في مقطع متداول للدكتور محمد أبو موسى شيخ البلاغيين العرب يتحدث عن رأي الجرجاني ببيت الجوهري الذي يقول فيه:
فلم يُبقِ مني الشوق غير تفكّري فلو شئت أن أبكي بكيت تفكّرا
وردّ رأي الجرجاني في كتاب دلائل الإعجاز بقوله: (فقد نحا به نحو قوله: «ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته»، فأظهر مفعول «شئت»، ولم يقل: «فلو شئت بكيت تفكرا»، لأجل أن له غرضا لا يتمّ إلّا بذكر المفعول، وذلك أنه لم يرد أن يقول: «ولو شئت أن أبكي تفكّرا بكيت كذلك»، ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحول، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول، حتى لو شئت بكاء فمريت «٥» شؤوني، وعصر عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج بدل الدمع التّفكّر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدّى إلى «التفكر» البتة، و«البكاء» الثاني مقيّد معدّى إلى التفكر.
مؤكدا الدكتور محمد على ضرورة سقاية الفكر بالحس الجمالي اللغوي، كالسجع حين يأتي في تداولات أحدهم لوجود تربة حسية وذائقة جمالية تقوده لصياغة الكلام البلاغي على لسانه، فالغنائية في اللغة هي غنائية في النفس، وأن عذوبة الكلام ليست عذوبة ألفاظ وإنما هي عذوبة داخلية فسقطت على الكلام وأصابه منها ما أصاب.
وحول تفسير هذه الظاهرة البلاغية (النغم اللغوي) أضف لقول علمائنا الأجلاء دور المفردة القرآنية في جذب الفكر الإنساني للتأمل وتنبيه الحس الوجداني بمشاعر التأثّر، وذلك بتحليلها وتقليب أصواتها بين العقل والقلب، ليجد الشخص ذاته الجمالية تتحوّل تدريجياً لفحص العديد من المفردات بالقراءة والبحث الذي يتجاوز العلوم التفسيرية للعلوم الطبيعية والإنسانية، فيكتنز بالذائقة وقتها العديد من الدلالات البيانية واللفظية ما يسقي به فكره بدرر الجواهر المعرفية ورؤيتها النقدية للتحول عبر صياغاتها المتعددة إلى مزج التناغم الصوتي في اللغة، فيسوقها بأنغامه الشخصية الجديدة من صنيع ذائقته الحسية لأنموذج موسيقي هي ما تشكّل إبداعه وبلاغته الفكرية، بل إن روحانية حديث اللسان وقتها تترجم جماليات دواخل القلب، وفي مقدّمتها الصدق بسلطته الإيمانية، فمن قوله سبحانه (يتصاعد إليه الكلم الطيب) تمضي تلك الحواس الظاهرة والباطنة في فرارها نحو مدارك عقلية ووجدانية تكسب الصوت اللغوي يقيناً في الرأي يُظهر البراعة بتمازج المدلولات بين العقل والقلب وكيف تمكّنت سلطة الصدق على تهذيب النفس بحروف بلاغية يتلقاها المتلقي فيخفق قلبه مع القائل بتموجات من البيان اللساني، التي وإن أظهرت الجمال الخارجي زادتها تلك الصراعات الداخلية تعمّقاً روحانياً وتوازناً إيمانياً، وكأنه يُوحي بصوت من السماء في إجلال لهذا القائل.
فالجوهري حين ذكر الشوق والبكاء كمشاعر متقدة مع المواقف الحياتية ربطها بعملية تفكير وتبصّر وتوجيه لهذه المشاعر، ليسوقه إبداعه لنظم بيت يشكّل بقيمه منظومة تدريبية لمهارات التواصل مع الذات ومع الآخرين، بل وأجد الأبلغ منه في جمع مشاعر الشوق والبكاء بحضور ملكة التفكير والتفكّر في عزلة عن البشر وأكثر ما تكون في أحضان الطبيعة، ما جاء في حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – حول السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه، وذكر منهم (رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه).
وعند الطبيعة وجمالياتها بلاغة البشر لا تكتمل، فيزداد عندها استحضار مشاعر الشوق والبكاء والتفكّر، وهنا يتصدّر المشهد (المطر والبحر) وكأن في حقيقة الماء الطاهرة المباركة “وجعلنا من الماء كل شيء حيّ” ما يغسل عجاج غبرة الألم ومرارة الأيام من ذواتنا لتتعمّق على لساننا استحضار هذه الاقتباسات القرآنية والنبوية والشعرية مشكلة جرعة بلاغية لرسم مشاعر الشوق والبكاء، ونمو بالفكر يأخذ أبعاده المعرفية وصبغة محتواها المتنوّع يغلب عليها الجانب العلمي والإنساني.
واليوم في خضم سيطرة اللغة الرقمية وخضرمة العامية المختلطة بالأعجمية، باتت بلاغة التفكير تتبخر وزادتها سلوكيات الاختلاس بالنسخ واللصق، فلم يعد للبلاغة الفكرية حضور يرسم فلسفة للإبداع اللغوي، وهو ما يدفعنا كتربويين في استنهاض الهمة وإعادة تجديد ثروتنا اللغوية لنسقي بها الأجيال، المطموسة هويتهم في ظل هيمنة اللغة الرقمية، فنغمسهم في تفاصيل البيان والبديع والجمال المكتنزة بالقرآن الكريم والسنة النبوية والموروث الأدبي العربي الفصيح والعامي الشعبي الأقرب للفصاحة، بممارسات يومية تجعلهم يتداولون المفردة المقتبسة من كلام الله سبحانه بمقاييس تقييمية لممارساتهم اليومية، فيجد التباين لاستحضار معانيها وتوظيفها مع حاجاته النفسية التي يندفع لها بشوق، إلى مقارنتها بالمعنى الإيماني السامي الذي تضمنته المفردة القرآنية البلاغية فتحرّك بداخله التفكير والتفكّر ويعمل على تقييم ممارساته، ولي في ذلك تجربة من طلبة الصفوف الأولية نحو جذب تفكيرهم لهذه التداولات كمفردتي (تصدّى وتلهّى) من سورة (عبس) وكيف لهذا الرنين التناغمي في خواتيم السورة أن تفتح الحوار مع الناشئة حول تهذيب سلوكياتهم وإيقاظ مراقبة الذات بداخلهم، ليتم استحضارها في بقية ممارسات يومهم الدراسي كحلقة بين رغباتهم المترفة والشوق لتلبيتها يتلهى الطفل بها، وتذكيره لاسترجاع الآيات وصوتها البلاغي الرنان بذاكرته، تجعله يتصدّى لسلوكياته الخاطئة بطريقة تفكير إبداعي تسهم في تطوير مهارات حل المشكلات لديه، وتعزّز ثقته بقدراته وضبط انفعالاته، ومن ذلك أيضا ما جاء في سورة النازعات من تداول آيات نعيم الله للناس من قوله تعالى: (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها) إلى قوله سبحانه: (متاعا لكم ولأنعامكم) لأجد انحسار مفهوم المتعة لدى الأطفال في لعبة وفسحة وتنزّه وكل ما يثير الشوق لديهم للترفيه، لأنقل تفكيرهم إلى المتعة الروحانية وربط وجدانهم بنور يجذبهم للسماء في مشهد لقاء مع الله، وكيف أثارت تلك المحاورة الهادئة في شدّ انتباههم لرحلة خشوع إيمانية، حتى إذا غيّرت نبرة صوتي وفاجأتهم بالخروج لساحة المدرسة واللعب، بادروني بالرفض واستكمال الحديث المشوّق تفكيراً مع الله ولله، لأنقلهم بعدها لبيت شعري من حكمة المتنبي:
فإن قليل الحب بالعقل صالح وإن كثير الحب بالجهل فاسدُ
ختاما أتفق مع الدكتور محمد أبو موسى شيخ البلاغيين العرب في تنمية الذائقة الحسية والفكرية التي تلعب دوراً هاماً في فصاحة القول وتجري الغنائية والتناغم البياني على الكلام، وجوهر ذلك بين عقل متفكّر متأمّل وقلب ملهم متشوّق لتوازن يكسو ملامح الإنسان وبلاغته تفيض جمالاً على اللسان.
تفكّر وشوق
ودمعة تشقّ الصدر شق
وصوت يتصاعد للسماء فوق
بطيب كَلِمة تتوق للقائه الأرواح توق
وأوتاره بين عقل وقلب تهزّ الوجد والذوق
بكيت حرقة وأحلام الشباب تدثرني من كل طوق
بكيت ألما
بكيت حبًا
بكيت فقدا
بكيت فرحًا
بكيت تأملًا
وما زلت أولع بالبكاء حتى وجدت
طفلة ترمم ما أتلفه الفكر بالشوق.