تقديم هاني سليمان الحلبي
لفتني جداً الأسبوع الماضي، وصول دعوة من الصديق النبيل الدكتور ميلاد السبعلي، ولو لم تكن الظروف الراهنة تستدعي بذل الراتب الضئيل ذهاباً وإياباً بين بيتي وبيروت، لذهبت أو مشيت راجلاً إن كان يكفي مسير يوم للوصول للمكان. فما حاصرتنا به السياسة وأهلها وأحزابها الطائفية النافذة المتحاصصة كعكة الفساد الرسمي، والممتطية الفساد الشعبي بجحافله الخانعة وركامه المتناسل، المنتظر إشارة المتزعمين الناهبين كافة، ليحرقوا البلاد ويسفكوا دم العباد دفاعاً عن شرف زعيمهم المفدى، الذي لا يسلم “دون أن يُراق حول جوانبه الدم”… قبس ثقافي مضيء في دهاليز المحاور التغييرية والممانعة والمنتظرة كلمات السر.. وكلها منظومة التأجيل والتعويل على واحد ينزل من فوق.. بينما كلمة السر الجوهرية هي نحن وأن نعي هذه الـ”نحن”، وأن نكون مسؤولين، امام انفسنا امام شعبنا وأمام التاريخ، قبل كل شيء..
و”نشيد الوعي”؟؟؟ كيف؟ ولماذا؟ وأين؟ ومما نعي؟؟؟
هذه المفاتيح التي تبدأ بها أبجدية الوعي..
لكن المارد الذي أتى، والفاعل فينا، لا يعني عملاقاً من دخان يخرج من قمقم أو من جبة بطريرك أو إمام يرسمان خطوطنا الحمراء أو من فانوس سحري ليقول لنا “شبيك لبيك”! فلا فوانيس سحرية ولا أرانب انتخابية، ولا ثورات دموية، ولا حروب همجية، ولا جيوش الكترونية، ولا أحزاب طائفية، ولا طوائف عسكرية يمكنها أن تُحدث الوعي.. هذه كلها تتحاصص البلاد والموارد والريوع والدماء!!
سر الوعي وقفة وقرار وخطة أمام الذات والضمير والحقيقة والمجتمع والله، في كل منا! ماذا فعلنا وماذا نفعل وماذا نحن فاعلون؟ وشعبنا ودولتنا عاجزان عن إقالة موظف نقدي ومستعدان لتغطيته وحمايته بألف ذريعة وذريعة من تنفيذ مذكرة توقيف!!! منتهى الإفلاس. إفلاس الجهل وجهل الوعي..
لماذا لا نعي؟ وما الذي ينقصنا لنعي وننهض ونقوم قومة واحدة نستعيد المبادرة وفعل النهضة وريادة السفينة والمسيرة، كما فعلنا مرات؟!
وكانت جرت الخميس 19 الحالي (أيار 2023)، حسب “الوكالة الوطنية للإعلام”، فعالية في المكتبة الوطنية في بيروت افتخرت بها وزارة الثقافة لإطلاق “نشيد الوعي” برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى وحضوره، وحضور وزير المصالحة الوطنية الأسبق في الشام الدكتور علي حيدر، والنائب عناية عز الدين والنائب هاني قبيسي وممثلي سفارتي فلسطين وتونس، وعدد من القيادات الحزبية والتربوية والفعاليات الفنية والثقافية والإعلامية، وحضور رسمي وسياسي وثقافي وفني وحشد من الأصدقاء والأحبة…
قدمت الحفل الزميلة جوسلين حداد وألقيت كلمات كاتب النشيد الدكتور ميلاد السبعلي، وملحن النشيد الأستاذ المتألق انطوان وديع الصافي، الذي قدّم النشيد بأداء راقٍ نال تفاعل الجمهور وحماسه، والتوزيع الموسيقي لأنطوان الشعك.
كلمة وزير الثقافة
أكد المرتضى أن “لا قيامة لوطننا أو صلاح لمجتمعنا او نجاة لنا جميعاً من المكائد التي يحوكها ضدنا أعداء صيغتنا اللبنانية إلا بالوعي”.
وأضاف: “الوعي لفرادتنا، والوعي لنعمة عيش المعية، والوعي لوجوب حفظ هذه النعمة التي تمثّل الثروة الإنسانية الأغنى، والوعي الى ان اعداء الانسانية التي زرعتهم يدّ الشر الى الجنوب من حدودنا لن يتخلّوا عن مشروع السعي الى تقويضنا على اعتبار ان لبنان والصيغة اللبنانية المتمثلة في التنوّع ضمن الوحدة تمثّل النقيض لهم ولكلّ ما يمثّله كيانهم الإلغائي العنصري”.
وتابع: “النشيد كلاماً للدكتور السبعلي، ولحناً واداءً متميّزاً من المبدع انطوان وديع الصافي يمثّل تحفة فنية بكل ما للكلمة من معنى وهو يحاكي حالة الوعي المنشودة المطلوبة من كل لبناني أن يعيشها”. واردف وزير الثقافة “أن وزارة الثقافة تفتخر باستضافتها لحفل إطلاق مثل هذا النشيد الرصين والوطني والمسؤول”.
السبعلي
بدوره كاتب النشيد الدكتور السبعلي، ادلى بكلمة استهلها بقول لجبران من كتاب “النبي”، جاء فيها:
“يقولُ جبران خليل جبران في كتابِ النبي، أنّكَ في ضيقَتِكَ وفي حاجَتِكَ تلجأ الى الصلاة، التي تستوحيها من خلالِ الإصغاءِ الى الجبال والبحار والأحراج، وهي تصلّي بهدوءٍ وخشوع، في سكينةِ اللّيل…
والشعرُ لنا، هو أحدُ أنواعِ تلكَ الصلاة، نلجأ اليهِ عندما تعجزُ لغةُ العقلِ عن تحريكِ إحباطِ النفوس ويباسِ الوجدان…
فليسَ الأمسُ سوى ذكرى اليوم، بحسب جبران، وليسَ الغدُ سوى حلمِ اليوم.. فيجب أن نجعلَ الحاضرَ يعانقُ الماضي بالتذكارات، والمستقبلَ بالحنينِ والتشوّقات..
ويتابعُ مخاطباً الناسَ عن الحرية: تكونونَ أحرارًا عندما تُمنطقُكُم همومُ الحياةِ وأعمالُها بالجهادِ والعمل، وتثقلُ كاهلَكم بالمصاعبِ والمصائب، ولكنّكُم تنهضونَ من تحتِ أثقالِها أحراراً طليقين؛ إذ كيفَ تستطيعونَ أن ترتفعُوا إلى ما فوقِ أيامِكم ولياليكم إذا لم تحطِّموا السلاسلَ التي أنتُم أنفسُكم، في فجرِ إدراكِكم، قيدتُم بها ساعةَ ظهيرتِكم الحرة؟
“إنّ ما تسمّونَه حريةً إنما هو بالحقيقةِ أشدُّ من هذه السلاسلِ قوّةً، وإن كانت حلقاتُهُ تلمعُ في نورِ الشمسِ وتخطُفُ أبصارَكم”.
جوهرُ هذا النشيد الذي نطلقُ اليوم، هو هذا الربطُ بين الماضي والحاضرِ والمستقبل، وأنَّ شرطَ الحريةِ هو حتميةُ النهوضِ من بينِ المصاعبِ والمصائب، وتحطيمُ السلاسلِ التي نقيّدُ أنفسَنا ومجتمعَنا بها، للارتفاعِ من قاعِ همومِ الأيام والليالي..
ففي غمرةِ موجاتِ التيئيسِ والتفتيتِ والحصار، والحروبِ المستمرّة على مجتمعِنا وشعبِنا وبيئتِنا الطبيعية، وإحباطِ شبابِنا ودفعِهِم الى الهجرةِ للهروبِ من جحيمٍ خيّم على بلادنا، كانَ لا بدَّ من التأمّل في تاريخِنا وتراثِنا الفكريّ وأساطيرِنا القديمة، وما تختزنُه من دمارٍ الى حدِّ الاندثار، ثم نهوضٍ وتجدّد، لدوراتٍ متتالية، من الانحطاطِ ثم النّهوض..
من رمزيةِ قصّةِ طائرِ الفينيق، الى موتِ أدونيس وعودتِهِ من العالمِ السفلي، الى صراعِ الخضر ومار جرجس مع التنينِ وصرعه، وكلُّ ما يختزنُه تراثنا الروحيِّ والتاريخيِّ من تجدّدٍ وانبعاثٍ وقيامة، الى كل الثوراتِ والانتفاضاتِ ومحاولاتِ النهوض، في وجه الاستعمارِ والاستعباد والفساد والتبعيّة.. كلُّها ومضاتٌ من الماضي، نستلهِمُ منها طريقَ النهوض، لتغييرِ الحاضرِ والتأسيسِ لمستقبلٍ أفضل.
وهذا بحاجةٍ الى إعادةِ ترسيخِ الثقةِ بأنَنا قادرونَ على النهوضِ مجدداً. فكان لا بدَّ من سردٍ سهلٍ لقصةِ ماردٍ جاءَ في ظروفٍ صعبةٍ للغاية، وشقّ طريقاً للنهوض، وحيداً، على أساساتٍ صلبة، وتوقعَ، كما جبران، أن يأكلَ الشوكُ كلَّ طريقٍ جديدٍ الى الحرية، لكنَّ الرهانَ يبقى على الأجيالِ التي لم تولد بعد، لأن النهوضَ مجدداً، حتميٌ لا محالة، ولو كانَ بحاجةٍ الى إيقاظ النفوسِ الكبيرة، وتهيئةِ أكتافِ الجبابرة لتضطلعَ بحملِ الحريةِ الثقيل… ولأنَّ ما ينقَصُنا غالباً هو وعيُ حقيقتِنا، وتحفيزُ وجدانِنا الاجتماعي، وإعادةُ بثِّ روحَ ثقةِ القومِ بأنفسِهم في وسطِ الرّكام، كانت هذه القصيدة…
كتبتُها في تشرين الماضي، كخواطرَ على صفحتي الفايسبوكية، فاتصلَّ بي الصديق الأستاذ أنطوان الصافي وقال هذه قصيدةٌ يجب أن تلحّن، وبدأَتْ مسيرةُ العملِ المضني الى أن ولدَ نشيدُ الوعي.
والقصيدةُ تبدأ بوصفِ حالةٍ من اليأسِ والذلِّ والهجرة، حينَ يأتي فردٌ مصمّمٌ على تغييرِ هذه الحالة، ويبدأ بوضعِ أساساتِ النهوض مجدداً للمجد والمعرفة والإبداع، والتأكيدِ على مصارعةِ التنينِ الحالي، في أمةٍ كم من تنينٍ قد صرعَتْ، ولن يُعجزَهَا صرعُ التنينِ الجديد، الذي كبّلَ العقول وشلَّ الإرادة، ودفعَ الناسَ الى ارتضاءِ حياةِ الذل، والى الفرديةِ والحقدِ والادّعاءِ الفارغ، وعدمِ الجدية وفقدانِ الوجدانِ الاجتماعي والوعيِ القومي والشعورِ بالحريةِ والعزّ، أو الهروبِ الى المنافي الآمنة.
فكانت الدعوةُ الى استعادةِ الثقة وتأسيسِ إرادةٍ موحّدةٍ ونفوسٍ جبارة جديرةٍ بوقفاتِ العز، لتجديدِ الهمّة ونهوضِ الأمة والسيرِ بها من قمة الى قمة، وبناء الأجيال الجديدة بفرحٍ وعزٍ وجهد. وترسيخ الإيمانِ بحتميةِ النصرِ الآتي، إن لم يكنْ في الجيل الحالي، فمن خلال الأجيالِ الجديدةِ المقبلة، بالبناءِ والعملِ والإصرارِ والمثابرة والإرادةِ والمحاولة المستمرة والتعلّمِ من الفشل.
كلماتُ القصيدة تمَّ تعديلُها ليصبحَ تلحينُها أسهل. وقد كان للأستاذ أنطوان مقترحاتٌ قيّمة لتسهيلِ اللغة وتعميقِ جمالِ الكلمة وقدرتها على التعبير ببساطة عن أعمق المعاني والقيم. وبعدها أبدعَ في التلحين، وأضفى التوزيعُ الموسيقيُ الغنيّ للأستاذ أنطوان الشعك رونقاً خاصاً، ونتج عن جهدِ الموسيقيينَ والمنتجينَ عمل متكامل جميل، زادَ وهجُهُ برعاية معالي الوزير، وحضورِكم المحبّب.
فشكراً لكل من عمل على إنتاج هذا العمل، وشكراً لمعالي الوزير ولكم، ونتمنى أن ينال نشيد الوعي إعجابَكُم.
ختاماً، سألني صديق يعمل في الصحافة، لماذا تشرين؟ وهل تعني أن انتخابات الرئاسة في لبنان لن تحصل قبل ذلك؟ فقلت له إن كان الرئيس القادم يمتلك صفات المارد الذي يصفه النشيد، فلا بأس أن ننتظر إلى تشرين!”.
الصافي
من ثم كانت كلمة مقتضبة ووجدانية لأنطوان وديع الصافي، شدّد فيها على محبة لبنان. وقال: “لا تتوقعوا مني أن تكون كلمتي مثل كلمة الدكتور السبعلي، فهو غزير العطاء على صعيد الفكر والأدب والتكنولوجيا والتربية… ولكنني أقول لكم جازماً إن كل من يحبّ لبنان بصدق يمثلني”…
وختاماً تم إطلاق النشيد الذي لاقى استحسان الحضور في قاعة المكتبة الوطنية التي غصت برجال الفكر والثقافة.
كلمات نشيد الوعي
“كانوا الناس مسلّمين ونايمين
بين الوهن والوهم عا صوت الأنين
وفي يوم متل الأمس، في تشرين
مارد وقف بيناتهم، كلّو يقين
تطلّع بوج الشمس، بشمخة جبين
شاف بعيونو موكب الموت الحزين
طلّ صوب البحر بوقت الغروب
شاف المراكب فاتحة دروب الهروب
شاف الجموع، يا بتهرُب من الذل
يا بتموت، على حفافي الدروب
تمتم لحالو وقال: صار لازم نفيق
ننهض سوا للمجد، ننهض للإبداع
للمعرفة، للحق، للإشعاع
وبس من وين الطريق….
ومين رح ينهض معي
ويمشي على دروب الوعي
ونصارع التنين
لصرلو بأرضي سنين
مكبّل عقول الناس
ومكتّف الحراس
ومشتت الأخوة
ومموّت النخوة…
ومين رح يتحرّك ويوعى
ويترك مجاهل ذل مقموعة
وبدل الأنا، منصير مجموعة
مسوّرة بالحب، وبجباه مرفوعة
ويمشي معي
بجدّ وسعي
وكلّو وعي
وما يدّعي
وعنّا إرادة موحّدة وحرّة
ونفوس جبّارة وما بتهتز
ولو نكّلوا فينا ألف مرّة، ومرة
نواجه قدرنا بألف وقفة عز
ومن بعد ما منجدّد الهمّة
نعلّي الفضا تا تنهض الأمّة
ونمشي الدرب، قمّة ورا قمّة
ونزرع ورد وشموخ ومحبّة
نبذل جهد، أجيالنا نربّي
حتى إذا هالدّهر حاصرنا
وإذا تأخّرنا، وقصّرنا
ومهما علينا الحمل كان تقيل
منرجع منتقمّص بتاني جيل
يحمل الراية
يجوهر الغاية
يجدّد يوحّد،
يعكس الآية…
يكمّل أحلامه
يبدّد أوهامه
وياخد الأمّة
من جديد من قمّة الى قمّة…
ومهما طوينا سنين خلف سنين
وتعبوا الشباب وختيروا الحلوين
بيرجع هدير النهر
يمحي سنين القهر،
وترجع الناس تفيق
تا تشقّ الطريق…
بقلوب فرحانين
ونفوس منتصرين
ومارد متل صنّين
كل ما شرق تشرين”…
فيديو نشيد الوعي: