في مواجهة المتغيّرات الإقليمية والدولية التي سجلت في الأشهر الماضية، والتي تشير في مجموعها الى أنها جاءت في غير مصلحة “إسرائيل” وآمالها أو توقعاتها، وأنها لا تتناغم مع الخطط الغربية التي وضعتها أميركا لاستثمار ما حلّ بالمنطقة والعالم العربي من خسائر جراء الحريق الذي أُسمِي زوراً “ربيعاً عربياً” وجاء وضوحاً بمشهد يؤكد بأنه “ربيع صهيوني أميركي“ ينفذ على حساب العرب والمنطقة المحدّدة بمصطلح الغرب “الشرق الأوسط”. في مواجهة تلك المتغيّرات وما تزامن معها من انهيارات داخلية في الكيان الصهيوني، يبدو انّ “إسرائيل” عزمت على اتخاذ إجراءات ردعية مضادة تتوخى منها وقف الانهيار وترميم القوة الرادعة لديها وإثبات قوتها في الميدان ومنع الأعداء والخصوم من استثمار تلك المتغيّرات لصالحهم.
وفي هجومها المضاد ذاك اختارت “إسرائيل” العمل على جبهات اختارتها واضعة سقفاً لتحركها، سقفاً حدّدته بعناية بحيث لا يقودها الى الحرب الشاملة المتعدّدة الجبهات، مع قبول معارك الأيام القتالية المحدودة، النظرية التي اختلقتها بعد فشل نظرية “المعركة بين الحروب”، النظرية التي لم تستطع “إسرائيل” أن تحدّد ضوابط وآلية للعمل بها وبقيت بشكل أو بآخر غامضة الجوهر ملتبسة التفاصيل، ما استدعى التطوير الى ما تسمّيه “الأيام القتالية”، وهي نظرية تقصد منها إجراء عملية عسكرية محدودة في الزمان والمكان وتكون في تنفيذها تحت سيطرة جيشها دون أن تتوسّع لتشمل جبهات خارج مسرح العمليات الذي حدّدته، ودون أن تتمادى في الزمن خارج المهلة التي تكون قد عيّنتها.
وبمقتضى هذا الخيار سخنت “إسرائيل” الوضع في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر اللبنانية، كما أنها نظمت عدواناً تدميرياً ضدّ جنين ومخيمها في الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة، مع استمرار العمل باستراتيجية العدوان على سورية تحت عنوان منع المقاومة ومحورها من تعزيز وجودهما وتطوير سلاحها في الميدان السوري.
فعلى الاتجاه اللبناني أرادت “إسرائيل” الاستثمار بالوضع الداخلي اللبناني المشرذم، وشاءت أن تردّ على مناورة حزب الله في عرمتى، تلك المناورة التي جمعت الى الاستراتيجية الدفاعية العمل باستراتيجية الاقتحام الهجومي. وقامت (إسرائيل) بالتحرّش وجسّ النبض في مزارع شبعا خروجاً على التفاهم القائم حول المنطقة منذ العام 2000 تاريخ الاندحار الإسرائيلي من الجنوب، حيث إنّ هذا التفاهم الذي تبلور بين لبنان والأمم المتحدة وفرض على “إسرائيل” احترام مندرجاته يقضي بأن يعمل لبنان مع الأمم المتحدة لاستكمال تحرير الأرض اللبنانية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وأن يبقى الوضع في المنطقة على حاله بانتظار هذا الحلّ الذي نصّ عليه أيضاً القرار 1701/ 2006.
وبموجب هذا التفاهم رفض لبنان أن يرسم على الأرض الخط الأزرق الذي ابتدعته الأمم المتحدة لاتخاذه معياراً للتحقق من الانسحاب الإسرائيلي مسجلاً أنّ للعدو في المنطقة تلك ثلاثة مراكز هي السماقة ورويسات العلم وحرمون، وعليه أن يُخليها لتتحرّر المنطقة من الاحتلال، وليس له في أيّ حال أن يطور هذا الاحتلال في أي نوع او أيّ اتجاه. موقف اتخذه لبنان انطلاقاً من تمسكه بحدوده الدولية مع سورية، تلك الحدود التي تمرّ في وادي العسل (شرقي خط الأمم المتحدة) وفقاً لما نصت عليه اتفاقية غزاوي وخطيب التي وقعت في العام 1946.
هذا ولم تكتف “إسرائيل” بهذا التحرّش بل أقدمت وبكلّ تحدّ للقرارات الدولية والسيادة اللبنانية، على ضمّ الجزء اللبناني من بلدة الغجر في عمل عدواني واستفزاز واضح للبنان.
أما على الاتجاه الفلسطيني. فبعد عملية المقاومة النوعية الناجحة في جنين وعيلي وإطلاق صاروخين من مخيم جنين شنت “إسرائيل” عملية عسكرية ضدّ جنين ومخيمها في مهمة معلنة حدّدتها بـ “تدمير البنية التحتية للمقاومة والبحث عن مصانع السلاح والذخيرة ومنع تشكل منطقة خارج السيطرة الإسرائيلية”، وزعمت أنّ هذه المهمة قابلة للتحقيق خلال ثلاثة أيام قتالية فقط وأنها ستكون نموذجاً حياً لنظريتها تلك.
وعلى الاتجاه السوري كرّرت “إسرائيل” عدوانها الجوي والصاروخي من خارج المجال الجوي السوري وألحقت أضراراً مادية في المنطقة السورية المستهدفة وجاء عدوانها بمثابة استمرار للعمل باستراتيجيتها المعتمَدة ضدّ سورية والقائمة على مفهوم الحضور المستمرّ في الميدان السوري وإظهار أنّ الحرب في سورية لم تنتهِ بعد خدمةَ لاستراتيجية أميركا “إطالة أمد الصراع”.
أما الردّ على السلوكيات العدوانية الإسرائيلية فقد كان في كلّ جبهة وفقاً لما يناسبها، حيث انّ الأهالي والمقاومة والجيش في لبنان وبعد الرفض والاحتجاج أقدموا على نصب خيم في الأرض اللبنانية الواقعة بين وادي العسل والخط الأزرق والتي هي أرض ينبغي أن تكون محررة، خيم أقلقت “إسرائيل” التي طالبت بإزالتها وهدّدت بمعالجتها بالقوة حتى ولو استلزم الأمر الدخول في “عدة أيام قتالية”.
وفي جنين يتصدّى المقاومون لآلة الحرب الإسرائيلية التي عجزت بعد 48 ساعة من بدء تنفيذ العملية عن الوصول الى أيّ مصنع سلاح أو ذخيرة. وعلى الاتجاه السوري كان الردّ الدفاعي السوري بحجم مؤثر أفشل العدوان ومنعه من تحقيق أهدافه في الحجم الذي خطط له.
لكن مع هذا الردّ، يبدو انّ “إسرائيل”، ولأسباب داخلية وإقليمية، ماضية قدُماً في سياسة التحرش والاستفزاز ما يفرض على المكونات المستهدفة أخذ الأمر بكلّ جدية واعتبار أنّ خطط “إسرائيل” للدخول في مواجهات خلال “أيام قتالية محددة”، وضعت قيد التنفيذ بدءاً من فلسطين المحتلة، فـ “إسرائيل” تجد نفسها بحاجة إلى انتصار ميدانيّ ما يعوّض فشلها الاستراتيجي ويحجب نجاحات الأعداء، كما أنها ترى انّ الانشغال الدولي فضلاً عن طبيعة الساحة اللبنانية والمشهد الفلسطيني يناسبها لتنفيذ ما خططت له. ومع اعتقادنا بأنّ الأوهام “الإسرائيلية” لن تجد في الواقع محلاً لها للتحقق لأكثر من سبب، إلا أنّ الحذر والاحتياط واجبان ولا مناص من اتخاذ كلّ التدابير التي تمنع “إسرائيل” من تحقيق أيّ من أهدافها. فـ “إسرائيل” تعمل الآن بنظريتي “عمليات أمنية خلف الخطوط” وأيام قتالية على الخطوط “من أجل تعويض سلبيات المتغيّرات الإقليمية والداخلية ضدّها”، فيقتضي منعها من النجاح في ذلك.