عندما تتعرّض دولة عظمى ما للتهديد في عقر دارها، لا بدّ لها في نهاية الأمر، من أن تستخدم كلّ الوسائل العسكرية والاقتصادية والبشرية المتاحة لها للقضاء على هذا التهديد، حفاظاً على وحدة أرضها وشعبها، وسيادتها، وأمنها القومي.
هي اليوم حال روسيا وهي تواجه تهديداً استراتيجياً
خطيراً يطالها في الصميم، يهدف الى ضرب الأمن القومي الروسي، وزعزعة الاستقرار فيه، ومن ثم تقويض النظام من أساسه، والعمل على تفكيك دول الاتحاد الروسي.
منذ اليوم الأول للمواجهة العسكرية في أوكرانيا، التي جعلت منها الولايات المتحدة، حصان طروادة ومعها الاتحاد الأوروبي، بغية الانقضاض على روسيا، وهي تزجّ الطرفين الأوروبي والأوكراني ليكونا وقوداً لحرب استنزاف طويلة الأمد، حتى وإنْ كانت الحرب على حساب مصالحهما، طالما انّ الاتحاد الأوروبي، أثبت عجزه الفاضح في التحرر من الإملاءات، والمطالب، والالتزام بالقرارات الأميركية الأحادية الجانب ذات الصلة بالعقوبات والإجراءات المتخذة بحق دول رافضة لسياسات الهيمنة الأميركية.
عندما انخرطت دول أوروبا في الحرب غير المباشرة ضدّ روسيا في أوكرانيا، ظنت ومعها واشنطن، انّ الحرب لن تطول، وستُجبر روسيا على الرضوخ والانسحاب وفقاً للشروط الغربية. لم تضع في حسابها انّ دفاع روسيا عن مجالها الحيوي، وأمنها القومي، ووحدة أراضيها مسألة حياة أو موت، ولا مجال مطلقاً للمساومة، وإنْ كلف ذلك روسيا الثمن الباهظ.
التصعيد العسكري الذي تلجأ إليه واشنطن والاتحاد الأوروبي، من خلال تدفق المعدّات العسكرية المتطورة جداً على أوكرانيا، يواجهه تصعيد عسكري روسي لا مفر منه. إلا انّ استمرار الغرب بهذه السياسة لن يؤدّي الى تركيع موسكو، وفرض الأمر الواقع عليها. فالدول العظمى لا تقبل بهزيمة من دولة اقلّ شأناً منها على مختلف الصعد. وما روسيا بحربها في أوكرانيا إلا المعيار الذي يحتّم عليها ان لا تتقبّل الهزيمة بأيّ شكل من الأشكال، لأنّ هزيمتها أمام الغرب كله، تعني تقهقرها على المسرح الدولي، وتحجيمها، وضرب هيبتها، وتراجعها سياسياً، وعسكرياً، ومعنوياً. كما تعني أيضاً إعادة رسم خريطة جديدة في العلاقات السياسية الدولية، وفرض المعادلات الاستراتيجية في أوروبا والعالم لجهة إنشاء تحالفات جديدة تجعل الولايات المتحدة تتحكم بمصير العالم لعقود.
يعلم جيداً الاتحاد الأوروبي الذي آثر الرضوخ والخنوع لواشنطن بإرادته أو مكرها، حقيقة مجريات الأمور. ففي الوقت الذي تتمسّك فيه بمطلبها الحازم، وموقفها المبدئي، نجد أنّ شعوب أوروبا تعاني من تداعيات انخراطه، ومغامرته في حرب عبثية فرضتها الولايات المتحدة عليه، التي تدير الحرب من بعيد، ومن خلف المحيط، لتجعل دول الاتحاد الأوروبي بعد انتهاء الحرب أكثر التصاقاً وطاعة لها.
إذا كان مشروع مارشال الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، جعل أوروبا الغربية تدور في فلك الولايات المتحدة، التي أصبحت الى حدّ بعيد، الراعي والحامي والمدافع العتيد عنها، فإنّ حرب أوكرانيا بدورها، وبعد انتهاء العمليات الحربية، ستجعل أوروبا أكثر تبعية لواشنطن، حيث ستظفر بحمايتها ودفاعها عنها .
واشنطن وأداتها الاتحاد الأوروبي بتصعيدها للحرب في أوكرانيا، تريد جرّ روسيا إلى استخدام سلاح غير السلاح التقليدي، بعد أن قرّرت تزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية المحرمة دولياً؟! أليس هذا القرار يدفع بروسيا الى الحرب الواسعة، ويهيّئ لها الأرضية الخصبة للذهاب بعيداً في استخدام أسلحة الدمار الشامل؟! روسيا كدولة قوية عظمى عسكرياً، شأنها شأن أميركا، والصين، لن تقبل بأيّ شكل من الأشكال أيّ هزيمة في الميدان، خاصة إذا كان الميدان أوكرانيا، التي تتفاوت على أرضها معايير السياسة،
والقوة، والاقتصاد، والأمن، والسيادة، والبعد الاستراتيجي.
إلى أيّ مدى ستستمر واشنطن في تأجيج الحرب الأوكرانية، وإضرام لهيبها، وتوسيع نطاقها واستقطاب المزيد من الدول المنخرطة فيها؟!
إنّ الربيع الذي كانت تنتظره واشنطن والاتحاد الأوروبي، ودميتهما زيلينسكي، كي يقلبوا الموازين العسكرية في الميدان، ويسترجعوا ما خسرته أوكرانيا في الحرب، لم يحقق هدفه بعد أن مُني بالفشل، فيما الخريف يقترب ليصبح مجدداً في صالح القوات الروسية.
هل كان على أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي، أن
تدفع هذا الثمن الباهظ، فيما لو انها تفهّمت مخاوف روسيا، واستجابت لمطالبها، وهي بكلّ تأكيد لم تكن مطالب تعجيزية، بمقدار ما هي مطالب تحفظ أمن روسيا القومي، وتصون وحدة أرضها وشعبها وسيادتها. في حين أنّ الولايات المتحدة لم تكترث للخطر الذي سيلحق بموسكو جراء سياساتها الاستفزازية العدائية الرامية الى حصار وتطويق روسيا، من خلال توسيع جغرافية الحلف الأطلسي شرقاً، وصولاً الى الدول الاسكندنافية مؤخراً.
إنّ الحل السياسي بيد واشنطن قبل موسكو. لا سيما أنّ روسيا لم تحقق هدفها حتى الآن في تصحيح الوضع الشاذ في أوكرانيا من خلال عملياتها العسكرية التي بدأتها في 24 شباط 2022، ولا تزال. وما دامت أوكرانيا حتى الآن وقود الحرب التي أرادتها لها واشنطن والاتحاد الأوروبي، وغير قادرة على تحقيق انتصار عسكري حاسم على روسيا، فإنّ واشنطن لن تتردّد في المضيّ بالمواجهة العسكرية، غير المباشرة بحصانها الأوكراني – الأوروبي، لإحراج روسيا وهي في قمة حرب الاستنزاف، وجرّها مرغمة الى استخدام السلاح غير التقليدي الذي لوّح په يوماً رئيسها بوتين.
أمام الهجمة الأميركية الأوروبية على روسيا في أوكرانيا، واستمرارها بكلّ شراستها، لن يبقى بعد ذلك أمام موسكو من دواء إلا الكيّ. فهل تعيد أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي حساباتها، بمعزل عما تريده واشنطن منها؟! وهل أيقنت هذه الدول أنها كانت بغنى عما حلّ بها من تداعيات وأزمات واضطرابات! وانه حان الوقت لتقول للولايات المتحدة: كفى اللعب بنار الحروب وتأجيج الصراعات بين الدول، وتهديد السلام العالمي؟!
هل يجرؤ الاتحاد الأوروبي، ومعه أوكرانيا، على مطالبة واشنطن والضغط عليها لوقف الحرب، بعد أن استنفدت كلّ الوسائل فيها، وقبل ان يصل لهيبها الى عقر داره!