أمير مخول
في عملية “سريّة” فجر الثامن والعشرين من ايار/مايو، وبتصريح من وزير الامن غالنت وقائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال، أقام مستوطنون المدرسة الدينية الاحتلالية في مستعمرة “حومش” شمال الضفة الغربية بين نابلس وجنين وعلى اراضي البلدتين الفلسطينيتين بُرقة وسيلة الظَّهر. وذلك بعد شهرين من تشريع قانون يلغي قانون فك الارتباط مع غزة وشمال الضفة الغربية.
قراءة:
يشكل أسلوب عمل وسلوك دولة الاحتلال “السري” الالتفافي على الإدارة الأميركية وعلى الرأي العام، خطوة أبعد من اعتبارها موضعية وتكتيكية، بل خطوة جوهرية لها ما بعدها. وقد أعلن ذلك قادة المستوطنين ومرجعياتهم الدينية بأنها مقدمة لإعادة استيطان مستعمرة “حومش” والمستعمرات الثلاث الاخرى التي تم إخلاؤها بعد خطة فك الارتباط وهي “غانيم” و”كاديم” و”سانور”، في حين أعلن وزير المالية عن الصهيونية الدينية سموتريتش وهو الوزير المسؤول عن المستوطنات في وزارة الأمن، بأنه “زمن الفعل على الأرض وليس التصريحات”، بينما اعتبرها الوزير بن غفير بأنها “إعادة الإمساك بزمام الأمور”.
رغم تصريحات قادة الجيش التي لاقت في حينه إسناداً من وزير الأمن غالنت، بأن مرجعية الجيش هي القانون أولاً وقبل القرار السياسي في حال وجود تعارض بينهما، إلا أنهم امتثلوا فعليا للقرار السياسي المتعارض مع القانون والقرارات القضائية، وذلك رغم تنبيههم المسبق للمستوى السياسي من أن الأمر غير قانوني.
بالإمكان الإشارة الى تحوّل في التفاعلات الداخلية، فقد نجح نتنياهو رغم المأزق العميق، في إضعاف حركة الاحتجاج وفي نشر البلبلة في صفوفها على حساب الهدف الواضح الذي بدأت فيه تحركها مباشرة بعد تشكّل الحكومة الحالية. منذ مظاهرة اليمين (27/4/2023) لدعم الحكومة وتشريعاتها، كما حدث تحوّل في مدى أثر مظاهرات الاحتجاج ضد الحكومة. لم تكن المظاهرة المذكورة العامل الوحيد اذ تلاها العدوان على غزة وانزياح الاهتمام الشعبي نحوها، وكذلك حملة التخويف من حرب آنية مع إيران ومتعددة الجبهات واصطفاف المعارضة الرسمية الى جانب الحكومة.
غير أن المظاهرة اليمينية تمحورت حول كشف الغايات الحقيقية للانقلاب القضائي وهي إزالة المعوقات أمام تطبيق السياسات المعني بها الائتلاف الحاكم وحصرياً الاكثر عقائدية في الليكود وأحزاب الصهيونية الدينية الثلاثة. ومنها اتضح ان احتجاج المعارضة الواسعة هو أقرب الى التمحور في الإجراء منه الى الجوهر وغايتها الحفاظ على الوضع القائم. كما كشفت المظاهرتان بأن خطاب سياسة الهويات بات يعلو صوته، مما يحرج حركة الاحتجاج باعتبارها اشكنازية بالأساس مقابل اليهود الشرقيين والحريديم. الا ان ما جعل هذا الأمر مؤثراً هو حدّة الخطاب الشعبوي والجهوي الهوياتي التي قامت به الحكومة وعلى رأسها نتنياهو نفسه.
تلاها تراجع نتنياهو وبث البلبلة تجاه نواياه، وكذلك التفتيش عن الجوهر والاكتفاء بأدوات الدولة القائمة، وفي حين لا يتنازل نتنياهو عن التلويح بتمرير التشريعات، يكثر النائب الليكودي المركزي دافيد بيطان من الحديث بأنه لن تكون عودة الى مشروع “الإصلاحات” التي تم وأدها فعلياً، حسب قوله. في حين يبدي نتنياهو تراجعاً في كل مقترح قانون يستقطب معارضة الادارة الاميركية والمجتمع الدولي ويسعى بالمقابل لإرضاء شركائه بتطبيق ما امكن فعليا، كما حدث وأمر بإرجاء طرح مناقشة مقترح القانون بشأن فرض ضرائب عالية على الجمعيات الحقوقية التي تعارض سياسة الحكومة وتحظى بدعم مالي خارجي وبالذات من الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة. وكما حدث مع قانون فرض غرامات ومحاسبة قانونية لكل من يرفع العلم الفلسطيني في الجامعات الاسرائيلية في اشارة الى الطلاب العرب الفلسطينيين وأنصارهم، وبعد اعتراض رؤساء الجامعات الكبرى على الأمر سواء من باب حرية التعبير أو لأنه قد يعزز حركة المقاطعة الاكاديمية.
يشكل تصريح سموتريتش والمشار له اعلاه، بمثابة منحى واتجاه الأمور، وبخلاف بن غفير الذي يسعى الى الكسب الإعلامي الآني من تصريحاته للتستر على إخفاقه في تحقيق ما وعد به جمهور مؤيديه، فإن سموتريتش منشغل بالجوهر بالنسبة له من وراء التشريعات، ويقصد مشروع الضمّ وقوننة البؤر الاستيطانية والقضاء على اي بنية ديموغرافية لقيام دولة فلسطينية، اضافة الى تهويد مناطق النقب والجليل والساحل والحدّ من التزايد السكاني العربي فيها، وتعكير ظروف وشروط عيش الفلسطينيين في هذه المناطق لدفعهم للهجرة او الاستسلام للأمر الواقع. كما أن مظاهرة أقصى اليمين المذكورة، شكلت دعما مباشرا للتيار الصهيوديني الاكثر عقائديةً ممثلا بسموتريتش من حزب الصهيونية الدينية وياريف ليفين وزير القضاء الليكودي الذي يطمح لقيادة الحزب.
التوتر العلني بين نتنياهو وسموتريتش من جهة وبين بن غفير، يؤشر الى رغبة نتنياهو للتخلص من الشراكة مع بن غفير في حال ضمن دخول بيني غانتس وحزبه في ائتلاف ضمن حكومة طوارئ.
بالنسبة الى نتنياهو تتركز أنظاره على العلاقة مع ادارة بايدن والى دعوته للبيت الابيض. حالياً تقرر دعوة هرتسوغ للتحدث أمام الكونغرس والشيوخ بمناسبة 75 عاماً للعلاقات الاميركية الاسرائيلية، ويرى بها نتنياهو مقدمة لدعوته لاحقاً. بينما تشكل خطوة حكومته في “حومش” بمثابة نكث للوعد العلني الصريح امام الادارة الاميركية غداة إقرار قانون الغاء فك الارتباط، بعدم القيام بذلك، وكما أفاد موقع “المونيتور” على لسان مصدر اميركي رفيع فإن موافقة نتنياهو الضمنية على إعادة توطين “حومش” أبعدت احتمالات تحقيق انفراج في الجهود المتجددة لتحقيق السلام مع المملكة العربية السعودية وحتى دعوة نتنياهو المرغوبة إلى البيت الأبيض.
بدأت تتجلى تصدعات في داخل معسكر المعارضة الصهيونية وبالذات بين يائير لبيد وبيني غانتس حول صدارة المشهد، وعلى خلفية سطوع نجم غانتس الانتخابي وتراجع لابيد في استطلاعات الرأي، وينعكس الامر في الصخب الدائر حول المرشح او المرشحة لتمثيل المعارضة في لجنة تعيين القضاة في حال تم إقرارها في 14 حزيران/يونيو.
قد تتوقف المفاوضات بين الائتلاف والمعارضة برعاية رئيس الدولة هرتسوغ، وعندها ستعود المظاهرات بقوة او كما وصفها غانتس “سنقوم بزعزعة البلاد وشلّها”، ويبقى السؤال هنا هل يملك غانتس القدرة على إعادة الزخم للمظاهرات وهو امر ليس مفروغاً منه؟
الخلاصة:
نعتقد أن “الإصلاحات القضائية” لم تعد الاولوية الاولى لدى رئيس الوزراء نتنياهو. كما أن المنحى الجديد الذي تبنته الحكومة، هو تطبيق – ما أمكن – من غايات الإصلاحات، كما عبرت عنها مظاهرة اقصى اليمين. ومن شأنه ان يجعل وحدة المعارضة في مهب الريح.
الصراعات داخل معسكر المعارضة الصهيونية تتعمق، لكنها لا تشكل انفراجه لنتنياهو فهو لا زال في مأزقه.
الأخطر فلسطينيا وعربيا هو قيام حكومة نتنياهو بتطبيق زاحف لمشروع الضم في الضفة الغربية والإيغال في التهويد في مناطق 48، دون الإعلان عن ذلك كسياسة رسمية لكن تطبيقها على الأرض.
إذا ما مرّ مشروع إعادة إسكان مستعمرة “حومش” دون رد فعل فلسطيني وعربي ودولي، فإن الرسالة لحكومة نتنياهو ستكون الاستمرار في اعادة الاستيطان شمال الضفة الغربية.
31 ايار/مايو 2023
المصدر: مركز التقدم العربي للسياسات – حيفا.