عاد الموفَد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان الى بلاده بلا إنجاز ولا إيجاز لِما فعل ولم يفعل خلال جولته على كبار اللاعبين وصغارهم في لبنان.
لعلّ ما لم يفعله هو الظاهرة اللافتة. فقد أخفق، خلافاً لأسلافه من موفَدي الدول الكبرى قبل عشر سنوات وأكثر، في إملاء إرادة الخارج على اللاعبين في الداخل. ذلك لأنّ الداخل أصبح، لأول مرة في تاريخ لبنان المعاصر، “أقوى” من الخارج.
لماذا؟
لأسباب متعددة أبرزها أنّ دول الخارج الكبرى باتت منشغلة جداً بأزمات واضطراباتٍ في دواخلها تعطّل قدرتها على فرض إرادتها كما كانت تفعل في “الماضي التليد”. هكذا يتبدّى أمام لبنان واقع وفرصة: الواقع بقاؤه أسير معضلته السياسية المتفاقمة وصراعاتٍ مريرة بين أركان شبكته الحاكمة من أمراء طوائف، ورجال أعمال وأموال متعطشين للسلطة والنفوذ، وضباط نافذين في القوات المسلحة. الفرصة المتاحة هي اغتنام ظاهرة تراجع قدرات الخارج عن إملاء إرادته على الداخل.
رغم حدّة الصراع، تعلو أصوات في أوساط الأقطاب المتصارعين وحلفائهم تدعو الى الحوار الوطني للخروج من الاستعصاء السياسي التاريخي الذي يشلّ البلاد.
مَن يحاور مَن، وأين، وكيف؟
تتعدّد الآراء والمواقف. بعضها يريد الحوار بين زعماء التكتلات التي يضجّ بها مجلس النواب. بعضها الآخر يبتغي توسيع طاولة الحوار لإشراك مرجعيات الطوائف المسلمة والمسيحية. وثمّة فريق ثالث يريد إجراء الحوار بأية صيغةٍ في إحدى عواصم المشرق العربي، وذلك في تكرارٍ متعمّد لمؤتمر الطائف بالسعودية سنة 1989 ولمؤتمر الدوحة بقطر سنة 2008.
تتعدّد الصيغ المقترحة للحوار في الشكل والمضمون. ذلك لأنّ خلافات متعددة ومعقّدة تكتنف ما يجب أن يكون عليه نظام لبنان السياسي بعد تجاوز نظامه الطوائفي الحالي المتداعي.
لا أغالي اذا قلت إنّ أي تسوية يُفضي اليها الحوار وفق الصيغ المتداولة حاليّاً ستنتهي الى فشل. فقد جرت في الماضي تجارب عدّة مماثلة للحوار الذي يدعو اليه كُثرٌ هذه الأيام، فكان أن انتهت ليس الى فشلٍ ذريع فحسب، بل أيضاً الى ازمات حكمٍ واضطرابات أمنية وصدامات اهلية. لماذا؟ لأن الحاكمين الفاشلين أنفسهم، بعضهم او جلهم، انتقلوا بين ليلةٍ وضحاها من صف أهل السلطة الى صف أهل المعارضة متظاهرين بأنهم طلاب إصلاح، ولم يتأخروا عند تفجّر أول أزمة سياسية عن الدعوة الى الحوار لتسويةٍ الأزمة العالقة. من هنا يمكن تلخيص تاريخ لبنان السياسي منذ الاستقلال سنة 1943 بسلسلةِ أزماتٍ تنتهي، مؤقتاً، الى تسويات تُفضي بدورها الى ازمات أخرى أشد تعقيداً وخطورة. المشهد نفسه يتكرّر اليوم بين أهل السلطة. فهم أنفسهم حاكمون حيناً ومعارضون حيناً آخر، وهكذا دواليك في تكرار رتيب مملّ.
الأمرُ الوحيد الذي تغيّر هو انّ فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة التي كانت تتناوب في إملاء إرادتها على الشبكة الحاكمة في لبنان لم تعد قادرةً على ذلك لأسباب متعددة أهمّها أنها باتت تعاني أزمات سياسية واقتصادية شديدة الوطأة في الداخل بالتزامن مع أزماتٍ في الخارج تستغرقها وخصومها ومنافسيها الأمر الذي قلّص أمامها هامش حرية الحركة والمناورة.
ما المخرج؟
ليس من تسويةٍ تقليدية قريبة المنال. حتى لو أمكن الوصول اليها، فإنّ عمرها المرجّح قصير إذ لا تلبث المماحكات والصراعات ان تعود بلا هوادة. غير انّ ذلك كله ليس من شأنه أن يحدّ من تصميم القوى الوطنية النهضوية الحيّة على العمل الجادّ لتكوين مناخٍ سياسي مغاير وثقافةٍ وطنية جامعة ومغايرة قوامها القواسم والمصالح المشتركة والتدقيق الموضوعي الصارم في مَن يقتضي وضعهم في خانة الأصدقاء والحلفاء أو في خانة الخصوم والأعداء.
الى ذلك، يقتضي أن تنطلق القوى الوطنية النهضوية، بكلّ ألوانها ومشاربها، في عملها وتعاونها، من حقائق خمسٍ لا يجوز التهاون في مراعاتها:
الأولى، التسليم بانهيار نظام المحاصصة الطوائفي الفاسد وبأن لا جدوى البتّة في العمل من خلاله او التلهّي بأي صيغةٍ مزعومة لإصلاحه. فالإصلاح يبدأ برفضه والخروج منه وعليه والنضال، سلمياً وجدّياً، لتجاوزه في مسارٍ حثيث لتحقيق نظام بديل على أسس الديمقراطية، وحكم القانون، وصحة التمثيل الشعبي وعدالته، والعدالة الاجتماعية، والتنمية، وذلك بدءاً بتنفيذ أحكام الدستور المعدّل سنة 1990 المتضمّن إصلاحات اتفاق الطائف.
الثانية، وجوب مقاطعة القوى الوطنية النهضوية لأيّ حوارٍ بأي صيغةٍ مع أهل نظام المحاصصة الطوائفي وشبكته الحاكمة لأنّ الفاسدين لا يُعقل ولا يجوز أن يصبحوا مصلحين.
الثالثة، إنّ التكاتف والتعاون والتنسيق بين القوى الوطنية النهضوية بكل ألوانها ومشاربها شرطٌ لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفي وشبكته الحاكمة، وضمانة لا بدّ منها لمواجهة أعداء الوطن والأمة، ولا سيما الكيان الصهيوني.
الرابعة، إنّ تعزيز قدرات الجيش اللبناني وتسليحه من جميع المصادر المتاحة، ووضع استراتيجيا للدفاع الوطني تكفل تكاتف الجيش مع المقاومة في التصدي للعدو الصهيوني شرطٌ وضمانة لحماية البلاد والسيادة والموارد الوطنية.
الخامسة، إنّ معالجة الضائقة المعيشية الشديدة بتأمين الغذاء والماء والدواء والكهرباء والنقل (الوقود والمحروقات) وملاحقة ناهبي المال العام يجب أن تكون أولوية أولى للجميع في هذه الظروف البائسة والخطيرة التي تمرّ بها البلاد.
أخيراً وليس آخراً، أعود وأشدّد مجدّداً على ما سبق وطرحته مراراً من انّ السبيل الأجدى لتكوين مناخ سياسي مغاير وثقافة وطنية جامعة بغية توفير القدرة والفرصة لإجراء حوار وطني صحيح ومجدٍّ مشروطةٌ جميعها بالتزام القوى الوطنية النهضوية، بمعزل عن السلطة وأهلها، بانتخاب مجلس تأسيسي من مئة عضو، مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، على مستوى الجمهورية كلها، على أن يكون لكلّ ناخب ٍ وناخبة الحق في التصويت لمرشحٍ واحد. بذلك يُسهم اللبنانيون بحريةٍ في تقديم مثال حي لجسم سياسي حرّ تتحقق فيه صحة التمثيل الشعبي وعدالته، والقدرة على مراقبة جميع مؤسسات الدولة وتصحيح أدائها، وتوفير الآليات اللازمة للارتقاء بها وصولاً إلى جعل دولة المواطنة المدنية خياراً ممكناً ومجدياً.
المسار طويل، لكن ما من خيار آخر أجدى وأفعل.
ـــــــــــــــــــــــــــ
issam.naaman@hotmail.com