قبل حوالي الشهر حذّر الجنرال رونين بار رئيس جهاز المخابرات (الإسرائيلية) الشاباك من انّ لدى جهاز الأمن الداخلي معلومات أكيدة تفيد بأنّ العمل جار في مخيم جنين على إقامة ورشات حدادة بهدف تصنيع الصواريخ، وأنها قد تكون قد أصبحت جاهزة للإنتاج وأنّ ذلك يمثل تهديداً استراتيجياً خطيراً للأمن الإسرائيلي. كثير منا يذكر كيف بدأت ظاهرة صناعة الصواريخ في جنوب لبنان على أيدي المقاومة اللبنانية، وفي وقت لاحق في قطاع غزة، كانت بدائية بسيطة وتطوّرت إلى أن أصبحت ما أصبحت عليه اليوم، فصواريخ المقاومة اللبنانية قادرة على تغطية كامل فلسطين المحتلة والوصول إلى أيّ نقطة فيها، وصواريخ غزة وصلت الى تل أبيب وتجاوزتها شمالاً، ولنا أن نستذكر أيضاً عبارات الهزء والسخرية التي رافقت بداية الظاهرة والتي قيل عنها في حينه إنها عبثية وكرتونيّة وليست أكثر من ألعاب نارية.
قبيل العملية العسكرية الأخيرة في مخيم جنين أطلقت رشقتان من تلك الصواريخ باتجاه مستوطنات احتلالية وأعقبتها بعد انتهاء المعركة رشقتان أخريان كان آخرها الثلاثاء الفائت، لم تقتل هذه الصواريخ ولم تجرح أحداً من المستوطنين، ولم تحدث ضرراً في المنشآت ولكنها أصابت العقل الاستراتيجي للأمن الإسرائيلي الذي أشعل الأضواء الحمراء، ندرك تمام الإدراك انّ هذه الصواريخ بسيطة ولا نبالغ في الحديث عن فاعليتها الحالية فهي تمرّ بمرحلة تجريبية وربما يقضي تطوّرها استشهاد بعض العاملين على إنتاجها ومطلقيها، ولكنها تسير بالطريق ذاتها التي سارت عليه التجربتان اللبنانية والغزية.
يدرك (الإسرائيلي) ذلك تماماً وهو يخشى أنّ تطوّرها سيكون أسرع بكثير من مثيلتها خاصة في غزة المحاصرة، حيث أغلقت الأنفاق التي كانت تهرّب منها حاجات غزة ولم يبق من باب مفتوح الا المعابر التي يسيطر عليها (الإسرائيلي) سيطرة مطلقة تجعله قادراً على التحكم بدخول ما يشاء ومنع ما يشاء، وبالطبع يمنع أولاً السلع ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري مثل الأنابيب الحديدية التي تستخدم في تمديدات المياه والصرف الصحي…
أما في الضفة فإنّ ذلك من الصعوبة بمكان بسبب الحيّز الجغرافي المتداخل مع باقي فلسطين المحتلة وبسبب الحدود الممتدة لمسافات طويلة. إنها حالة مدهشة، فالصراع يدور بين دولة بالغة القوة (إسرائيل) لديها أرقى أنواع التكنولوجيا المتقدّمة في العالم وأكثر مراكز الأبحاث والمختبرات تطوّراً التي لا تملك نظيراً لها إلا دول قليلة، ولكنها مع ذلك غير قادرة على حسم الصراع وإنزال الهزيمة الساحقة والمطلقة بفلسطين وما حول فلسطين، وفي المقابل تكنولوجيا بدائية بسيطة في ورشات حدادة بسيطة، ولكنها تسير نحو التطور، ودرءاً للمبالغة فإنّ هذا التطوّر بالغاً ما بلغ فلن يصل الى مستوى التكنولوجيا المعادية، ولكنه قادر على عرقلتها وإرباكها وإشغالها، وأن يحقق بتراكم النقاط بمقدار ما تتراكم نقاط الخسارة في المعسكر المعادي.
كانت للاحتلال أهداف عدة في معركة جنين الأخيرة، حقق منها ما يُرضي المتطرفين في المستوطنات، واستطاع إنزال عقاب جماعي بالمخيم وساكنيه وبيوتهم وفي الشوارع وشبكات الكهرباء والمياه، ولكنه لم يجد او يفكك مصانع أو ورشات حدادة، ولعله لم يستطع العثور عليها.
معركة الأسبوع الماضي ستكون الأولى في سلسلة من المعارك والاجتياحات التي علينا توقعها وانتظارها والاستعداد لها، وهي تهدف في ما تهدف إلى إعادة بناء المشهد الفلسطيني (السلطة الفلسطينية في مرحلتها الثالثة) بعد رحيل الرئيس الفلسطيني الحالي.