ينعقد في بيروت حاليّاً المؤتمر القومي العربي الثاني والثلاثون. لا أولوية أُولى للمؤتمر في برنامجه إذ تتخلل جلساته على مدى يومين مناقشة التقرير السياسي الذي وضعه أمينه العام السابق د. زياد حافظ، ومناقشة عدّة أوراق بحثية في سبع جلسات، أولاها لماهر الطاهر (فلسطين) “نحو جبهة عربية – عالمية من أجل حق الشعوب بالاستقلال والنهوض والتنمية”؛ ثانيتها لمحمد حسب الرسول (السودان) “التطورات في السودان”؛ ثم خمس أوراق حول محاور المشروع النهضوي العربي لمحمد السعيد إدريس (مصر) ويوسف مكي (السعودية) ومحمد البشير (الأردن) وخالد شوكات (تونس) ومصطفى المعتصم (المغرب)؛ تلي ذلك كله مناقشة عامة لمحاور المشروع النهضوي العربي المتكامل كما تتبدّى في الأوراق البحثية الخمس.
مع أنّ زياد حافظ شدّد في تقريره على أنّ الغرب يسعى من خلال نموذجه النيوليبرالي الى تعطيل الحيوية الاقتصادية المبنيّة على المبادرة والإبداع لصالح نموذج آخر ريعي مالي غير منتج يكتفي بالاحتكار لبناء الثروات الخاصة على حساب المواطنين، ويسعى عبر العولمة الى إلغاء المجتمعات وتحويل عناصرها الى جماعة مستهلكين، والهجوم الممنهج على كافة مكوّنات المجتمع كالأسرة والدين والقيَم الموروثة، فإنّ إدارة المؤتمر لم تلحظ في برنامجه ورقةً بحثية تُعالج ما أراه، وربما غيري أيضاً، التحدي الأخطر الذي يواجه العرب عامةً في زماننا وهو محاولة الغرب تحويل مكوّنات مجتمعاتنا الى كيانات إثنية أو مذهبية أو عصباوية متصارعة. أليس هذا ما يجري منذ سنوات ويتواصل الى الوقت الحاضر في لبنان وسورية والعراق وفلسطين المحتلة واليمن وليبيا والسودان؟
في لبنان، يطرح حلفاء الغرب والدائرون في فلك سياسته وثقافته نظامَ الفدرالية كمخرج من الأزمة السياسية – الاقتصادية – الاجتماعية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات وتجلّت مؤخراً في عجز مؤسّسات الدولة المبنية على نظام المحاصصة الطوائفي عن انتخاب رئيس للجمهورية رغم مضيّ ثمانية أشهر على خلوّ هذا المنصب المركزي.
في سورية، جرى ويجري منذ سنة 2011 استثارة الفروق والعصبيات والتباينات بين مختلف المذاهب الإسلامية، ودعم جماعات من الكرد في شمال البلاد، والضرب على أوتار الغبن اللاحق ببعض المناطق في جنوبها وشرقها وتأليبها كلها على الحكومة المركزية في دمشق ما مكّن أعداء سورية، خاصةً بعد دعمهم لاحقاً لفصائل إسلامية متطرفة (تنظيم “داعش” وسواه) من سلخ مناطق في غرب البلاد وشمالها الشرقي، عن حكومة دمشق. ثم ما لبثت الولايات المتحدة الأميركية أن نشرت قواتٍ لها في شمال شرق البلاد بدعوى محاربة “داعش” ومثيلاته، كما في منطقة التنف على مقربة من مثلث الحدود بين سورية والعراق والأردن. كلّ ذلك للحؤول دون عودة الجيش العربي السوري الى المناطق المتمردة على الحكومة المركزية من جهة، ومن جهة أخرى لتضع أميركا يدها على مكامن النفط والغاز في هذه المناطق.
في العراق، تلعب الولايات المتحدة بأوتار التباينات بين السنّة والشيعة من جهة وبين العرب والكرد من جهة أخرى لتدويم حال الشقاق والتباعد بين مكوّنات الشعب العراقي بغية الحؤول دون تلاقي العراقيين على مطلب الوحدة الوطنية وتغليب القواسم والمصالح المشتركة على عوامل التفريق والتمييز.
في فلسطين، تحاول “إسرائيل”، برضى أميركا، تكريس قطاع غزة وحده كدولة فلسطين المنشودة مقابل التسليم لها بتوسيع رقعة الاستيطان في الضفة الغربية تمهيداً لضمها الى الكيان الصهيوني.
في اليمن، شجّعت ودعمت الولايات المتحدة مباشرةً او مداورةً من خلال دول مجاورة النوازع والنزاعات القبلية والمناطقية لفكّ أواصر اليمن المتحد بغية إعادة السيطرة عليه، ولا سيما على المناطق التي تحتوي مكامن النفط.
في ليبيا، استغلّت فرنسا كما أميركا وبعدهما تركيا التباينات والنزاعات بين زعماء قبائلها فحالت تدخلاتها دون استعادة وحدتها السياسية وأبقتها تالياً نهبةَ لصراعات قبلية وخارجية تخدم هيمنة دول الغرب الطامعة.
في السودان، سعت دول الغرب الأطلسي دائماً الى استغلال الفروق الدينية والمذهبية والمناطقية الى ان تمكّنت من فصل جنوب البلاد عن شمالها، وها هي اليوم تناصر أحد طرفي القوات المسلحة ضد الآخر مستخدمةً الفروق والنزاعات المناطقية، ولا سيما في دارفور، لتفكيك وحدة البلاد ولضمان استغلال مواردها الطبيعية.
إنّ ما تقوم به دول الغرب الأطلسي في الأقطار العربية المار ذكرها جرى ويجري بعدما تمكّنت هذه الأقطار، جزئياً او كلياً، من تحرير نفسها خلال النصف الثاني من القرن الماضي. وإزاء تغيّر موازين القوى عالمياً وإقليمياً بعد ذلك، خصوصاً بفضل دور الاتحاد السوفياتي ثم وريثته روسيا الاتحادية، قامت دول الغرب الأطلسي، ولا سيما الولايات المتحدة، بتطوير أساليب تدخلها فتخلّت عن أسلوب الحروب الساخنة المباشرة واعتمدت أسلوباً مغايراً يقوم على أساس اللعب بأوتار الفروق المذهبية والقبلية والمناطقية بين مكوّنات الأقطار العربية الغنيّة بالموارد الطبيعية، وذلك في سياق سياسي مترعٍ بإغراءات تحويل المكوّنات، بعضها او كلها، الى كيانات سياسية مستقلّة ومتنافرة. إنها سياسة “فرّق تسد” بحلّة جديدة كانت بريطانيا نجحت في اعتمادها خلال عهد إمبراطوريتها التي قيل إن الشمس ما كانت تغيب عن أراضيها وممتلكاتها.
العرب اليوم، في أقطار شتى، يواجهون هذا التحدي القديم – الجديد: تحويل المكوّنات الى كيانات متنابذة ومتصارعة. ذلك حملني على مصارحة المشاركين في المؤتمر القومي العربي الثاني والثلاثين بأنني أستغرب عدم قيام إدارة المؤتمر بتكليف باحث بإعداد ورقة عن هذا التحدّي الخطير الذي يواجه العرب اليوم مع أن الأمين العام السابق زياد حافظ أشار إليه في تقريره الجامع المانع.
لعلّ مردّ غياب الورقة المطلوبة الى انّ تقرير د. حافظ وصل الى إدارة المؤتمر متأخراً فتعذّر عليها الوفاء بهذا المطلب في الوقت المتاح لإعداد برنامج المؤتمر وإبلاغه من المشاركين.
أيّاً ما كان السبب، فإنه ما زال في وسع المشاركين أن يوصوا الأمانة العامة للمؤتمر بتنظيم ورشة عمل موسّعة في قابل الأيام لمناقشة هذه القضية البالغة الأهمية وتقديم التوصيات بشأن النهج والآليات المناسبة لمواجهة هذا التحدّي الذي ما زالت مفاعيله وتداعياته تهدّد العرب في مشرقهم ومغربهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نائب ووزير سابق.
issam.naaman@hotmail.com