شكل العام 2022 منعطفاً استراتيجياً وتاريخياً في مسار المقاومة الفلسطينية التي تعمل في الداخل الفلسطيني المحتلّ، بحيث جاءت معركة سيف القدس لتكشف مدى الترابط بين ساحات العمل الفلسطيني المقاوم بعناوينها الأربعة: غزة والضفة الغربية والقدس وأرض فلسطين التي احتلت في العام 1948.
وقد تصاعد العمل الفلسطيني المقاوم خلال هذه المرحلة على خطين متناسقين متكاملين خط شدّ العصب والتفعيل في الداخل وخط التكامل والتناسق مع مكونات محور المقاومة الأخرى خارج فلسطين المحتلة، بحيث أطلقت في هذه الفترة او اعتمدت خلالها نظريات وقواعد استراتيجية جديدة بدأت بمعركة سيف القدس وتتالت خلال المعارك بعدها والتي كانت “ثأر الأحرار” و”بأس جنين” الصور الأخيرة منها فكانت نظرية “وحدة الساحات” وتعدّد الجبهات وقتال “الأسود المنفردة” الذي مارسه “عرين الأسود”. وبرز بشكل أوضح النهج المقاوم والتخطيط والإدارة المركزية عبر غرفة عمليات المقاومة المركزية المشتركة مع الاحتفاظ بحرية العمل اللامركزي دون الارتطام بخطر التصادم أو التعارض، ثم كانت أخيراً عمليات جنين ومخيمها التي فضحت الوهن الإسرائيلي في الميدان وأبرزت قوة شكيمة المقاومة.
في مواجهة ذلك، اندفع العدو الإسرائيلي نحو الضفة الغربية بعمليات وحشية يبدو أنه وضع لها هدفاً مركزياً أساسياً هو احتواء العمل المقاوم في الضفة الغربية والقدس ومنع تشكل بيئة انطلاق انتفاضة شعبية نوعية ثالثة تهدّد إذا حصلت الاحتلال في الضفة وتجبره على تكرار قرار الانسحاب الذي نفذه في غزة وقبلها جنوب لبنان.
لهذا فإنّ العدو الإسرائيلي يعمل في الضفة الغربية على خطين متكاملين، خط يمتلك بمقتضاه كامل السيطرة الفعلية على الأرض والثروة ويقضمها تباعاً عبر المستوطنات ويقيّد حركة السكان فيها، وخط يترك بموجبه للسلطة الفلسطينية الناشئة بمقتضى اتفاقات أوسلو أمر الإدارة الذاتية في حدود ضيقة بحيث يحقق العدو عبرها مكسباً أمنياً كبيراً هو التنسيق الأمني بين أجهزة أمن السلطة من جهة والقوات الأمنية والعسكرية والاستخبارات الإسرائيلية من جهة أخرى، بحيث إنّ العمل المقاوم يحاصر بـ 3 دوائر من أجهزة الملاحقة والقمع والتنكيل، تبدأ بأجهزة الأمن الفلسطيني المتشكل من فلسطينيين تقودهم السلطة الفلسطينية، تليها الشرطة وأجهزة الأمن الإسرائيلية، وصولاً الى الدائرة الثالثة التي تتمثل بالجيش وبشكل خاص قوى البر بما فيها من وحدات خاصة ومشاة محمولة وقوى مدرّعة خفيفة وثقيلة. ولا نسقط من هذا التعداد اللجوء الى الطيران في حالات خاصة يكون تقديرها منوطاً بالقائد الميداني.
تعمل القوى في هذه الدوائر الثلاث بـ 3 أنماط من التشكيلات والعمليات العسكرية، الأول المراقبة الأمنية الدائمة والمعالجة الفورية وفقاً للتعليمات الثابتة وتكون منوطة بالأمن الفلسطيني والأمن الإسرائيلي بشكل منفرد او منسق، والثاني العمليات النوعية التي تنفرد أجهزة الأمن الإسرائيلي بالقيام بها بعد تنسيق مسبق أو بدون تنسيق مع الأمن الفلسطيني، والثالث هي العمليات الكبرى التي يقوم بها الجيش بدعم او من غير دعم من أجهزة الأمن الإسرائيلي او الفلسطيني. أما مظاهر وأشكال العمل الأمني فتتجلى بـ: نقاط ومهام وحدات المراقبة والتتبع، نقاط التفتيش، دوريات الملاحقة. وحدات العزل والحصار، قوى الاقتحام والاعتقال، مفارز الهدم والتدمير.
بيد أنّ العدو رغم قدراته الذاتية واستفادته القصوى من التنسيق الأمني يعاني من وهن في بنيته الأمنية والعسكرية يرتدّ سلباً على أداء تشكيلاته بسبب تدني المعنويات وتراجع عمليات التطوّع والتملص من العمل في مهام الأمن، وتجنب معارك الالتحام والاشتباك القريب، والخشية من معارك النفس الطويل أو الحرب المفتوحة، الخشية من تعدد جبهات القتال، أما أخطر النقاط هذه فهو خشية الصهاينة من قتال الشوارع والعمل في الأحياء الآهلة.
لذلك نرى أنّ المقاومة الفلسطينية ورغم تفاوت سقوف الالتزام لديها بالعمل المقاوم تستطيع استغلال نقاط الضعف هذه وتحرّك الميدان بشكل يهدّد الاحتلال جدياً خاصة بعد أن أثبتت هذه المقاومة قدراتها في المواجهة بدءاً بسيف القدس وصولاً الى بأس جنين وما بينهما من معارك وعمليات فردية منظمة ومخططة أو من غير ذلك، وعليه فإننا نرى انّ الضفة الغربية تشكل الآن مسرحاً للصراع بين استراتيجيتين: استراتيجية المقاومة الرامية الى ضرب سيطرة العدو ودفعه الثمن الباهظ للاحتلال ما يجبره في النهاية على الانسحاب، واستراتيجية العدو الإسرائيلي الرامية الى احتواء المقاومة واجتثاثها من الضفة الغربية أو منعها من عرقلة خطط قضم وضمّ الأرض في الضفة والقدس. والسؤال الآن أيّ من الاستراتيجيتين ستفرض في الميدان؟
بداية من المؤسف أن نقول بأنّ العدو الإسرائيلي يستند في جزء كبير من تخطيطه للمواجهة على التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية ويستفيد من التساهل الدولي ويعمد الى الوحشية في مواجهة الفلسطينيين بعيداً عن كلّ قواعد القانون الدولي الإنساني وقوانين الصراعات العسكرية، في حين نجد أنّ الفلسطينيين يعانون الى حدّ من حالة الترهّل والتخلي العربي والدولي ولا يجدون نصيراً فعلياً لهم إلا محور المقاومة ومكوناته التي تمدّ المقاومة في الضفة بالمستطاع من المساعدات وتلوّح بفتح جبهات جديدة بوجه المحتلّ إذا اتجه الى تنفيذ خطته باقتلاع المقاومة من الضفة الغربية والتي نرى الوضع فيها قد يسلك أحد السيناريوات الأربعة التالية:
السيناريو الأول: ونأمل فيه أن يتوقف التنسيق الأمني ويستمرّ تآكل الردع الإسرائيلي أمام تصاعد عمليات المقاومة الجماعية المخططة من قبل فصائل المقاومة الأساسية او الفردية التي تنفذ من قبل “عرين الأسود” بشكل يؤدّي الى فقدان سيطرة العدو على الموقف في معظم الضفة وتتشكل مجموعات الجزر المقاومة المغلقة الأمر الذي يستعيد حالة غزة أو جنوب لبنان ويفتح الطريق أمام التحرير الفعلي.
السيناريو الثاني وهو ما يبدو الأكثر ترجيحاً في الميدان الآن وفيه يستمرّ التنسيق الأمني قائماً وتتجه “إسرائيل” الى اعتماد سياسة العمليات الرشيقة المركبة مع التشدّد في التدابير الأمنية التي تحدّ من حركة السكان والمقاومة دون أن تمنعها كلياً ومع تكثيف عمليات المطاردة والاقتحام والانتقام التي تنفذها بشكل روتيني وتكثفها عند وقوع الخسائر الكبرى في صفوف العدو في مقابل انتشار المقاومة في كامل الضفة الغربية وإرباك العدو بشكل جدي.
السيناريو الثالث: وهو ما يسعى اليه العدو كما يبدو من أدائه الراهن وينفذ عبر التشدّد في التنسيق الأمني الفاعل المترافق مع تشديد الحصار والخناق على المقاومة ووضع الضفة في حالة طوارئ دائمة تشتد فيها العمليات القمعية مترافقاً مع إعادة انتشار عسكري إسرائيلي رشيق ومرن في كامل الضفة وممارسة ما عُرف بالقبضة الحديدية في جنوب لبنان في العام 1985 بغية شطب المقاومة من المعادلة في كامل الضفة أو تهميشها وإظهار السلطة الفلسطينية أنها هي الممسكة بالوضع بدعم إسرائيلي وأن المقاومة عرض طارئ مرفوض.
السيناريو الرابع: وهو ما تتجنّبه “إسرائيل” حيث يكون فيه انفجار للوضع في كامل الضفة الغربية نتيجة الإفراط في استعمال القوة ضدّ الفلسطينيين ومقاومتهم الرافضة للاحتلال وتفشي قضم الأرض ما يجعل الانزلاق في المواجهة ممكناً وتدخل غزة لإنقاذ مقاومي الضفة في مرحلة أولى ثم تدخل الجبهات من الشمال إلى جانب المقاومة في الضفة ما قد يقود الى حرب محدودة.
إنّ وضع الضفة الغربية ومقاومتها اليوم يمرّ في مرحلة حساسة وحرجة ومع كلّ الآمال المعقودة على المقاومة فيها وترجيح انتصارها في الميدان وتمكنها من فرض معادلة تحفظ بقاءها وفعاليتها باعتبار الطريق الوحيد للتحرير تبقى الخشية قائمة نوعاً ما في ظلّ استمرار التنسيق الأمني والتخلي العربي والدولي عما يجري في فلسطين.