خلافاً لما تعمل تركيا وأميركا على إشاعته في العلن من تعارض أو تناقض بين سياستي الدولتين في سورية، فإنّ لكلّ من الطرفين مشروعه المتكامل مع مشروع الطرف الآخر في أهدافه الاستراتيجية وإنْ كان يظهر في بعض الأحيان نوع من التناقض العملاني والتكتي في الميدان التنفيذي، فمن يبحث في حقيقة الأمر يجد أنّ أميركا وتركيا الأطلسيتين تعملان في سورية ضمن استراتيجية ترمي الى تحقيق هدف مركزي أساسي هو شطب سورية القوية الموحّدة من الخريطة الإقليمية وتفتيتها وإقامة الكيانات الواهنة بديلاً منها والتي لا تتمتع بقوة البقاء كدول وتحتاج دائماً للمساعدة الخارجية. ورغم ان الحرب الكونية التي قادتها او ساهمت بها الدولتان فشلت في تحقيق هذا الهدف، فإننا نجد انّ أميركا وتركيا تراوغان وتحاولان تحقيقه بوسائل أخرى ولهذا تتمسكان باحتلالهما لأرض في سورية.
من أجل ذلك تعمد الدولتان الى العمل على مسارات ثلاثة تظنان انها ستمكنهما في نهاية المطاف من تحقيق أهدافهما او هدفهما الاستراتيجي ذاك، ويتمثل المسار الأول بالتغيير الديمغرافي في الداخل السوري والمحيط، يليه تدمير المقومات الاقتصادية والمالية للدولة، وأما المسار الثالث فينفذ تحت عنوان ضرب الثقافة الوطنية والانتماء القومي لشرائح الشعب.
ففي المسار الأول، أي التغيير الديمغرافي تعمد الجهات المعادية لسورية والمنتهكة لسيادة أراضيها الى مراجعة الخريطة الديمغرافية للشعب السوري عبر تهجير داخلي مترافق مع نزوح ولجوء الى الخارج، وتنفذ مشروعها هذا تحت عنوان منع عودة النازحين السوريين الى بيوتهم والدعوة الى دمجهم بالسكان في دول الجوار خاصة لبنان والأردن وتركيا والعراق، وترى تلك الجهات أن نجاح هذا الدمج سيحرم سورية من ستة ملايين على الأقلّ من سكانها أيّ ما يقارب ربع الشعب السوري، الأمر الذي يؤثر حتماً على القوة الوطنية الشاملة لسورية وهي القوة التي تشكل الديمغرافيا أحد عناصرها،
ولا تكتفي دول مشروع التغيير الديمغرافي بمنع عودة النازحين من الخارج، بل إنها تمارس سياسة الحصار والتعطيش في الداخل خاصة في شمالي شرق الفرات حيث الأكثرية العربية، لحمل هذه الأكثرية على الهجرة ما يؤدّي أيضاً الى تغيير ديموغرافي لصالح الأكراد أصحاب المشروع الانفصالي الذي تحتضنه أميركا،
أما السلوك الثالث على هذا المسار فيتمثل بمنع إطلاق عملية إعادة البناء في سورية. هذه العملية التي إذا تمّت ستنعكس على إعادة توزع المقيمين في الداخل السوري ما يضع حداً لتهجير 6 ملايين سوري وعودتهم إلى منازلهم، الأمر الذي ينتقل بهم من صفة العبء على الاقتصاد الوطني والإخلال الديمغرافي الى حالة تشكيل رافعة وطنية لاستعادة القوة الديمغرافية والاقتصادية للدولة.
وعلى المسار الثاني وهو المسار الاقتصادي تمارس أميرك وتركيا ودول العدوان على سورية الحرب الاقتصادية عليها بعناوين متعدّدة منها مصادرة وسرقات الثروات الوطنية من نفط ومحاصيل زراعية وتعطيل عجلة الصناعة السورية والضغط على الليرة السورية التي باتت تعاني بشكل شديد، هذا فضلاً عما تسميه أميركا عقوبات عنوانها قانون قيصر الذي يشدّد الخناق على الاقتصاد السوري بشكل إجرامي لا أخلاقي ولا مشروع.
اما الحرب النفسية المتعددة العناوين فهي لا زالت قائمة ويحشد فيها أكثر من طرف وجهة ووسيلة إعلامية وهي ترمي إلى ضرب الانتماء الوطني السوري والقومي العربي للشعب السوري ونشر انتماءات دينية وقومية واثنية تصادمية من شأنها ضرب الوحدة الوطنية والانتقال بالشعب من شعب سوري واحد الى كتل عرقية أو دينية أو طائفية تصادمية.
ولأجل ذلك تتمسك أميركا باحتلال الشمال الشرقي السوري وقاعدة التنف وتحتضن المشروع أو الحركة الكردية الانفصالية التي تتخذها تركيا في المقابل ذريعة لاستمرار احتلالها للشمال، شمالي حلب وشمالي غرب سورية من إدلب حتى الحدود، وتضع المشاريع الميدانية لإعادة نشر السكن على أساس مذهبي أو عرقي خدمة للمشروع الأساس، وعليه يجب أن نؤكد على وحدة المشروعين التركي والأميركي وتخادمهما ضدّ المصلحة السورية العليا وضد وحدة الشعب والأرض السورية.
هذه الحقائق تطرح السؤال المهم كيف تواجه سورية هذا العدوان وكيف السبيل لتجنب مخاطره؟
بداية يجب أن ننوّه الى ان العدوان الأميركي ـ التركي على سورية لا تنحصر مفاعيله فيها ولا يقتصر بسلبياته عليها فقط، بل هو يتخذ من سورية مدخلاً للنيل من المنطقة ومن محور المقاومة وقطع الطريق على الكتلة الأوراسية المتشكلة من الصين وروسيا ومنعها من امتلاك نفوذ أو تأثير غربي آسيا، ولذلك يعتبر هذا العدوان وجهاً من وجوه الصراع الدولي القائم في أكثر من منطقة.
ولأنّ الأمر كذلك فإنّ المواجهة يجب أن لا يقتصر عبؤها علي سورية فقط بل يجب أن تتوزع المسؤولية على جميع من هم مستهدفون مباشرة وغير مباشرة.
أما سورية التي حققت الانتصارات الكبرى في مواجهة الحرب الكونية، فإنها مستمرة في المواجهة وعلي اتجاهات ثلاثة وهي مطمئنة إلى حد بعيد من تحقيق النتائج المرجوة خاصة إذا توفر لها الدعم الشامل المناسب من الأطراف الأخرى، فسورية نجحت في نشر بذور المقاومة الشعبية الواعدة بوجه الاحتلال الأميركي مقاومة بدأت تربك المحتل وأجبرته على مراجعة انتشاره غير المشروع وتعزيز قواته واتخاذ إجراءات دفاعية متطورة، كما نجحت سورية في إبراز الصوت الشعبي السوري والموقف العشائري العالي الرافض للاحتلال ولمشروعه الانفصالي.
وفي مواجهة الاحتلال التركي، فقد أكدت سورية أن لا عودة لعلاقات طبيعية مع تركيا أو لقاء مع رئيسها قبل وضع خطط إنهاء الاحتلال والبدء بتنفيذ الانسحاب، فإنْ استمرت تركيا بالمراوغة والتفلت من مخرجات استانة وسوتشي المؤكدة على تصفية الإرهاب والاحتلال على الأرض السورية، فستكون فصائلها الإرهابية أولاً وتشكيلاتها العسكرية المحتلة ثانياً عرضة للعمل العسكري السوري والحليف لتطهير الأرض السورية منهما.
هذا في السياسة والميدان، أما في الاقتصاد والحرب النفسية فإن هناك مسؤولية كبرى على الدول العربية الى جانب حلفاء سورية لمواجهة الضغوط العدوانية في هذا المجال، خاصة بعد أن تمّت تسوية العلاقات البينية بين سورية ومعظم الدول العربية بالشكل الذي يحترم خيارات سورية وحقوقها السيادية.