي الفريق المناوئ. فهو مركبهم الوحيد في كلّ مكانٍ، وإن كانت طبيعة الأمكنة المختلفة قد تفرض مركبًا آخر أجدى وأنفع (دبّابات، آليّات…).
- اتّجاه الشّاعر نحو التّمسّك بالأصالة والتّراث، فالخيل رمز الفروسيّة العربيّة القديمة الّتي اتّخذت لها مساحةً كبيرةً في الشّعر الجاهليّ حتّى كادَتْ أن تكونَ من أعمدة القصيدة البنيويّة، لذلك فالالتزام بتكرارها يعني تمسّكًا بالهويّة العربيّة القتاليّة، وتمجيدًا لفروسيّة أصحابها الّذين استمدّوا شجاعتهم من شخصيّاتٍ بطوليّةٍ أمثال “باجس، وجمال عيّاش..” ليرفعوا عن شعبهم الأغلال، ويستعيدوا الأرض.
هذا وقد شكّلت الشّخصيّات الدّينيّة على تنوّعها وما تحمله من دلالاتٍ مصدرًا سخيًّا من مصادر الإلهام الشّعريّ الغنيّ بالكثير من الطّاقات الإيحائيّة الزّاخرة بالعطاء النّفسيّ والوجدانيّ الّذي تتجلّى من خلاله معاناة تلك الشّخصيّات في عصرها وواقعها الّذي عاشَت فيه، فالشّاعر وَجد في هذا التّراث أدواتٍ يُثري بها تجربته الشّعريّة ويمنحها شمولًا وكُلّيّةً وأصالةً، وفي الوقت نفسه يوفّر لها أغنى الوسائل الفنيّة بالطّاقات الإيحائيّة، وأَكثرها قدرةً على تجسيد هذه التّجربة وَنَقلها إلى المتلّقي، ووجد في حضور هذا الموروث الدّينيّ، وفي استدعاء الشّخصيّات الدّينيّة ما يُعينه على حَمل أبعاد تجربته المعاصرة، لِمَا تحمله فلسطين عامّةً، والقدس خاصّةً من رموزٍ دينيّةٍ مقدّسةٍ عند الأديان السّماويّة كافّةً، ويأتي في طليعة الرّموز الدّينيّة الموظّفة في قصائده الرّموز المسيحيّة تَليها الرّموز الإسلاميّة. يقول الشّاعر في قصيدته “ليلة الافتتاح”:
“على قِمّةِ الجبلِ الآدميِّ الّذي
كَلَّمَ البحرَ حولًا من السَّردِ
كانت تُدَنْدِنُ أغنيةً قرب نهرٍ
سوالفُ مريمَ في شَاطِئَيْهِ
تَدَلَّتْ على قبرٍ أندلسيٍّ، تَراجَعَ مُنهزمًا
في الأعالي السَّحيقةِ من تَلمسانِ
حيثُ فاضَتْ عيونُ السّماءِ الَّتي
أَصْبَحَتْ وردةً كالدِّهانِ
تَرُشُّ العصافيرَ بالقمحِ
تجثو العصافيرُ راكعةً عند أقدامِهِ
في صقيعِ الصَّباحِ
تُدَنْدِنُ أغنيةً لَونُهَا
لم يَكُنْ في قصائدِ لوركا
ولا في رسوماتِهِ
فوقَ جدرانِ غرناطة العرب الرّاحلين
ولا في رسومات ميرو
ولا شَافَهَا راقصٌ في نشيدِ السَّماح
تُدَنْدِنُ أُغنيةً لنساءٍ
فَسَائِلُهنَّ
تَفَرَّعْنَ
في أفقٍ من طيورٍ ملوّنةٍ زاعقاتٍ،
وَلَسْنَ نوارسَ
وَلَسْنَ نُسورًا
ولَسْنَ طواويسَ
يَركُضْنَ في الحَوْشِ عندَ المساءِ
ولا سائحاتٍ ملاح
ولكنّها عَبقٌ مِنْ قرنفلِ هذا الزّمانِ المتاحِ”([23]).
تعكس مرآويّة القصيدة بريقًا شعريًّا حكائيًّا ينبعث أساسًا من ثُريّا العنوان، إذ يتّخذ السّرد أدواته الحكائيّة من مكانٍ (قمّة الجبل)، وزمانٍ (الماضي) وشخصيّةٍ (الفتاة) وحدثٍ (دندنة أغنية)، من دون أن يرقى إلى المستوى الدّراميّ المتكامل، متّكئًا على الوصف الّذي شاع كثيرًا من خلال تواتر الخبر وتكراره (تدندن أغنيةً/ سوالف مريم في شاطئيه/ أصبحت وردةً كالدّهان/ تجثو العصافير راكعةً/ تدندن أغنيةً لونها لم يكن في قصائد لوركا…/ تدندن أغنيةً لنساءٍ، فسائلهنّ، في أفقٍ من طيورٍ زاعقاتٍ…)، وذلك خدمةً لرسم المشهد الدّراميّ المحمّل بالكثير من عناصر الأرض (البحر، نهرٍ، شاطئيه، عيون السّماء، القمح…)، وإيجادًا للانسياب في طرح المضمون، وإتاحةً لتوظيف الموروث توظيفًا عفويًّا بعيدًا من القصديّة والتّعمّد؛ فعناصر الأرض استدعت شخصيّةً دينيّةً (السّيّدة مريم)، وتناصًّا قرآنيًّا (أصبحت وردةً كالدّهان)([24])، ورموزًا فنيّةً (لوركا([25]*)/ ميرو([26]**))، وبلدانًا متعدّدةً (الأندلس/ غرناطة/ تلمسان)، واستدعت شخصيّةً سرديّةً انتقت لدندنة أغنيتها مكانًا أسطوريًّا اجتمعت فيه كلّ الاستدعاءات السّابقة؛ فقد وقفت هذه الشّخصيّة على قمّة جبلٍ استعار من الآدميّين لسانهم الكلاميّ ليترافق من خلاله مع البحر، ويشهده على أحداثه طوال حولٍ كاملٍ، نظرًا إلى أهميّتها وعظمتها. وليس كجبل الطّور الّذي كلّم اللّه عليه النَّبيّ “موسى” (ع) موضعٌ لحدثٍ عظيمٍ. موضعٌ لرؤية الحقّ المحض، والقدرة المطلقة، ولا كالبحر الّذي شَهِد هلاك “فرعون”، ونصرة “موسى” شاهدٌ على حتميّة هلاك الباطل، ووخيم عاقبة الطّغاة، وحدهما جبل الطّور وبحر الانشقاق (مهلك اليهود) اختبرا الحكاية، واستوعبا الدّرس: “حينما يتجلّى الحقّ، يندثر الباطل وينغمر”.
يُجاور هذا المكان المقدّس مكانًا مُقدَّسًا آخر حَوَى سوالف “مريم” في شاطئيه عندما شهد فجيعتها وثكلها على موت الأندلسيّ الدّالّ على المجد العربيّ الّذي طُمِس بمرور الزّمن، والّذي يُعادل فلسطين لجهة الضّياع والاحتلال؛ إذ لم تكن “مريم” لتُدلّي سوالفها جزافًا، وهي الّتي اتّخذت لها حجابًا وسترًا، بل سَرَى بها الشّاعر على عادة النّساء العربيّات في الجاهليّة اللّواتي كنّ يَنْشُرْن شعورهنَّ في أثناء فقد أحبابهنّ، ليُشيرَ إلى فداحةِ الخَطبِ. فالسَّيدة “مريم” الّتي أنجبت “المسيح” المخلّص تتفجّع على موت الأندلسيّ الّذي كان خلاص العرب، لكنَّ هذا الموت انهزم في “تلمسان” – الجزائر- عندما حدث الفيض، وصُبغت السّماء بحُمْرة الدّماء المُسالة انتفاضةً وثورةً في زمن “المختار” صانع الأمجاد.
في النّسق الاستدعائيّ ذاته استدعى “المناصرةُ” “لوركا” و”ميرو” لِيَصِفَ لون الأغنية، فلم يَجِدْهُ حاضرًا في فنّهما الممتدّ إلى حضارة العرب في “الأندلس”؛ لأنّ الأغنية مستقاةٌ من نساءٍ شمخت فروعهنّ في مدىً صَنَعَتْهُ طيورٌ ملوّنةٌ زاعقةٌ غير معروفة، يمنحها الزّعيق جنسيّةً مغايرةً مُشرِّفةً، جنسيّة طيور الحرّيّة الّتي لا يحوزها إلّا الثّوّار.
إذًا، استطاع “المناصرة” أن يتواصل مع الموروث الثّقافيّ من خلال خَلْقِهِ شخصيّةً سرديّةً، وخَلْقِهِ حَدَثًا حكائيًّا يُسيطر عليه المكان برموزه الثّقافيّة الماضية وعناصر الطَّبيعة الرّيفيّة، ليربط الحاضر بالماضي مُعلنًا أنّ مكانه الممتدّ من “جبل الطّور” في “مصر”، مرورًا بتلمسان وغرناطة إلى فلسطين، مكانٌ مُقدّسٌ ومؤصَّلٌ له جذوره الحضاريّة، وتاريخه الثّوريِّ المُشرق والمؤثِّر في تنشئة الثّوّار.
ويبرز في شعر “المناصرة” ملمح الحياة من خلال الموت مُتَدَاخلًا في هذا مع الموروث المسيحيّ في أنّ “المسيح بعد أن صُلِب ودُفِن، ذهبت مريم المجدليّة ومريم أمّ يعقوب إلى قبره، فلم تجداه في القبر، وأخبرهما ملاك السّراب أنّه قد بُعِث وسبق تلاميذه إلى الجليل كما وعدهم”([27])؛ لذلك يقول آملًا عودةَ المسيح (ع) بعد أن يشتعل الحنين فيه:
“شجرُ البُندقِ عَرَّشَ في قيعانِ روحي… يا سلام
منزلًا من خشَبِ الوردِ
على قرميدِهِ، غنّى اليمامُ
فَتَذكَّرْتُ أَيَا غائبتي رمّانةً مزروعةً في بابِ شام
يا صهيلًا غامقًا كالأرجوان
وحده النّخلُ بعيدًا كان في باديةِ الرّوح
صليبًا من رُخامٍ
قُلْت يا غَائبتي، هذا الرّبيعُ
كقطارٍ مَرَّ، أبقاني على جمرِ الصّقيعِ
سامحيني إنْ تعجَّلْتُ الرّؤى المحترقةَ
شجرُ البُنْدُقِ غنَّانِي مقامَ الرّصدِ
حتّى كدْتُ أُعلي من صُراخي المرِّ
عيسى قام… قام
لوَّحَت لي فرقةٌ من غجرِ الغاباتِ
يا عزُّ تعال”([28]).
يُلامس شجرُ البُندُقِ دخيلةَ الشّاعر، وينجح في أن يبنيَ فيها مسكنًا أثاثه سكينة الورد وهدوؤه، وأن يَهَبَ الوداعة والارتياح لنفسٍ مُربَكَةٍ غريبةٍ، وينقله في اللّحظة نحو غائبته، يُخاطرها عبر ذكرى رمّانةٍ مزروعةٍ في باب الشّام، إذ في القلب حنين عودةٍ إليها يُظهره اليمام (دالّ الشّوق والتّوق)، وجمر الصّقيع (دالّ الحريق الّذي يُشعله برد الغرباء وجفاؤهم في نفوسٍ ما ألفت إلّا دفء المحبّين وودادهم).
في الوقت الّذي أُثير فيه الحنين إلى رمّانةٍ في فلسطين الشّاميّة (كانت إحدى بلاد الشّام قبل الانتداب) صَعَّد العتَبُ والأسَفُ أنفاسهما على النّخيل (دالّ بلاد الحجاز الّتي نسَلَت يدها من القضيّة الفلسطينيّة) فَصَلَبَتِ الشّاعر، وكان الصّليب رُخامًا ثقيل الوطأة، أعدم آماله وانتظاره، وتركه يرزح تحت نير الغربة والنّفي، إلّا أنّ شجر البندق أعادَ إليه الأمل والحياة، فوقف يُهلّل ويستشرف قيامة “المسيح”، لما ترمز إليه القيامة من بعثٍ وخلاصٍ من ظلم اليهود وغيّهم وتعسّفهم، ومن العودة المُنْتَظَرَة إلى فلسطين، ولما يرمز إليه “المسيح” من الشّخصيّات الفدائيّة المضحيّة الّتي تسعى إلى خلاص شعوبها، وتحريرها بعد أن تُزهر خشبة الصّلب ومساميرها؛ إذ إنّ “كلّ من يقضي في سبيل فكرةٍ أو مبدأ، فإنّ فكرته أو مبدأه يعيش من خلال موته، كما كان جسّد المسيح طعامًا لتلاميذه ودمه شرابًا لهم، وكما بُعث المسيح من خلال الموت”([29]).
وما يبدو جليًّا في شعر “المناصرة” أنّ “المسيح” و”بيت لحم” يتلازمان في أغلب الأحيان، لما يعنيه “بيت لحم” في وجدانه. إذ يقول في هذا الشّأن: “والتّلاحمة هم جيراننا، وقد ظَلَّت بيت لحم في خيالي تعني المسيح ومريم”([30])، لذلك يستدعيها قائلًا:
“غرِّبي، غرِّبي، غرِّبي، وادفنيني على تلّةٍ
واحفرِي
احفري
احفري
أشمُّ النّسيمَ مِنَ الغَوْرِ في صبغة الأرجوانِ
إذا شئتِ بالأرجوانِ امْسَحِيه
بزيتِ القناديلِ في بيتِ لحم الأسيرة
بين شقوقِ الأفاعي الّتي كَسّرت نجمة الماء في مدنٍ من صبيبٍ
قبلَ عيدِ الصّليبِ
وَلْتَكُنْ حُفْرَتِي في الأعَالِي
الّتي كان رُهبُانها يَتْعَبُونَ من السَّردِ
حيثُ المدى
ساكنًا، وأنا قد تَعِبْتُ من السّردِ
يا جَفْرَتِي
فَلْتَكُنْ حُفرتي
قُرْبَهُم
قُرْب دُرّاقةٍ
أو صنوبرةٍ
عندَ صَفْصَافَةِ الكَرْمِ
سلسلة من روايات أُمِّي
تُطِلُّ على مَرْجٍ مِنْ أَقَاحِ”([31]).
الرّمز هو البؤرة الأساسيّة الّتي أُريد الإضاءة عليها في هذا المقطع الشّعريّ، لكونِهِ يَصل إلى مستوياتٍ متميّزةٍ من الإيحاء والبثّ، ولكونه يتشكّل في أغلبه من موروثٍ دينيّ واحدٍ هو المورث المسيحيّ. ومن أبرز هذه الرّموز: “بيت لحم، زيت القناديل، عيد الصّليب، رهبانها”؛ وعليه لا بُدّ من وضع هذه الرّموز في إطارها التّعيينيّ، قبل الولوج إلى معناها السّياقيّ المتكامل مع النّصّ.
إنّ “كلمة قنديل هي كلمةٌ تُطلَق على زيتٍ وفتيلةٍ للإضاءة، وهو المصباح، أو السّراج الّذي يضيء بالزّيت أمام الأيقونات، إذ يُوضَع أمام أيقونات القدّيسين في الكنائس، إشارةً إلى نور المسيح فيهم، والزّيت يُشير إلى الرّوح القدس”([32]). و”عيد الصّليب هو أحد الأعياد المسيحيّة الشّعبيّة المهمّة، الّذي يُحيا فيه ذكرى العثور على الصّليب، وقد بُنيت كنيسة (القبر المقدّس) في موقع الاكتشاف بأمرٍ من هيلينا وقسنطينة”([33])، و”بيت لحم” هي مدينة فلسطينيّة لها أهميّةٌ عظيمةٌ لدى المسيحيّين، لكونها مسقط رأس “يسوع المسيح”، أمّا الرّاهب فهو المُتبَتِّل المُتعبّد في الدّير، والمُعتزل عن النّاس.
يُخرج “المناصرة” هذه المفردات من قاموسها المسيحيّ البحت، ومن جوّها الّذي يُشيع إقامة قُدّاسٍ في كنيسة المهد – بيت لحم – بحضور الرّهبان الّذين يُضيئون الشّموع والقناديل، ويسحبها ليستثمرها في حالته وواقع تجربته، إذ يطلب من مخاطَبَتِه “ثلاث مرّاتٍ” أن تُغرّب نحو فلسطين، وتحفر له هناك (غرّبي، غرّبي، غرّبي/ احفري، احفري، احفري) حيث يطلع النّسيم مصبوغًا بأرجوان الدّماء، ويطلب أن تمسح خنجره بهذا الدّم ذاته، وبزيت القناديل؛ لأنّه – أي هذا الأخير – يُعادله، ويُساويه في النّتيجة؛ فَدَمُ الثّوّار النّازف يدفع بهم نحو الحياة الأبديّة في الآخرة من وجهة نظر إسلاميّة استنادًا إلى قوله تعالى: “ولا تَحسَبَنّ الّذين قُتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزَقون”([34]). وزيت الزّيتون الّذي يُضيء القناديل يرمُز إلى الحياة الأبديّة الخالية من الموت، وعندما يُمسَح الخنجر بهما، فإنّه يكتسب مهمّةً ثوريّةً، قطافها حياةٌ أبديّةٌ مُتّفَقٌ عليها، وكيف به عندما يكون مُمَرّغًا بزيت قناديل كنيسة المهد موطئ ولادة الرّسول الخلاصيّ؟! لا بُدّ من أنّه سيكتسب قدسيّته من هناك، ومن وقوع هذا المكان أسيرًا في وكر الأعداء الّذين حطّموا كلّ منافذ الخير المُودَعة فيه، قبل أن يأتيَ يوم البعث الموعود المُنْتَظَر، يوم عيد الصّليب، إذ يُعثَر على المكان الفلسطينيّ المُقدّس من جديدٍ ويُستعاد.
ولمّا كان الالتحام بالأرض صِبْغة الشّاعر، ولمّا كانت مهمّته الثّوريّة شريفةً عظيمةً، فإنّه ارتأى أن يكون قبره في الأعالي، حيث المكان الّذي تبارك وتقدّس بمهام الرّهبان التّبليغيّة، وأعمالهم الرّساليّة؛ إذ إنّه يُشبههم من ناحية الوعظ والإرشاد والتّعبئة، فبينما هم انقطعوا إلى الرّهبنة والتّعبّد والتّبليغ، انقطع هو إلى المقاومة والتّنوير، فكان كلٌّ منهم عابدًا مُتَبتّلًا يَستحقّ الأعالي، ويَستحقّ مُلازمة أرضه المجبولة بالأصالة والعراقة.
لقد حضر الموروث الدّينيّ مُتداخلًا مع حنين الشّاعر، واشتياقه إلى أرضه، وبقدر ما كانت الرّموز الدّينيّة مُضيئةً، بقدر ما كانت جماليّة الأرض متوهّجةً، والأنّات حارقةً، لِيُصَاغ بذلك كلامٌ مفاده أنّ قداسة الأرض وجمالها وتعلّقه بها يستدعيه ليكون ثائرًا مُضَحّيًا من أجلها. ففي السّياق ذاته يقول الشّاعر:
“أسئلةٌ – لا تَقْلَقُوا أيُّها الأَحِبّة
فالخليلُ عِنَبُ دَمِي
وإنْ شِئْتُم أنْ أُحدّدَ أكثرَ
دموعُ السّيّدِ يومَ اعتلى الخشبةَ
وإذا شِئْتُمُ الوضوحَ:
قشٌّ وحصّادونَ ومنازلُ مهدومةٌ
والخليلُ عصافيرُ تَنقرُ لُبَّ الرّمّانِ
استيقاظُ الثّعالبِ في الوادِي
هديلُ حمائمَ في أعالي الصّخورِ
سجونٌ
بِرْكةٌ تستَلُّ هديرَها من عروقِ الجبلِ”.([35])
ليُبرّرَ الشّاعر عشقه الخليلَ، وولَعَهُ به يبني قصيدته على تعريفِه وتوضيحه مُسطّرًا بذلك شبكةً مُعجميّةً يمكن أن نُعنونها بـ “مكوّنات المكان” (الخليل دموع السّيّد، قَشٌّ، حصّادون، عصافير تنقر لبّ الرّمّان، استيقاظ الثّعالب، هديل حمائم، سجونٌ، رُعاةٌ، حرّاثون، ثوّار..)، وفيها تبدو المفردات البيئيّة أكثر المفردات حضورًا، تبتعد من تصوير ضوضاء المدينة، أو المظاهر الحديثة الّتي تزخر بها. ولعلّ أشَدّ ما يُلفت فيها عنصرٌ بارزٌ يُغاير الطّابع الرّيفيّ لها، هو العنصر الدّينيّ الّذي يتمثّل في “دموع المسيح” والّذي يُوزِّع الخليل إلى بيئتين:
- بيئةٌ ريفيّةٌ وثيقةُ الصِّلة بالزّراعة والفلاحة، وطريقة حياة الفلسطينيّ في القرية.
- بيئةٌ دينيّةٌ منفتحةٌ تُؤمن بالعيش المشترك، وبلُحْمَةِ الشّعب الفلسطينيّ إسلامًا ومسيحيّين.
لذلك فليس أهل الخليل القرويّون متعصّبين طائفيًّا، أو مذهبيًّا، والمأساة والمعاناة الّتي يعانيها الخليليّ في الاقتلاع، هي ذاتها الّتي يُعانيها ابن بيت لحمٍ. من أجل هذا جعل الخليل دموع السيّد، دموع كلّ مسيحيّ مؤمنٍ بوطنه (إشارةً إلى وحدة الشّعب الفلسطينيّ).
ولِنَفي العنصريّة كليًّا عن أهل الخليل تغنّى الشّاعر باحتضان مجتمع الخليل لـ”إبراهيمَ” عليه السّلام، وباحتضان تراب مدينتهم جسدَ زوجته “سارة”، مع أنّ أحفاد “إبراهيم” الخليل الممتدّين من بني “إسرائيل” لم يُقدّروا حُسنَ الصّنيع، وسالِفَ الجميل، فراحوا يقتلون، ويدمّرون، وينتهكون. يقول الشّاعر:
“كان إبراهيمُ غريبًا
بلّلنا جفافَ شَفَتَيْهِ
ومنحناه قبرًا لـ”سارة” الغريبة
في سَفْحِ جَبَلِ الجوهرِ في حقل أبي
وما اكتفى ابنُ “…” بهذا”([36]).
بين “عيسى” و”الخليل” علاقة تلاحمٍ، وتناغمٍ استمرّت في نسله، وبين “إبراهيم” و”الخليل” علاقة جميلٍ وإحسانٍ لم تمتدّ في أحفاده. هذه العلاقة هي الّتي حاول الشّاعر أن يُظهرها من خلال استدعائه إيّاهما، إذ أكّد وحدة الشّعب الفلسطينيّ بمختلف أديانه، ومعاداتهم جميعهم بني إسرائيل، وأكّد عشقه هذا الشّعب، وتشبّثه بأرضه، ومعانقته كلّ ذرّة ترابٍ فيها وإن نُفيَ عنه ونأى بعيدًا عنه، وأيضًا بيّن من خلال استدعاءٍ آخر وبأسلوب فيه ما فيه من التّهكّم المُرّ، الضّريبة الباهظة الّتي يدفعها المنفيّ، يقول:
“قُلْتُ لأبي ذرّ الغفاريّ
لماذا تكذب عليّ
وهل بيني وبينك خلاف؟
ولماذا تُشهرُ النّظريّات كسلعةٍ رخيصةٍ؟!”([37]).
لا ريب في أنّ التّماثل الدّلاليّ بين حياة “أبي ذرّ”، وحياة الإنسان الفلسطينيّ المعاصر يُنتج دلالاتٍ جديدةً، منها: الثّورة، والسّير وحيدًا، والموت وحيدًا، والنّفي مرّتين، ورفض البذخ والتّرف واكتناز الذّهب والفضّة في عصره، وتحمّل تبعات التمسّك بما يؤمن به من مبادئ ثوريّة لا ينفكّ الفلسطينيّ اليوم يلتصق بها أشدّ الالتصاق في مواجهته الاحتلال الصّهيونيّ. وهذا كلّه جعل من شخصيّة “أبي ذرّ” رمزًا إنسانيًّا رافضًا الاستسلام والتّراجع، حتّى لو نفي ومات غريبًا، ولكنّ الشّاعر في هذا المقطع يبدو كأنّه يتّهم “أبا ذرّ” بالكذب، ويلومه على إطلاق النّظريّات المبتذلة. والحقيقة أنّه ينتقد بعض العرب الّذين تعاملوا مع نظريّته الثّوريّة، وموقفه، وفكره النّضاليّ، وتضحياته، بأسلوب العابث المناوئ؛ فمع “أبي ذرّ” كان يعتقد أنّ الحقّ مطلوبٌ والباطل مرفوضٌ ومنبوذٌ، حتّى وإن قويت جبهته، لكنّ بعض العرب أثبتوا له خلاف هذا الاعتقاد، حين لم يتشبّثوا بِمُنَاصرة فلسطين، وارتضوا التّخلّي عنها.
إذًا، إنّ التّواصلَ مع الماضي بكلّ عناصره، والتّعاملَ معه إنَّما ورد في سياق الامتداد الزّمنيّ الهادف إلى إيقاظ الذّاكرة الشّعبيّة، والكَشْف عن حضارة شعبٍ ذي أصولٍ وجذورٍ حضاريَّة وثقافيَّةٍ عريقتين، وتأصيلًا للوجود الفلسطينيّ نفسه، وتأصيلًا لتواصله مع وطنه، واندماجه فيه والابتعاد من دائرة الانقطاع عنه، لأنّ “الاتّكاء على هذا التّراث يُقدِّم شهادةً على الاعتزاز بالموروث المشترك، ويكشف عن خوفٍ دخيلٍ من ضياع رابطةٍ تُعَدّ مقدّسةً، حين تتعرّض أقليّةٌ ما للانصهار في تيّارٍ كبيرٍ”([38])، فالشَّاعر لم يأتِ به عبثًا، أو مُراوغةً، بل لإكساب قصائده حسّ انتمائها، وقد جاء وليد إحساسٍ بالتحامه بالهويّة الفلسطينيّة، والتّراث الفلسطينيّ لكونه حاجةً روحيّةً تخرج من آلام اغتراباته ومرارتها. إنّه “محاولة انتماءٍ دائمةٍ، ومحاولة تواصلٍ ومحاولةٌ لنفي التّشتّت، واستخدامه يعني دائمًا بنيةٌ مُضادّةٌ للواقع، وهو أيضًا محاولةٌ لِخَلْق تواصلٍ مع التّاريخيّ، بما يُسهم في إعادة لَمْلَمة أجزاء الصّورة المُبَعثَرة للشّخصيّة الفلسطينيّة”([39]).
الحواشي:
[1]() عثمان حشلاف، الرّمز والدّلالة في شعر المغرب العربيّ المعاصر، الجزائر، منشورات التّبيين، لا. ط، 1972، ص 8.
[2]() أدونيس، زمن الشّعر، بيروت، دار الفكر للطّباعة والنّشر، ط3، 1983، ص153.
[3]() عزّ الدّين إسماعيل، الشّعر العربيّ المعاصر قضاياه وظواهره الفنيّة والمعنويّة، بيروت، دار العودة، ط1، 1988، ص99.
[4]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، بيروت، دار العودة، ط1، 1981، ص 461- 462.
[5](*) كنعان: من آباء العهد القديم. ابن حامٍ وحفيد نوحٍ. جاء في سفر التّكوين (9: 20- 27) أنّ نوحًا سكر بعد الطّوفان وتعرّى في خبائه وأنّ حامًا شَاهَدَ عورته. وعندما استيقظ نوحٌ وعلم بأمر ما جرى لَعَنَ حامًا في ذرّيته من نسل كنعان. تظهر في هذه الحادثة جذور نظرة العبرانيّين التّاريخيّة للكنعانيّين. أبناء كنعان كما جاء في سفر التّكوين (10: 15- 17) هم: صيدون، حث، اليبّوسي، الأموري… كانت تخوم الكنعانيّين وفق المصدر نفسه (19) تمتدّ من صيدون نحو جرار إلى غزّة ونحو سدوم وعمورة وأدمة وصبوبيم إلى لاشع. (هنري س. عبودي. معجم الحضارات السّاميّة. طرابلس، جروس برس، ط2، 1991، عم: 1- 2، ص722-723).
[6](*) غوش إيمونيم: حركةٌ دينيّةٌ – قوميّةٌ غير مرتبطةٍ بالعمل البرلمانيّ الإسرائيليّ، عملت بنشاطٍ واسعٍ في الفترة الواقعة بين 1974 و1988، وهي الّتي شكّلت النّشاط الاستيطانيّ اليهوديّ في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة. منطلق الحركة هو أنّ من حقّ اليهوديّ إقامة استيطانٍ له في كلّ موقعٍ من إسرائيل لكون ذلك جزءًا من خلاص وإنقاذ الأرض من الغرباء. (مركز مدار. https://www.madarcenter.org تاريخ التّصفّح: 12أيّار، 2018).
[7]() عزّ الدّين المناصرة ، جفرا، بيروت، دار العودة، ط1، 1981 ص 407.
[8]() صادق عيسى الخضور، التّواصل بالتّراث في شعر عزّ الدّين المناصرة، عمّان، دار مجدلاوي، ط1، 2007، ص95.
[9]() م. ن، ص. ن.
[10]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص 528.
[11]() صادق عيسى الخضور، التّواصل بالتّراث في شعر عزّ الدّين المناصرة، عمّان، ص 95.
[12]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص474.
[13]() علي عشري زايد، استدعاء الشّخصيّات التّراثيّة في الشّعر العربيّ المعاصر، القاهرة، دار الفكر العربيّ، لا. ط، 1997، ص120.
[14]() الأعدقاء: مصطلحٌ يُطلقه “المناصرة” على الأصدقاء الأعداء.
[15]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص506- 507.
[16]() عصام شرتح، تقنيّات جماليّة في الشّعر الفلسطينيّ المعاصر، عمّان، دار الخليج، ط1، 2017، ص26.
[17]() فوزيّة كحول، شاعر النّقد الذّاتي، ضمن كتاب: يوسف رزوقة، عزّ الدّين المناصرة شاعر المكان الفلسطينيّ الأوّل، بيروت، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط1، 2000، ص398- 399.
[18]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص410- 411.
[19]() فوزيّة كحول. شاعر النّقد الذّاتيّ. ضمن كتاب: عزّ الدّين المناصرة شاعر المكان الفلسطينيّ الأوّل. ص389- 399.
[20]() إحسان عبّاس، اتّجاهات الشّعر العربيّ المعاصر، عمّان، دار الشّروق، ط2، 1992، ص 119.
[21]() م.ن، ص.ن.
[22]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص 453- 454- 455.
[23]() عزّ الدّين المناصرة، لا أثق بطائر الوقواق، بيروت، دار العودة، ط1، 2000، ص17.
[24]() القرآن الكريم، سورة الرحمن، الآية 37: “فإذا انشقّت السّماء فكانت وردةً كالدّهان”.
[25](*) فيديريكو غارسيا لوركا (1898- 1936): شاعرٌ وكاتبٌ مسرحيّ إسبانيّ. غاص، ببساطة العبقريّ، إلى أعماق الأشياء، متّخذًا من الأرض والحبّ والموت موضوعاتٍ رئيسيّةٍ له. أشهر آثاره المسرحيّة ثلاثيّتهtriology الّتي تشمل” عرس الدّم” عام 1933، “ييرما” عام 1934، ” بيت برناردا آلبا” عام 1936. (معجم أعلام المورد، عم:1-2، ص390.)
[26](**) خوان ميرو (1839- 1983): رسّام إسباني. يُعَدّ أحد أبرز ممثّلي السّرياليّة. تميّزت أعماله بالبساطة وغنى الخيال. ترجم الأشكال الطّبيعيّة إلى رموزٍ تُوقِع في النّفس دفئًا وبهجةً. من أشهر أعماله: “الأمومة” عام 1924، ” كلبٌ ينبح في وجه القمر”. (معجم أعلام المورد. عم:1، ص447).
[27]() العهد الجديد، إنجيل متّى، الإصحاح 28.
[28]() عزّ الدّين المناصرة، لا أثق بطائر الوقواق، ص8.
[29]() علي عشري زايد، استدعاء الشّخصيّات التّراثيّة في الشّعر العربيّ المعاصر، ص85.
[30]() عزّ الدّين المناصرة، شاعريّة التّاريخ والأمكنة – حوارات مع الشّاعر عزّ الدّين المناصرة، بيروت، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط1، 2000، ص254.
[31]() عزّ الدّين المناصرة، لا أثق بطائر الوقواق، ص17.
[32]() www.albwabhnews.com . تاريخ التّصفّح: 7- 12- 2017.
[33]() https.mawdoo3.com. تاريخ التّصفّح: 7 -12 – 2017.
[34]() القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية: 169.
[35]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص532- 533.
[36]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص 530.
[37]() عزّ الدّين المناصرة، جفرا، ص533.
[38]() إحسان عبّاس، اتّجاهات الشّعر العربيّ المعاصر، ص 118.
[39]() عزّ الدّين المناصرة، الجفرا والمحاورات: قراءات في اللّهجيّ في الجليل الفلسطينيّ، عمّان، دار الكرمل، ط1، 1993، ص76.