فاطمة حسين اسماعيل
مربية من لبنان
ينتظر الأبناء أن يكبروا، ليختبروا الامومة والأبوة مع ابنائهم. وان يعيشوا كرم العطاء، وروحية التضحية، وفيض الحنان والأمان والاهتمام اللامتناهي معهم. وأن ينالوا الأجر والمكرُمات لما يبذلونه اتجاههم.
قُدِّر لهؤلاء الأبناء ومن نعم الله عليهم أن يعيشوا هذا الأجر مرتين. مرة مع أبنائهم وأخرى يكرمهم الله بها مع والديهم. وهنا عظيم الأجر، وأنبل التضحية، وأخلص العرفان الذي يمكن أن يعيشه الأبناء.
حين يصل الأهل إلى فترة أرذل العمر، وحين يباغتهم المرض العضال يصبحون أطفالا يحتاجون لمن يُطعمهم، يُسقيهم. يحتضن خوفهم ويحتويهم بالحب والحنان. يخفّف آلامهم، ويطمئن وحدتهم.
وهي من أصعب المراحل التي يعيشها المرء مع أهله، في حين يرى نفسه بداخله طفلهم الصغير، يحتاج للكثير من حنانهم وحبهم، ومساندتهم، وأمانهم مهما كبر. يجدهم بين يديه مسؤوليته، واجبه، وأمانة لا يمكن التهاون بها، بأمسِّ الحاجة له يستجدون منه ذلك كله.
أيام قاسية يعيشها وهو يراهم يتساقطون كأوراق صفراء في خريف عمرهم. تزدلف بهم السنوات وتمضي تباعاً على عجل. يودّ لو يستطيع شراء المستحيل ليعيدهم إليه بكلهم الجميل، بحبهم، بعقلهم الراجح، وقلبهم المعطاء الذي ينبض حناناً وعطاءً واهتماماً. لكنه المستحيل.
عندها يرى داخله وقد تصدّع، وهو يعي عظيم المسؤولية، وبأنها ساعة رد الجميل او بعضه، وواجب المسارعة للخدمة وبأشفار العيون. وإقصاء كل المعاذير فلا عمل ولا ولد ولا تلد ولا أي اعتبارات، قد تحول دون ذلك. أو قد يبرر أي تقصير.
فإلى كلِّ مُنعَّم بنعمة وجود والديه في حياته. أقولها بحسرة اغتنموا كل لحظة في وجودهم بينكم.
فبعد رحيل أبي وددت لو أمهلني القدر سويعات أكثر معه. ارتمي فيها تحت قدميه أخدمه بعيني. اي والله لفعلت.
أن أحظى بسماع أنفاسه بأذنيَّ كترانيم سماوية، سأبيع الكون بما فيه فلا غالٍ قبله، ولا مهم قبله، ولا مستعجل قبله.
تَصغُر كل التزاماتي في الحياة أمام واجب رد المعروف. فهو من أفنى حياته في رعايتي.
تسقط عقارب ساعة حياتي الشخصية بساعاتها ودقائقها، لأكرِّس جل وقتي له.
تتلاشى روحي بين يديه وهي تعانق جسده النحيل. تذوب بخلاياه علني أعطيه بعضاً من قوتي.
أُمطر كل قلبي، وحناني، وحبي على صحراء خوفه وقلقه علَّني أسقي بعضاً من تصدّعات روحه لحاجته للأمان والاحتواء أيام مرضه.
شَقِي عبدٌ أدرك والديه أو أَحدَهُما فَلم يُدخِلاهُ الجنَّةَ.
فما أعظم حسرة من ضيّع والديه في كبرهما، وعند ضعفهما.