منذ صرختها الأولى أوجدت معنى جديداً في أسرتها.
لمعة عينيها، بهاء وجهها، هدوؤها المعبّر.. كل ما فيها كان يدلّ بقوة أنها نجمة من تبر نادر.
لم يأت في أي يوم من حياتها التي زادت قليلاً عن أربعة عقود ما ينفي نجوميّتها.
نجمة طفلة. نجمة فتاة، نجمة شابة، نجمة سيّدة.
عيبها الأفدح جشعها للتحصيل. كانت تعابث مسائل الرياضيات لتخترع طريقة جديدة، يتردّد المدرس الشهير العتيد غسان بقبولها، لاستحالة إيجاد طريقة أخرى، لكن بفحص المنطق يثبت صواب الطريقة الجديدة. فإن لم تكن طريقة أوجدناها.
***
حنان استنسخت دون أن تدري مبدأ عبقريّ الحرب في كل العصور وفي كل الأمم، هنيبعل برقة القرطاجي، عندما أكد له كبير قواده استحالة عبور جبال الألب إلى شمال إيطاليا، فقال “إن لم تكن طريق أوجدناها”. فأمر الجيش بحفر الجبال الصخرية لتكون طريق لعبور قوافل الجنود والفيلة. ليحاصر روما 13 عاماً، وأصبح مضرب مثل في كل العصور عن الخطر الداهم “هنيبعل على الأبواب”. فكان عبقريّ الحروب الفينيقي القرطاجي سيّد القمم.
***
حنان كذلك عندما تبتدع طريقتها لحل المسائل تثبت أنها سيدة قمم، فكيف أنها شقت طريقها في قمم عاصية ومستحيلة، ليست بأقل عصياناً من عصيان قمم الألب: العادات الاجتماعية، الواقع الطائفي، التفاوت العنصري، التخلف الاجتماعي، التمييز الجندري، البُعد عن المدينة، غياب الوالد 4 عقود بسبب العمل، تشتت الخيارات، الفساد السياسي، الواسطة الطائفيّة والحزبية.. كلها معضلات وعقبات وغيرها أشد عصياناً من قمم الألب.
***
مشدودة حنان إلى الطب، تنظر بعين الدهشة إلى الطبيعة بمجهر البايولوجيا، وأعجوبة الإنسان، ومعجزة تكوينه، جسداً ونفساً، أعصاباً ودماغاً، بدناً وروحاً،.. فتقدّمت لامتحان في كلية الطب للجامعة اللبنانية في الدكوانة، وهي المجلّية التي لا يقلّ معدلها العام عن 18 من عشرين، ولما عادت كانت فرحة انها أنجزت كل الأجوبة المطلوبة وأخذت تناقش خيارات التخصص: هل تتخصص في طب الأطفال، ام القلب، ام الأعصاب ام الدماغ.. لكن دولة العصابات والأحزاب الفاسدة، كانت تعدّ لها هدية فاخرة، وهي الرسوب. وعرفت لاحقاً أن المحظية البديلة عنها كانت تقيم في قبرص وقت الامتحان!!!؟
***
البديلُ عن متعة الطب كانت البايولوجيا، درستها في جامعة الفقراء حتى نالت البكالوريوس، وأخذت تمارس التعليم في مدارس منطقتها، ولم يطل وقت حتى تعرّف إليها شاب من قرية مجاورة، مغترب، فتزوّجا وسافرا.
ربما في الولايات المتحدة لم يكن مناسباً لتعلّم في تخصّصها، فوجدت وظيفة في شركة تصدير، ورأت أنه يمكنها مع عملها وأسرتها دراسة إدارة الأعمال، فأنجزتها.
***
عادت إلى وطنها لبنان أكثر من مرة. في إحدى المرات بقيت بضع سنوات، تجول في القرى لتدرّس الإنكليزية ضمن برنامج مخطط يتشارك مع جمعيات المجتمع المدني والبلديات، خلالها درست شهادة الماجستير في إدارة الأعمال، ونالت مرتبة امتياز فيها. وتقدّمت لشهادة الدكتوراه منذ سنتين، فطلبت منها الجامعة الالتحاق بها للمتابعة بمنحة من الدولة الأميركية. وأنجزت أطروحتها في ميدان القيادة. وفي 24 نيسان الماضي (2023) أقيم لها تكريم لنيلها مرتبة الشرف وأضيفت إلى لائحة الشرف في الجامعة لإنجازها الدكتوراه، وأوكلت إليها مهام الاهتمام ببعض زميلاتها.
من قمّة إلى أعلى جديرة ببلوغها، ترتقيها حنان بخفة فراشة.
***
استحقت حنان نعمتين ربانيتين، إضافة إلى ما تزخر به من نعم ضافية تتدلى قطوفها الدانية عناقيد ثمار حانية. وهما بنتاها أنجي التي في سنتها السادسة عشرة أنهت الهاي سكول وتهيأت للمرحلة الجامعية، وألين التي صنّفت من عباقرة الولايات المتحدة الصغار. وهكذا نحن بكل أمانة ما زلنا نصدّر هذه البضاعة السحرية للغرب، كما كان يرى عمر فاخوري، لكن بفضل نظام التخلف، الذي يتقن تهجير أبنائه وبناته خلف المحيطات والبحار.
***
قمم حنان لا تنتهي فهي متسلسلة كحرمون، من قمة أدنى إلى قمة أعلى فقمة أعلى.
وها هي على مشارف قمّة أعلى؛ كما طوّبت الشاعر اللبناني بولس سلامة عملياته المئة رتبة أيوب القرن العشرين؛ قمة تطوّبها بروفسورة الصبر.
***
من دون صبر يا عمّاه لا منزلات للأرواح العالية ولا درجات للنفوس الراقية.
الثلاثاء 25 تموز 2023