يعيش هذا الجزء من العالم في حالة من السيولة السياسية تجعل من كلّ الاحتمالات ممكنة ومتاحة، ثم انها تجعل من قوى عديدة في وضع متحرك وجاهز للاستدارة والانقلاب على الذات وعلى الآخر من الجانب الأقصى الى الأقصى المقابل دون ان تتعب نفسها بالبحث عن ذرائع ومبررات. فالمصالح والضرورات أولاً وثانياً وثالثاً وقد تأتي العقائد والمسائل الإيمانية عاشراً وفي ذيل سلم الذرائع ولا تتعدّى وظيفتها وظيفة البيانات النمطية وتسويق المسائل لعقول بالغة البساطة والسذاجة.
هذا ما لاحظناه مؤخراً في الاستدارة التركية للقاء مصر والسعودية والإمارات، فتركيا الحليف العقائدي للاخوان المسلمين ونستطيع القول سابقاً، نراها توقع مروحة كبيرة من الاتفاقات مع السعودية تغطي مساحات سياسية واقتصادية وأمنية وصولاً الى التصنيع الحربي، ولا تشترط السعودية على تركيا الخروج من الشمال السوري او وقف إجراءاتها لتجفيف الرافدين دجلة والفرات وتعطيش العراق.
مؤخراً يتمّ الحديث عن استدارة سعودية جديدة تهدف الى إعادة الحديث عن التطبيع المؤجّل مع دولة الاحتلال، او انتقال هذا التطبيع من حالة السر الذي يعرفه الجميع الى العلن الذي لا يحتلف كثيراً، فهل سيحدث ذلك؟
لم تكن السعودية في تاريخها الذي يقارب قرناً من الزمان خصماً نشطاً للحركة الصهيونية ودولة الاحتلال، بل كانت قد أعلنت عام 1945 التحاقها الكامل بالسياسة الأميركية، وذلك منذ اللقاء الشهير بين الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي في حينه روزفلت على متن السفينة كوينسي في مياه البحر الأحمر، ومن ذلك الحين ومواقفها تكتفي بالتلطي وراء الموقف العربي المشترك والفضفاض والذي يرفع شعار الإجماع الوهمي والذي تماهت معه القيادات الفلسطينية المتعاقبة، ولكن في مرحلة ما بعد حرب تشرين 1973 وإعلان منظمة التحرير الفلسطينية برنامج النقاط العشر والذي حصلت بموجبه على العضوية الكاملة في نادي النظام العربي، ومنذ ذلك الوقت أصبح الموقف السعودي يقول: نحن نقبل ما يقبل به الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
أملت القيادة المتنفذة للشعب الفلسطيني إثر توقيعها على اتفاق أوسلو ودخولها في شراكة مع العدو الذي نالت شرعيتها بزعم مقاومته، أملت أن تستطيع لعب دور الوسيط او السمسار بين دولة الاحتلال ودول العالم العربي، وقد فاتها انّ توقيعها على الاتفاق قد أزال الحرج عن فتح علاقات مباشرة، فالسعودي والعربي يقبل ومن حقة أن يمارس بما قبل به ومارسه الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني.
ما الذي يحول دون الإعلان عن التطبيع السعودي مع (إسرائيل)؟ نتنياهو كان واضحاً منذ أيام عندما قال إنّ التطبيع مع السعودية هو تطبيع ثنائي ولا يرتبط بأيّ تسهيلات لا سياسية ولا حتى حياتية تقدّم للفلسطينيين.
السعودية بدورها تريد ثمناً لهذا التطبيع يتمثل بتحسين علاقاتها بالإدارة الديمقراطية التي تحكم علاقاتها معها عقد كثيرة، وتريد أن لا يساهم ذلك بالتأثير على دورها لا بل أن يدعمها ويكرّسها زعيمة للعالمين العربي والإسلامي، وتلك مسألة كان قد تنبّأ بها منذ زمن بعيد الصحافي المصري محمد حسنين هيكل بقوله إنّ القرار العربي سوف ينتقل من بلاد الثورة الى بلاد الثروة.
أول أمس نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” خبراً أوردته صحيفة “وول ستريت جورنال” يفيد أنّ تفاهمات سعودية أميركية حول خريطة طريق لاتفاق يشمل التطبيع مع دولة الاحتلال قد تمّ التوصل إليها تشمل تنازلات غير محدّدة يتمّ تقديمها للفلسطينيين، وتعهّدات أميركية للسعودية تشمل مساعدة الرياض على إقامة مشاريع نووية سلمية، وفي ذلك شيء من الثمن الذي تسعى السعودية للحصول عليه.
التطبيع السعودي مع دولة الاحتلال آتٍ لا ريب فيه، والمسألة هي في التوقيت فقط، وربما أكثر ما يؤجلة هو الرغبة المشتركة لكلّ من ولي العهد السعودي ورئيس حكومة الاحتلال بأن يؤجّلاه الى حين اقتراب الاستحقاق الرئاسي الأميركي وتقديمة كهدية للدعاية الانتخابية للمرشح الجمهوري سواء أكان دونالد ترامب أم غيره…