الدولة هي مؤسسة الشعب الكبرى، بصرف النظر عن طبيعة الحكم. الحكومة مؤسسة من مؤسسات الدولة مناط فيها القيادة واتخاذ القرارات والتنظيم والتنسيق وإصدار المراسيم و… من أجل مصلحة الدولة. العالم بأجمعه موزّع على دول بأنماط سياسية مختلفة واقتصادية وإدارية مختلفة، لكن جميع الحكومات متشابهة في الصلاحيات والأهداف من حيث المبدأ.
بعض الدول تتعرّض لأزمات خارجية أو داخلية تنعكس سلباً عليها وعلى المواطنين. مهمة الحكومة هي إنقاذ الدولة أو إدارة الأزمة بأقلّ الخسائر وصولاً إلى الخلاص. الحكومات التي تصنّف فاشلة هي تلك التي تقود الدولة إلى أزمة أو التي لا تعرف طريق الخروج من أزمة، والأكثر فشلاً هي التي تراقب الأزمة دون أي مبادرة أو ردّ فعل بالحدّ الأدنى، فكيف إذا سارت الحكومة بأدائها نحو تفكّك الدولة؟
لبنان دولة مفككة البنية الاجتماعية أصلاً، إلى طوائف، وكلّ طائفة كبيرة لها نفوذها ودورها ورؤيتها السياسية ومصالحها، لذلك فإنّ حكومة لبنان مؤسسة تتمثل فيها الطوائف، ضمنها يتصارع الممثلون على الصلاحيات والمكاسب والنفوذ مسقطين إلى حدّ كبير مصلحة الدولة العليا بحيث خسر القطاع العام دوره ووظيفته وتحوّل إلى قطاعات مستقلة حتى عن الدولة.
أزمة الكهرباء تعود في بداياتها إلى السبعينيات وتفاقمت بالثمانينيات. مع إعادة الإعمار أول التسعينيات لم يعط هذا القطاع حقه. لم يصلح جذرياً، لم يتوقف التقنين، ولم تستوفَ الجباية بشكل كامل. طبعاً كان ذلك إجراء مقصوداً من كلّ الحكومات المتتالية لأهداف تصبّ في خانة الفساد المالي وكان المواطن يدفع الثمن وصولاً إلى الظلام الدامس. واحدة من تلك الأهداف هي خصخصة القطاع في خطة الحريري السياسية كما غيره من القطاعات (الاتصالات، النقل العام…). في نظر البعض المؤيد فإنّ الخصخصة تحمي القطاع من الفساد وتؤمّن للمواطن طاقة دائمة (وهذا صحيح)، في المقابل فإنّ فريقاً آخر يرفض تحت عنوان العدالة الاجتماعية، إذ أنّ السعر المرتفع للطاقة الناتج عن الخصخصة يحرم منها المواطن العادي أو الفقير.
الخصخصة بحدّ ذاتها لا تراعي سوى الربح لأصحابها بعيداً عن أيّ ظروف اجتماعية. (وهذا صحيح أيضاً)، الحكومة الحالية أبقت المرفق عاماً وجعلت الكلفة خاصة فجمعت بذلك السلبيتين. حجة الحكومة أنّ القطاع يحتاج إلى مدخول وأنّ ميزانية الدولة تريد أن تتحرر من عجز قطاع الكهرباء. ومع أنّ العجز هو من مسؤولية الحكومات بل من فعلها فإنّ الحكومة الحالية تعاطت مع القطاع كأنه مؤسسة مستقلة عن الدولة وله ميزانيته الخاصة، فجعلت الاشتراك الشهري العداد بصرف النظر عن أيّ مصروف ما يزيد عن المليون ليرة شهرياً وفي ظلّ تقنين يصل إلى عشرين ساعة يومياً! كيف يستطيع الموظف العادي في القطاع العام شراء الكهرباء من دولته في ظلّ الرواتب الحالية؟
ما ينطبق على الكهرباء ينطبق على الاتصالات وقطاع الخليوي والذي يصرخ اليوم من خسائره رغم الارتفاع الكبير في الفاتورة بالمقارنة مع الرواتب. أما قطاع النقل العام فقد اختفى ولا لزوم للتعليق.
رفعت الدولة الدولار الجمركي إلى سعر صيرفة، أيّ ارتفع 57 مرة فرافق قطاعي الكهرباء والاتصالات بينما رفعت السعر الرسمي 10 أضعاف فقط. مما يعني أنّ الحكومة تستطيع أن تجني أموالاً طائلة مقارنة أيضاً بالرواتب المنخفضة جداً.
كلّ حكومات لبنان لا تعنيها العدالة الاجتماعية فكيف بحكومة تصريف أعمال. مصير المواطنين وشؤونهم متروك لهم. ضمان اجتماعي متعثر، مدارس وجامعات رسمية شبه معطلة، الدوائر العقارية ودوائر السير متوقفة. الطوابع مفقودة. قوى الأمن شبه عاجزة.
لبنان يعاني أزمة نظام هي الأسوأ ولا يبدو في المدى المنظور أفق لحلّ. الحكومة معنية بالدرجة الأولى بإدارة الأزمة للحفاظ على الدولة لا أن تحوّلها إلى قطاعات. إدارة الأزمة بما يخفّف من وطأتها على كاهل المواطن لا أن تصبح الحكومة بحدّ ذاتها أزمة فوق الأزمات…!
(البناء)