هي الحياة
قصص متشعّبة ومتداخلة
تطول أو تقصر
تقسو أو تحنو
كلّ واحد منّا بطل قصّته، يعيشها ويرويها، ما يعني أنّ الإنسان قاصّ بالفطرة.
بناء على هذا، تكون القصّة قديمة قدم التاريخ، رافقت ظهور الحياة، فبدأت مع آدم وحوّاء. وكأنّي أقول إنّ القصّة حياة انتقلت إلى التدوين والأدب فصارت فنًّا، وارتقى هذا الفن وتطوّر شأن الفنون الأدبية كافة، والقصة ليست استثناء؛ فهي نوع أدبي مفتوح على مصراعيه للتجريب في الشكل والمضمون.
إذا كانت القصة، بصفتها حكاية، قديمة في الأدب وترجع إلى أقدم عهود التدوين، واعتمدت في نشأتها وتكوينها على أصول عربية مثل المقامة وحكايات ألف ليلة وليلة، فإن هذا الفن الأدبي، بعناصره وخصائصه المتجدّدة دائمًا، نشأ في رحاب الحياة الاجتماعية الغربيّة، وعبّر عن أحوالها وتقلّباتها وأفراحها وأحزانها مستخدمًا اللهجات المحليّة لتقرب من أن تكون لغة روى بها الشعب حكاياته، وصارت هذه الحكايات، ابتداء من القرن الرابع عشر، تُروى نثرًا وتقدّم جديدًا يتجدّد بتجدّد الحياة التي لا تعرف السكون ولا تخضع لقانون الثبات. وأخذت مقوّمات القصّة تكتمل في مطلع القرن التاسع عشر، وتمثّلت في أعمال قصّاصين كبار من أمثال إدغار ألن بو، وتشيخوف وغوغول وموباسان. وبلغ من أهميّة غوغول أن قال القاصّ الروسي تورغنيف: “لقد أتينا جميعًا من معطف غوغول” في إشارة إلى أهمية غوغول وقصته “المعطف”، وقيل: “القصّة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة القصيرة”. ثم أخذت القصة القصيرة تعايش الأحداث المستجدّة، فاهتمّت بقضايا الإنسان ومشكلاته، وحملت في كنهها حقيقة تاريخ كل حقبة عاصرها القاص من خلال رصده لحظة مختارة ذات دلالة وتسليط الضوء عليها، فتكشف حقيقة إنسانيّة كبرى.
هذا في الغرب، أمّا في عالمنا العربي، فتحت تأثير الترجمة ونتيجة التفاعل العربي الغربي، وما تضمّن من انتشار للتعليم والصحافة واطّلاع على القصص الغربي، انتقل فن القصّة إلينا، وعرف تطوّرًا ملحوظًا وما زال، ولعلّ هذا النوع الأدبي القصير هو الموائم لحياتنا الحاليّة لذا هو في تطوّر مستمرّ، وذو قابليّة لجذب الأقلام الحرّة لتسطر تجربتها الأدبية في ربوعه.
هذا من حيث النشأة أمّا من حيث التعريف، فقد تناقل الدارسون عدّة تعريفات للقصّة، منها: “القصة وصف الأحداث والشخصيات التي اخترعها الكاتب أو المتحدّث من أجل الترفيه” وهي “تتبّع وتقصّي أخبار الناس وأفعالهم شيئًا بعد شيء أو حادثة بعد حادثة” و”القصة أحدوثة شائقة، مرويّة أو مكتوبة، يقصد بها الإقناع أو الإفادة”، و”إنّ القصة القصيرة هي حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال، ويمكن قراءتها في مدّة تتراوح بين ربع ساعة وثلاثة أرباع الساعة، وأن تكون على جانب من التشويق والإمتاع”. يشوب هذه التعريفات النقص لأنّ القصة القصيرة نوع أدبي مراوغ، يستعصي على التعريفات الجامعة المانعة، ويأبى أن تحتويه قوالب جامدة، فالأساس فيه الإبداع. لكن يمكننا أن نستفيد مما ورد في هذه التعريفات ونخلص إلى أنّ القصة فن سردي قصير متخيّل ذو فاعليّة جماليّة ودلاليّة، يصوّر حدثا كاملًا من زاوية معيّنة ويجلو موقفًا معيّنًا. يمثّل سعي ذات/ شخصيّة إلى تحقيق هدف في مكان وزمان معيّنين، تناوئها شخصيّات، وتساعدها أخرى، ويؤدّي هذا الحدث راوٍ من منظوره.
فضلًا عن ذلك، تمتاز القصّة بخصائص ومميزات، وأول ما يميّزها القصر ولعلّ ذلك يعود إلى الرؤية البصرية أو الحيّز البصري، إذ يربط المتلقي القصة القصيرة بالحجم القصير فلا تتعدّى القصة القصيرة عشرة آلاف كلمة. لكنّ هذه الميزة الشكلية هي نتاج رصد القاص جزئية مختارة ودالّة من الحياة، وبذلك تكون القصة “فن اللحظة المهمّة وتجسيده في بناء فنّي قوامه الأساس التكثيف والتركيز والتقطير الذي يشمل كل كلمة وكل جملة وكل الشخصيّات والمواقف والوصف والحوار… وفي سبيل ذلك تنحو القصة القصيرة منحى التركيز على اللحظة المهمة المنطلق إلى الهدف – القمة؛ حيث ينبغي التوقف، ويتم التنوير أو لحظة التنبّؤ، وهي “كثيرًا ما تكون لحظة تمرّ بها الشخصيّة حيث يحدث فيها تغيّر حاسم وفاصل في موقفها من الحياة”، فالذي يعني الكاتب هو جلاء هذا الموقف الذي يريد أن يستشف منه معنى معيّنًا يريد إيصاله إلى القارئ.
وبذلك، فإنّ خاتمة القصّة القصيرة تكتسب أهميّة خاصة إذ تتجمّع فيها وتنتهي إليها خيوط الحدث كلها، فيكتسب الحدث معناه.. وبناء عليه، “ليست القصة القصيرة رشحًا من الخاطرة السهلة تعنّ لك وأنت مستلق على دثارك… بل هي صنيع فنّي، هي وليدة خيال رحب محلل”، وقدرة على التقاط حدث محدد وتظهيره، وهذا لا يتأتّى إلّا من مبدع متمرّس.
ولأن غاية ملتقى الشعراء العرب الذّي أسّسه الأديب المصري المبدع الأستاذ ناصر رمضان عبد الحميد مع لفيف من المثقفين والأدباء، تشجيع الإبداع، كانت الحصة في هذا الموسم لمبدعي القصة القصيرة لأنهم قليلون نسبيًّا، وفي هذا يقول الروائي فؤاد كنعان “ما أكثر كاتبي الرواية وأقل كاتبي القصة القصيرة”. ولعلّ السبب يعود إلى صعوبة كتابة القصيرة التي تفرض الإيجاز والتكثيف والرؤية الواسعة الثاقبة ويتطلب ذلك قدرات لغوية وعقلية وقدرة على التخيّل. فهي بحسب يوسف إدريس “تشبه القنبلة الذريّة في صغرها وفعاليتها… يمكن تصنيعها على أيدي أناس ذوي موهبة خاصّة”. وغاية الموسوعة القصصية أساطير عابرة القارات تسليط الضوء على ذوي المواهب الخاصة، وقد صار ذلك ممكنًا إذ شحذت وسائل التواصل المكتوب والمرئي والمسموع والالكتروني همم الهواة وشكلت لهم كوّة يعبّرون فيها عن رؤاهم، ويعبرون من خلالها نحو الآخر، ومن الجدير بالذكر، أنّ القصص المنتقاة التي نشرت في هذه الموسوعة هي البداية لأقلام واعدة تحتاج منّا التشجيع والتحفيز، حاول الملتقى ممثلًاً برئيسه وأعضائه أن يكونوا عونًا لهؤلاء الكتّاب حتى تنطلق تجربتهم وتعبر من الذات تجاه الآخر، ونحن أعضاء الملتقى مؤمنون بأنّ الكتابة تعلّم الكتابة، ولا بدّ من فرصة تُعطى حتى تصقل التجربة القلم الذي بدوره سيرقش بياض الصفحة برؤى غنيّة ومثمرة.
*مقالة كتبت مقدمة لموسوعة القصة القصيرة، “قصص عابرة القارات”، تنشر عن دار اسكرايب، في العام 2024، في معرض القاهرة.