تعدّدت الروايات المتعلقة بتمرّد قائد قوات “فاغنر” يفغيني بريغوجن وإعلانه الخروج على طاعة المؤسسة العسكرية الروسية، ورفع سقف مطالبه إلى درجة التحرّك العمليّ عسكرياً والسيطرة على مدينة روستوف، وإعلان التوجّه إلى موسكو، وكثرت التساؤلات لفهم حقيقة ما جرى، وأين الجيش الروسي عن تقدّم قوات فاغنر، وهو المؤهّل لمواجهة الناتو بكلّ مكوناته، لكنه لم يحرّك ساكناً تجاه تمرّد قوات فاغنر، وتسويق خطاب ناري أحدث بلبلة غير مسبوقة في الداخل الروسي، وأربك الدولة بكلّ مكوّناتها، ودفع الرئيس فلاديمير بوتين لتوجيه خطاب مباشر للشعب الروسي، وإصدار عدد من القرارات بما فيها تطبيق إجراءات مكافحة الإرهاب في موسكو وبقية المدن الروسية. وقد ازدادت التساؤلات وكثر الجدل بعد الإعلان عن تسوية بجهود الرئيس البيلاروسي تتضمّن خروج بريغوجن، وعودة قوات فاغنر إلى قواعدها والقبول بما يصدر عن وزارة الدفاع من قرارات، وعادت الأمور خلال ساعات إلى ما كانت عليه وكأن شيئاً لم يكن. ومن الطبيعي في مثل هذه الأجواء المتشابكة والضبابية أن تتشكل بيئة مناسبة لانتشار الروايات وتأليف القصص واختلاق السيناريوات الممكنة والمستحيلة. ووصل الأمر ببعض أصحاب الخيال الخصب إلى تسويق أنّ بريغوجن خدع الاستخبارات الأميركية وقبض مليارات الدولارات وغادر الأراضي الروسية إلى بيلاروسيا، وما على السذّج الذين قدّموا له الأموال إلا ندب حظهم العاثر. في حين ذهب آخرون إلى نسج خيوط تآمر خارجي. وقسم ثالث روَّج إلى فتح استخباري جديد بتوقع بوتين لكشف مَن هم مع الدولة الروسية، ومَن هم ضدّها…
بعيداً عما سبق ذكره، وعن كلّ ما له علاقة بنظرية المؤامرة ودور الخارج المعادي وما كان ينتظره ليبني عليه، من المهمّ مقاربة الموضوع بعلمية وواقعية بعيدة عن مزايدات السبق الصحافي وما يرتبط به من عوامل تشويق وانبهار بتسويق روايات تشغل الرأي العام، ولا تقدّم تفسيرات مقنعة للعقل استناداً إلى أنه تمّ تجاوز الحدث، وهذا أخطر ما يواجه الفكر النقدي التحليلي، فلا يجوز النظر إلى حالة التمرّد المسلح المعلنة رسمياً على أنها حادث حدث وانتهى، بل لا بدّ من الوقفة الجادة والمسؤولة عند أدقّ التفاصيل، واستخلاص العبر والدروس المستفادة، وتفكيك الخيوط المتشابكة والملابسات المرافقة، ووضع كلّ ذلك على طاولة التشريح الدقيق. وهذا يتطلب الإشارة إلى عدد من العناوين العريضة والأفكار الرئيسة التي قد تساعد على فهم الصورة المتشكّلة من دون ملامح ومحدّدات واضحة، ومنها:
ـ قوات فاغنر ليست صناعة أجنبيّة، ولا سلعة مستوردة، بل هي تعمل منذ نشأتها تحت إشراف قيادة الجيش الروسي، وضمن مركزية الدولة الروسية، والتزامها ببدء التمرّد الذي أعلنه قائدها بريغوجن يعني أنّ الوفاء للشخص يتقدّم على التمسك بمقومات الانتماء للوطن، كما يعني أنّ الخوف من الغضب الشخصي للقائد المباشر أعلى مستوى من الخوف من جرم المسّ بهيبة الدولة، وكلا الأمرين مرتبط بالآخر، ويستحق البحث في تفاصيله الدقيقة من قبل السلطات الروسية المختصة.
ـ ظهور الرئيس فلاديمير بوتين وتوجيه خطابه المتلفز للشعب الروسي فكّك الألغام المطمورة، وشكل صمام أمان لتجاوز الكارثة التي كانت محدقة بروسيا، ولا شك في أنّ هدوء إطلالته وعمقها، ورباطة جأشه، وصرامة ملامحه وفق معطيات “لغة الجسد” أوصلت الرسالة بكفاءة عالية. فالخطاب موجّه للعقل الروسي وللروح القومية الروسية في آن معاً، ودقة توصيف ما حدث على أنه خيانة للوطن وطعنة في الظهر كانت كفيلة بدفع الجميع لتحمّل مسؤولياتهم الشخصية والوطنية، فضلاً عما أعلنه بوضوح عن تواصله مع جميع القادة الميدانيين، وما يشكله هذا الأمر من عامل اطمئنان ويقين بالقدرة على التحكم بكلّ التداعيات وإبقائها تحت السيطرة المضمونة وفق إرادة الدولة.
ـ الدخول إلى مركز مقاطعة روستوف، وإمكانية الانتقال من منطقة إلى أخرى ليس مقياساً للقدرة. فالطرقات الآمنة التي لا ينتشر عليها الجيش الروسي معروفة لمجموعات فاغنر المكلفة بمهمات ميدانية على الجبهات المشتعلة، وبالتالي ليس من العبقرية بمكان سلوك الطرق التي تضمن تنقلهم من دون اعتراض أو منغّصات، وفي المقابل الجيش الروسي يعلم قوامهم وتسليحهم وأماكن تمركزهم وطرق تحرّكهم، وبالتالي إمكانية القضاء المبرم على جميع القوات المتقدمة بحرية على الطرق الرئيسية أيضاً كانت قائمة، وليست خارج إمكانية الجيش الروسي.
ـ يُحسَب للقيادة الروسية أنها لم تلجأ إلى استخدام القوة لمنع التحرك مع بداية انطلاقه، وإلا لكانت الأمور ذهبت باتجاهات أخرى، فلو تمّ الردّ مباشرة بالتعامل مع القوات المتقدّمة بقوة النار والمواجهة المباشرة لتحوّل مقاتلو فاغنر إلى أبطال ورموز، ولتشكلت بيئة استراتيجية مناسبة لاجتذاب بعضٍ ممن يرون في مثل هذا التوتر والنفور والتمرّد شيئاً من تحقيق الذات، ولكانت إمكانية انضمام متحالفين جدد كبيرة ونوعية، وقد تشمل عدداً ممن يشغلون بعض المراكز المهمة في القطاعين العسكري والمدني، مع الأخذ بعين الاعتبار التضليل الاستراتيجي الممارس من إمبراطوريات الإعلام المعادي لروسيا الاتحادية والخبرات الكبيرة المتراكمة لدى المشتغلين في مراكز تضليل الرأي العام وتوجيهه وفق أجندات مسبقة الصنع. وبالتالي كان القرار الرسمي الروسي بمنتهى العقلانية والمردودية، وقد أدّى نتائجه المثلى.
ـ من المهمّ تحاشي الانبهار بالعناوين البراقة والصدمة التي يتمّ ترويجها في المفاصل المصيرية. فالتصريحات العنترية التي يتمّ تسويقها كلامياً ليست أكثر من زبد سرعان ما يجفّ ويتلاشى أثره، والغاية منه إحداث الصدمة في الوعي الفردي والجماعي كمقدمة ومنصة للانطلاق إلى خطوات تكميلية لاحقة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تناقلت غالبية وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها ومرجعياتها تصريح بريغوجن بأنّ قواته على مسافة /200 كم/ من موسكو، وكأنّ ذلك فتحاً جديداً في الاستراتيجيا العسكرية، في حين أنّ الواقع يقول: إنّ بعض تلك القوات قد يكون داخل موسكو ذاتها، لأنها تعمل بإشراف وزارة الدفاع، وتتحرّك على أرض الدولة الروسية التي تنتمي لها هذه القوات، وليس على أرض معادية، ولو كانت تلك القوات على بعد /20 كم/ ـ حتى بعد إعلان التمرّد رسمياً. فالمنجز عسكرياً هنا يكاد يكون صفراً لأنّ إمكانية القضاء التامّ على كلّ قوات فاغنر في حال اتخاذ قرار بذلك قائمة لو وصلت إلى أبواب موسكو، وبالتالي مثل هذه العنتريات لا يمكن أن يُبنى عليها. وهذا يعني لا يمكن اعتمادها في أيّ تحليل لتقييم الوضع عسكرياً، لأنها متناقضة بالضرورة مع منطلقات ومحدّدات عمل دولة عظمى، كما هو حال روسيا.
ـ ما حدث يشكل ارتجاجاً حقيقياً في الفكر العسكري الاستراتيجي على مستوى القوى العظمى، وليس فقط على مستوى روسيا، والجميع يعلم أنّ روسيا ليست دولة عادية بل هي القوة الأعظم نووياً، وإنْ لم تكن القطب الأول عسكرياً فهي تشكل القطب المكافئ للقوة الأكبر، وبالتالي هذا الخلل والخروج على إرادة الدولة بتمرّد مسلح صريح موضوع خطير، ويتطلب تشكيل ورشات عمل متخصّصة لاستخلاص العبر والدروس المستفادة.. فلماذا حدث هذا التمرّد؟ وما هي الأهداف؟ هل هناك ارتباطات خارجية، أم لا؟ هل هي علاقات شخصية ومواصفات ذاتية تحكم شخصية بريغوجن، وماذا عن الجانب النفسي والمعنوي المسؤول المباشر عن عسكرة الـ “أنا” المتضخمة، وربما المتورّمة سرطانياً؟
ـ نحن أمام خليط غير متجانس من المدخلات، وبالتالي من الصعب الخروج بصورة واضحة عن المخرجات، ومن المبكر الحكم على ما حدث، فعودة بريغوجن عن تنفيذ تهديده ليست استفاقة ضمير، ولا انتباه من شرود عابر وحماقة آنية، وإلا لما كان أقدم على ما أقدم عليه، ولو كان بإمكانه المتابعة مع ضمان البقاء على قيد الحياة لما تردّد على الإطلاق.
ـ نجاح القيادة الروسية في احتواء ما حدث لا يعني أنه ليست هناك أية تداعيات لاحقة، وهذه التداعيات قد لا تظهر اليوم، وقد لا تظهر في الغد القريب، بل قد تتراكم، وتشكل ظاهرة تهدّد الأمن القومي الروسي. فالأداء الميداني الجيد لمجموعات مسلحة تشكلت بموافقة الدولة وتعمل بعلمها وإشرافها وتحت علمها لا يبيح لتلك المجموعات إمكانية استخدام السلاح على هواها، فكيف إذ غيّرت وجهة فوهة بندقيتها وصوّبتها باتجاه صدر الوطن؟ وأيّ واقع ميداني كان سيتشكل على امتداد الجبهات المشتعلة على الجغرافيا الأوكرانية برعاية أطلسية لمنع استعادة روسيا دورها الدولي الفاعل في إرساء الأمن والاستقرار وفق القانون الدولي لا وفق تعليمات الطرف المتمسك باستماتة بالأحادية القطبية التي تتآكل، وهي في طريقها إلى الانحسار؟
خلاصة:
ليس من الحكمة توصيف ما حدث بأنه تمرّد عسكري فاشل فقط، ولا هو مجرّد حماس واندفاعة غير مسؤولة من قبل قائد منظمة شبه عسكرية وجد ذاته مقرّباً جداً من قمة هرم السلطة، وحقق في الميدان كفاءة كبيرة وإنجازات نوعية منحته هامشاً أوسع من الصلاحيات، فزادت ثقته بنفسه وبحاجة المسؤولين لخدمات مجموعاته المسلحة، الأمر الذي زاد من صلفه بعد أن تأكد أنه صاحب الأمر المطاع عند آلاف المقاتلين المحترفين وأصحاب الخبرات المتراكمة، وقد يكون مثل هذا الشخص وغيره من المصابين بتضخم الـ “أنا” على حساب الوطن ـ بكلّ مَن فيه وما فيه ـ أكثر خطورة مما قد يتبادر إلى الذهن، فامتلاك السلاح النوعي والمتنوع، والصلاحية المفتوحة، والمداهنة التي غدت جزءاً من ثقافة هذا العصر، واعتماد النفاق المجتمعي بمصطلح برّاق تحت عنوان “المجاملة” المطلوبة، وغير ذلك كثير من العوامل الكفيلة بالانتقال بصاحب الـ “أنا” المتضخمة إلى حالة أقرب ما تكون إلى التورّم السرطاني الذي يشكل تحدياً لمناعة الجسد، وتزداد حدة هذه الخطورة تبلوراً إذا أبقينا على طاولة التشريح إمكانية وجود دور ما للعامل الخارجي الذي لا يجوز إلغاؤه، ولا استبعاده كلياً بأي شكل من الأشكال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البريد الإلكتروني للكاتب:
(البناء)