لا جدال في أن الذكاء الإصطناعي بات علماً ومعرفةً وممارسةً شائعة، بدرجات متفاوتة من الإنتشار ، في جميع أنحاء العالم . لعله أوسعها وأعمقها شيوعاً في بلدان اميركا الشمالية واوروبا الغربية.
ينقسم العلماء والخبراء حول جدوى الذكاء الإصطناعي وخطورته . بعضهم ، كمايكل آر سترين ، مدير دراسات السياسة الإقتصادية في معهد اميركان انتربرايز ومؤلف كتاب “الحلم الاميركي لم يمت لكن الشعبوية يمكن ان تقتله” ، يؤكد ان التقدم التكنولوجي في الذكاء الإصطناعي وغيره يحسّن رفاهية الإنسان ، وتطوير الأدوية والعلاجات ، وزيادة الإنتاجية والأجور ، وإنتاج الغذاء والحدّ من الجوع ، والحدّ من الفقر ، والتقدم في تكنولوجيا الطاقة . بعضهم الآخر يخشى من مخاطر الذكاء الإصطناعي في أمور عدّة كالتضليل الإعلامي ، والصور المزيفة ، وبطالة العمال والمستخدمين والمعلمين ، حتى ان الملياردير ايلون ماسك ، مالك شركة تويتر ، أبدى خشيته من أن تتفوّق أنظمة الذكاء الإصطناعي على البشر وتتحكم بهم في قابل الأيام . ولعل ما اوصل ماسك الى هذا الإستنتاج الخطير نجاح شركته “نورا لينك” في زرع تقنيات ذكية في الدماغ للتواصل مع أجهزة حواسيب (كومبيوتر) مباشرةً من خلال التفكير وذلك لمساعدة المصابين بشلل او الذين يعانون أمراضاً عصبية.
لا يمكن الإحاطة في مقالةٍ واحدة بكل أبعاد وجوانب ومحاسن ومخاطر الذكاء الإصطناعي في شتى الحقول والعلوم والإستخدامات والمهن والفنون. لذا أخترتُ التركيز في هذه السطور على مخاطر الذكاء الإصطناعي على أمننا القومي في الصراع مع “اسرائيل”.
لم أقع شخصياً على مرجع جامع او نصّ متكامل يرصد ما توصلّت اليه “اسرائيل” من إستخدامات ونجاحات في ميدان الذكاء الإصطناعي . لكن ما تيسّر لي الإطلاع عليه من نصوصٍ وتصريحات شتى لمسؤولين إسرائيليين يشير الى ان الكيان الصهيوني يستخدم تسهيلات الذكاء الإصطناعي في الامور الآتية :
.1 الإستخبارات : نسبت الصحافة الإسرائيلية ، صدقاً او كذباً ، خلال شهر ايار/مايو الماضي الى قيادة الجيش الإسرائيلي أنها “رفعت تقريراً الى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو حول كيفية العثور على القادة المطلوبين (من حركة الجهاد الإسلامي) وإغتيالهم بإستخدام اجهزة الإستشعار ، ومعالجة المعلومات الإستخبارية المرئيّة والمسموعة، والبصمات الالكترونية ، وتطبيقات الذكاء الإصطناعي التي تحلل البيانات” ، وأن نتنياهو أبدى إغتباطه لأن جيشه “حقق فجوة كبيرة بيننا وبين أعدائنا”.
.2إتقان إستخدام الذكاء الإصطناعي: تنسب وكالة رويترز (2023/6/13) الى العقيد ايلي برنبوم قوله في مقابلةٍ معها إن نحو نصف عدد الفنيين العسكريين لدى “اسرائيل” سيصار الى تركيز تخصصهم بالذكاء الإصطناعي مع حلول العام 2028 . ويدّعي بيرنبوم أن عدد الفنيين العاملين حالياً في مشروعات متعلّقة بالذكاء الإصطناعي يربو على 20 في المئة ، وأنه خلال خمس سنوات يتوقع أن يصبح عدد هؤلاء آلافاً.
.3الإستشعار العسكري : زعم ضباط اسرائيليون كبار للصحافة خلال شهر شباط/فبرايرالماضي ان “اسرائيل” تقوم بنشر تقنيات ذكاء اصطناعي في عملية إتخاذ القرارات المتعلّقة بالعمليات الهجومية وذلك لمعرفة طبيعة وهوية الهدف المراد التصويب عليه . كما ان تقنيات ذكاء اصطناعي جرى إستخدامها في العمليات الدفاعية لإشعار وحدات الجيش بأنها مهددة من قِبَل العدو بعناصر تحمل قاذفات صواريخ.
.4 البنادق المزوّدة بتقنيات ذكاء إصطناعي: كانت روزالين مِنْ ، الملحقة بوكالة أسوشيتد برس ، قد كشفت في 2022/10/17 أنه بعد تزايد الإشتباكات بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية قامت “اسرائيل” بتزويد جنودها ببنادق بتقنيات ذكاء إصطناعي . وجاء في الخبر الذي اوردته الوكالة المذكورة أن الجندي كان يكتفي ، عند مشاهدته الهدف ، بأن يكبس على زر فتنطلق رصاصات البندقية من تلقاء نفسها.
المهم في هذه الإحاطة المختصرة ان “اسرائيل” قطعت شوطاً كبيراً في إتقان التزوّد بالذكاء الإصطناعي وإدخاله الى مختلف أنواع اسلحتها التي تستخدمها بلا رحمة ضد المدنيين كما المجاهدين الفلسطينيين .
السؤال: كيف حال العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً مع الذكاء الإصطناعي ؟
ليس لديّ معلومات موثوقة من مراجع مسؤولة ، عربية او اجنبية، في هذا المجال الامر الذي يستوجب الإسراع في عملية توعية العرب ، مسؤولين ومواطنين ، على مخاطر إستخدام “اسرائيل” لتقنيات الذكاء الإصطناعي في الصراع وإنعكاساته السلبية على العرب عموماً في شتى المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، ولاسيما في الإعلام المضلّل، والصور المزيّفة ، وتعطيل المرافق الإقتصادية ، وإفساد عقول القادة وأهل الرأي بإستخدام تقنيات للذكاء الإصطناعي تؤثر في تفكيرهم وتحرفهم عن بعض القيم العليا والتوجهات السياسية والايديولوجية.
إزاء هذه التحديات والمخاطر ، ما العمل ؟
يجب ألاّ يغيب عن أذهاننا أن “اسرائيل” دولة نووية تمتلك مئات الرؤوس القادرة على تدمير المنشآت والمرافق الإقتصادية والإجتماعية والقواعد العسكرية في كل أنحاء الوطن العربي، وأنها ترفض الإنضمام الى معاهدة منع إنتشار الأسلحة النووية ، وأنها تالياً خارج رقابة أيّ هيئة أممية ، ولن تتردد في إستعمال أنواعٍ من السلاح النووي اذا ما شعرت أن أمنها القومي في خطر.
في ضوء هذه الواقعات والإحتمالات الخطيرة ، أرى انه يتوجب علينا القيام بالتدابير الآتية:
اولاً ، المبادرة بلا ابطاء على الصعيدين القطري والقومي الى إكتناه وإعتماد تقنيات الذكاء الإصطناعي في مختلف المجالات الإقتصادية والإجتماعية والعسكرية والفنية وفق جدول للحاجات والضروريات الاكثر اهمية وخطورة وجدوى.
ثانياً ، وجوب قيام الدول العربية والإسلامية المؤيدة للمقاومة الفلسطينية ، في حال توصلها الى إدخال تقنيات الذكاء الإصطناعي على الأسلحة المصنّعة او المطوّرة لديها ، بتزويد المقاومة الفلسطينية بهذه الأسلحة بغية تحقيق قواعد جديدة للإشتباك بينها وبين القوات الإسرائيلية وصولاً الى تحقيق توازن في الردع معها.
ثالثاً ، عقد إتفاقات تعاون مشترك في ميادين الذكاء الإصطناعي بين الدول العربية والإسلامية المؤيدة للمقاومة الفلسطينية ، ثنائياً فيما بينها ، او جماعياً في إطار جامعة الدول العربية او مؤتمر التعاون الإسلامي ، او في إطار ايّ صيغة إقليمية او دولية مناسبة.
رابعاً ، الدعوة داخل الامم المتحدة وخارجها الى إنشاء وكالة اممية للذكاء الإصطناعي مهمتها مراقبة وبالتالي الحدّ من إستخدام تقنيات هذا العلم والفن في الأسلحة الثقيلة المؤذية او تلك المتداخلة مع الأسلحة النووية.
خامساً ، السعي لإقامة وكالة أممية تابعة للأمم المتحدة مهمتها مراقبة كل وجوه استخدام الذكاء الإصطناعي في مختلف انشطة الحياة العامة ، خصوصاً ما يتعلق منها بإدخال تقنيات وشرائح من الذكاء الإصطناعي الى الأدمغة البشرية بغية التأثير في تفكير البشر او السيطرة والتحكم بالجنس البشري أفراداً وجماعات ، ومعاقبة المخالفين.
أجل ، لعل أخطر تحدٍّ يواجه الجنس البشري ، حاضراً ومستقبلاً ، هو إحتمال ان يتفوّق الذكاء الإصطناعي على الذكاء البشري ، فيصبح مصير البشرية برمتها أسير الصراع بين أجهزة وآليات الذكاء الإصطناعي نفسها، المتفلتة من رقابة قيادات الجنس البشري وسيطرتها .
issam.naaman@hotmail.com