كم هي مخيفة ردود الفعل والمواقف المتطرفة التي جاءت خبط عشواء، والتعليقات العنيفة المحرّضة والمستفزة التي صدرت عن نواب، ومسؤولين، وسياسيين، وإعلاميين، من هنا وهناك، بالجملة والمفرّق، التي رافقت انزلاق الشاحنة على كوع بلدة الكحالة.
لصالح مَن تأتي التصريحات النارية المحرّضة، والمؤجّجة للخلافات، والممعنة في شقّ الصف الوطني، وإشعال فتيل الفتنة من جديد!
لماذا الذهاب بعيداً في التحليلات المغرضة، وصبّ الاتهامات، وإثارة النعرات بعد انزلاق شاحنة الكحالة؟! ماذا لو انزلقت هذه الشاحنة بما فيها من حمولة أسلحة في مكان ما غير الطريق العام في الكحالة، هل كانت ستثير هذه الضجة المفتعلة التي قامت بها بعض القوى السياسية والحزبية، والإعلامية، من خلال حملة عنيفة مركزة فاقت كلّ حدود، وتجاوزت المعقول!
إذا كان المواطن اللبناني قد تعوّد على المواقف المتطرفة، المتصلبة التي تستند الى خلفيات فكرية وعقائدية مسبقة لسياسيين، ومسؤولين، ونواب، وحزبيين، حيال فريق لبناني ما، فإنه من غير المقبول مطلقاً، أن يلجأ بعض الإعلام المشبوه، ليخرج عن شرف المهنة وأصولها، ويُصرّ عمداً على عدم توخي الحقيقة، وليجعل نفسه طرفاً ضدّ آخر. لصالح مَن، ولخدمة مَن، يحرّض بعض الإعلام، يؤجج،
ويصب الزيت على النار وهو يغطي حدثاً، او ينقل خبراً؟! وما الذي يهدف اليه من وراء ذلك؟! وهل أسلوبه هذا الذي يثير أكثر من علامة استفهام يساعد فعلاً على تهدئة الأوضاع والحفاظ على السلم الأهلي؟!
ما هو دور الإعلام الوطني، ونهجه، وأداؤه، وسلوكه، وصدقيته، وموضوعيته الحقيقية؟!
ما شاهدناه على شاشات التلفزة، وسمعناه من الإذاعات يثير الريبة والشكوك، حول أهداف وأداء وسلامة، وصدقية وموضوعية بعض الإعلام حول انزلاق الشاحنة وما تحويه.
هل كان بعض الإعلام فعلاً يعطي صورة سليمة عما يجب عليه أن يفعله ويتحلى به، لتهدئة وطمأنة الناس، والتعاطي مع الأحداث بعقلانية وحسّ ووعي وطني، بدلاً من اللجوء الى شحن النفوس، وتحريضها،
وإطلاق العنان للشاشات ان تفعل ما تشاء دون ضوابط، أو مسؤولية ودون أن تأخذ بالاعتبار، هشاشة الوضع اللبناني القابل للانفجار؟
عندما يلجأ بعض الإعلام عمداً الى تصفية الحسابات مع الآخر، ويتخلى عن رسالته النبيلة، وشفافيته، وموضوعيته أثناء نقل الخبر، وتغطية الحدث وتسليط الضوء عليه بخلفية سياسية مسبقة، مشبعة بالتحامل، والانحياز والارتهان لجهات خارجية، فإنه بذلك يخرج عن إطار شرف المهنة، ورسالتها الوطنية الحقيقية.
إنّ الإعلام الوطني الحقيقي اليوم، أمام اختبار كبير. وهو مدعوّ في هذه الظروف الدقيقة الحرجة والخطيرة التي يشهدها لبنان إلى وأد الفتنة قبل غيره، لا إلى تأجيجها، إلى الدعوة لجمع الصف الواحد، لا الى بث الأحقاد، وإثارة النعرات الطائفية، والعصبيات المقيتة، وشقّ الصفوف، وإطلاق التهم جزافاً، يميناً وشمالاً، وصبّ الزيت على النار. بعض الإعلام للأسف، يتمنّى وينتظر بفارغ صبر، ويبتهج عند حصول أحداث وتطورات خطيرة في البلد، وكأنّ هذه الأحداث تصبح عدة الشغل، والشغل الشاغل له، لينتهزها ويبالغ في نقلها، وفي تضخيم وقائعها عله يثبت “جدارته” ويجلب اليه المزيد من المشاهدين، فيما هو يعلم في العمق أنه يثير الضغائن، والكراهية والأحقاد في النفوس، ويؤلّب الناس والأفرقاء على بعضهم البعض، جاعلاً نفسه طرفاً فيها، ليعمد إلى دعم طرف ينحاز اليه، وعلى تركيز حملته الإعلامية على الطرف الآخر، بالتشهير به، لينال منه، ويشوّه بالتالي صورته السياسية، والمعنوية أمام الشعب.
أيها الزعماء والمسؤولون والسياسيون، والإعلاميون، والمنظرون، لبنان في ظلّ أوضاعه الحالية الاستثنائية والخطيرة، أحوج ما يكون إلى الروية والهدوء، وإلى حكمة العقلاء، لإخماد الفتنة التي تطلّ برأسها منذ أشهر، والتي يروّج لها، ويعمل البعض على إشعالها.
الشحن الطائفي لا يجدي، إنما يأخذ أبعاداً مدمّرة، يجرّ وراءه كلّ اللبنانيين دون استثناء ليدفعهم الى المواجهة وبعدها الى الهاوية.
ما قرأناه على وسائل التواصل الاجتماعي، من مختلف فئات الشعب يشكل ضربة قاسية للوطن وللعيش الواحد، وفاق كلّ تصوّر، حيث تفجّرت فجأة، وإلى العلن ما تختزنه النفوس من كلّ الفئات والأطياف، من رواسب وضغائن وكراهية. نفوس تفتقر الى الروح الوطنية والقومية العالية الجامعة، وإلى المواطنية الصالحة، والانتماء الأصيل لوطن وشعب.
أيّ وطن نعوّل على بنائه في ظلّ الانقسام والتشرذم،
في ظلّ الخوف والحذر، والتقوقع والكراهية!
حذار حذار من التمادي في اللعب بالنار، والرهان على الخارج. خذوا العبرة من “بوسطة” عين الرمانة عام 1975، ولا تجعلوا شاحنة الكحالة ذريعة لخلخلة وتمزيق وحدة الشعب، وزلزلة البلد، وجره الى المجهول.
كلّ السياسيين والمسؤولين والإعلاميين، والحزبيين، أمام امتحان كبير، وهم مدعوّون اليوم قبل الغد الى إجهاض ما تحضّره الأيادي القذرة في الداخل، وما تحيكه قوى دولية في الخارج للبنان لجرّه الى الموقع الذي لن يكون بكلّ تأكيد، إلا على حساب سيادة الوطن ومستقبل اللبنانيين بكافة مكوناتهم دون استثناء!