بسم الله الرحمن الرحيم أسعد الله مساكم بكل خير وعافية ونعمة مستحقة.
سأتكلم في أربع فقرات مسجلة بالصوت متتالية هي:
1- معنى الإعلام Media 2- وظيفة الإعلام ودوره 3- واقع الإعلام. 4- قضايا مسكوت عنها.
حسب الوسيلة: هو الوسيلة الاجتماعيّة الرئيسيّة للتواصل مع المتلقين شعوباً او أفراداً بحيث يمكنهم فهم الرسالة المرسلة إليهم.
3- حسب المضمون: هو المعلومات التي تُنشر بواسطة الوسائل الإعلاميّة، كالإنترنت والصّحافة والإذاعة والتلفزيون، للجمهور.
4- حسب الفائدة: هو إبلاغ المرسل إليه بفكرة او معلومة محددة، أو للإفادة، او للتأثير به وإيجاد اهتمامه واستثارته.
5- حسب الصفة: تقوم بالإعلام منظمات رسمية غير ربحية او مؤسسات او شركات خاصة تجاريّة تتولى وظيفة نشر الأخبار وإيصال المعلومات للأفراد، وتختلف في ملكيّتها فقد تكون عامة تملكها او وزارة أو خاصة تملكها جهة سياسية او تجارية تكون رأسمالها بأسهم.
6- الغاية: هي تكوين الرأي العام، وتنميته أو تغييره وصناعته وتبديل قيمه ومفاهيمه بتقديم ما يهم الجمهور كبرامج ترفيهيّة، وخدمات وإعلانات وغيرها، او تقديم ما يستلب الجمهور ليؤدي اغراضاً تريدها إدارة المؤسسة او السلطة التي تقودها. في الحقيقة، كل التعاريف التي وردت هي جزئية، ولم يُصِب منها أي تعريف، بل تناول جانباً من الظاهرة الخطيرة في هذا العصر.
حقيقة الإعلام انه قديم قدم وعي الإنسان، بدءاً من تعرّفه إلى جسده ومهاراته ولغته مروراً باكتشافه اللغة والأبجدية في سومر جنوب بلاد ما بين الرافدين حيث أوجد أول منشور إعلامي توثيقي بألواح الطين. فاحتوت مكتبة آشور بانيبال 30 الف رقيم طيني، شكلت اول أرشيف بشري مصنوع ومحفوظ، اضافة إلى الطين كانت النار التي أسهمت في خلق الأسرة البشرية فبثت الدفء في القلوب وألهمت العقول والألسنة للتعبير عن الأفكار خوالجها وأفكارها. فكان الثورة الإعلامية الثانية، ثم ثورة الجلود وأوراق البردى في وادي النيل وسعف النخيل، ثم الصخر بالنحت، لترتفع المسلات في ساحات المدن والعواصم لتنشر القوانين والأحكام العامة. إلى أن اكتشف الإنسان صناعة الورق فبدأ عصره المديد ليدوم حتى يومنا هذا، رغم تراجع مكانته، أمام الورق الافتراضي الذي أوجده الانترنت، في مواقع عملاقة للتواصل كفيسبوك وواتس آب وانستغرام وتلغرام وغيرها، لكن الإعلام هو ليس نقل كلمة فقط بل كذلك هو صورة، لوحة، جدّية او ساخرة، ومع اندماج الصورة بالنص أصبحت الرسالة الإعلامية أغنى وأقوى. تكامل غناها مع الصوت بالإذاعة والتحريك بالفيديو، فولوج ثورة الإنترنت التي لن تكون الأخيرة. هنا نلامس صياغة تعريفنا للإعلام: “الإعلام هو علم متكامل يستخدم تقنيات تسمح بها درجة التطوّر في كل مرحلة وأمة، لنقل رسالة إعلامية تتضمن معلومة يحتاجها المرسل إليه الفرد – الجمهور – الشعب، ويستطيع فهمها والتقاطها، بوسيلة واضحة وبسيطة وكافية”. الوضوح والبساطة والكفاية دليل على الاحتراف المهني والتمكّن من قواعد الصناعة الإعلامية.
2-وظيفة الإعلام:
وظائف الإعلام تواجه انفصاماً مريعاً بين النصوص والواقع، فحيث ننشد من الإعلام أن يكون مفيداً نافعاً تعليمياً، إرشادياً تطويرياً، تنموياً، تثقيفياً، تربوياً، توجيهياً، عاملاً لشد اللحمة الشعبية والوطنية والدينية على كلمة سواء فيها سدى الشعب وأمانه وقوته واستقراره، فيكون هكذا وسيلة فعّالة للتفاعل الاجتماعيّ وتنويره. فيتفاعل مع محيطه الطبيعي والاجتماعي والقومي وامداه الإنساني الأوسع، ويستقطب المعلومات ويقدّمها فاكهة غنية وثرية للعين والقلب والعقل والوجدان. معزّزاً المفاهيم الخاصة بالجمهور فيطوّر الذات. ويوجد طقوس الدفء التي تمنح الجمهور النظام والأمان.
لكننا كمتابعين نراه في الواقع، في معظم قنواته ومحطاته ومؤسساته العملاقة خاصة، باستثناءات محدودة جداً، أنه يشكل طغياناً يستلب القيم والرأي العام والموضوعية والتفكير الحر وبديهيات العقل والذوق ويغتصب الخصوصية، فيكون فتنة لا تبقي ولا تذر بما تبث على مدار الساعة من أضاليل ومواد جاذبة ومبرمجة يكاد يستحيل اكتشاف زيفها وأغاليطها واهدافها، بما تملك هذه المحطات والمؤسسات من حرفيات وخبراء ومراكز أبحاث وقوى نفوذ وتمويل واستراتيجيات خطيرة..
تتحول برامج الحوار التي يفترض أن تكون للحوار الراقي إلى جلسات للملاكمة والضرب بالكراسي والسباب والشتائم والتراشق بأقذع الألفاظ التي يندى لها جبين المشاهد – المستمع الراقي. وبحجة حرية الرأي تطلق لتلك البرامج كل سبل الدعم والنجاح لتغتصب العيون والأسماع والعقول الضعيفة وتجيش الناس احزاباً تقتتل فتذهب ريحنا.
3- واقع الإعلام:
أ- من تجربتي الخاصة لمدة 29 سنة في علاقة مع المحتوى وصناعته، وتحريره وتدقيقه، لم ألتق ولم أسمع ولم أر إلا حفنة قليلة تتقن عملها حقاً، وتحوز على لغة فصيحة واضحة ولسان سلس وقلم جميل. إعلاميون عرب جلهم لا يفقهون لغة العرب ولا يعرفونها، لا نحواً ولا صرفاً، وغالبيتهم العظمى تتجه إلى العامية المحكية لتنقذ نفسها من لوثة الجهل. يتحمل جهل الإعلام بغالبيته، انحطاط لغة العرب الراهن، بحيث يتعلق علماء اللغة والمجامع اللغوية بيوم واحد عالمي للغة العربية، وعندما حددته الأمم المتحدة في 18 كانون الأول اختارت يوماً لا يمت للعرب وروحهم بصلة، لم تختر ميلاد المتني، ولا ميلاد المعري، ولا ميلاد سيبويه ولا ميلاد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، أو تاريخ نزول القرآن الكريم، ولا ميلاد المعلم بطرس البستاني الذي أسهم إسهاماً جليلاً بيقظة اللغة العربية في منتصف القرن التاسع عشر. كنت مضطراً أن أشرح لمتدربين من حملة الماجستير الأكاديمي في الإعلام او لحملة الإجازة في اللغة العربية الكثير من قواعد الإملاء العربي ان حياة بتاء مربوطة وان الرفات بتاء مبسوطة، وهكذا تكتب الهمزة في اول الكلمة او وسطها او آخرها.. وكان يهمهم بغالبيته ليس التعلم بل إبراز أسمائهم بنصوص متينة لا فضل لهم في تحريرها ولا ديباجتها.
ب- إعلام يحتقر العلم: يُقصي العلماء المعتدلين الناصحين الأكفاء في الشريعة، ويتمسك ببعض المفتين المهرّجين الذين يغيبون دهراً ويظهرون في محطات فاصلة ليطلقوا منتجاتهم لخلق سجال متداول يجذب للشاشات قطاع المتابعين. فتفيص الإعلانات والرساميل في خزائن وحسابات الإدارات المسؤولة والممولة باسم الإعلام القتيل.
ت- إعلام يتنازل عن دوره الطبيعي المهني بالنقد، ويبدو هذا التنازل الجريمة في مظاهر تعطيل العقل عن النقد، وعدم تعميم تربية النقد، في الأسرة وفي المدارس والجامعات وفي كل المؤسسات العامة. إعلام يتنازل عن دوره لسلطة تقوده قد تكون وزارة او جهاز أمن محلي او إقليمي او عالمي، وتجيّره لسياسة ويوجده المال أو يحتويه فيغتال الحقيقة.
أول ما يجب نقده هو السلطة، أكانت دولة أو إدارة عامة او وسيطة او محلية. إعلام تنازل عن النقد يساوي دولة انكفأت عن البناء، ومجتمعاً تم شلّ عقله وتفكيره وأصبح كسيحاً وأعمى. وإذا قمنا بحساب بسيط عبر جولة في كتاب الله العزيز نرى ان عبارات “أفلا تعقلون” ولعلكم تعقلون ولقوم يعقلون وردت في ختام الآيات الحكيمة في القرآن الكريم في 49 موضعاً. وعادة ما يرتبط طلب العقل والتعقّل بالتصديق وبما أظهر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من آيات بيّنات. وليس لتصديق غيب موهوم لا سمح الله. كلمة الإيمان وردت في 86 موضعاً وفعل “تؤمنون” بالله او الرسول او اليوم الآخر وغيرها في 8 مواضع. بينما كلمة جمع المذكر السالم في حالة النصب او الجر او الرفع وردت في 83 موضعاً. بينما لا نقع في موضع واحد على كلمة العقل متصلة بال التعريف، أي مطلقة، بحيث تعني أنها مجردة واخذت بعداً فلسفياً شاملاً.. لذلك يجب ان يكون العقل لصيقاً بالإيمان وهما يشكلان قطبي حياتنا. لا يمكن التصديق من دون عقل ولا الإيمان من دون عقل، بل إن الله سبحانه وتعالى عندما أعطى العقل للإنسان لم يعطه ما يعطله، حتى الدين كما رأينا ليس تعطيلاً للعقل بل هو تفعيل له وطلب للتصديق به. ومشهور حديث الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام أن العقل هو الأساس والشريعة هي البنيان عليه فإن الشريعة عقل من داخل والعقل شرع من خارج. هنا اندماج تام بين العقل والشريعة. بلا انفصام واي انفصام يسوقه احدهم ينبغي ان يدفعنا للفحص والتدبر. لأن الوعي والإيمان فريضة عين على كل منا، ولا تؤخذ نفس بجريرة اختها.
4-قضايا مسكوت عنها:
انكفاء الإعلام عن مسؤوليته في نشر العلم واعتماد العقل هادياً ونبراساً، انعكس كما تبين معنا، على واقعنا الوطني والديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. رضينا بواقع التخلف واقتنعنا اننا غير مؤهلين له، فتساءل كثيرون من علمائنا وكبارنا منذ مئة عام لماذا تقدّم غيرنا وتأخرنا؟ لماذا انقسمنا على أنفسنا وغدت العروبة عروبات ومحاور؟ فلا يمكننا الاتفاق على كلمة سواء عربية.
ويكفي ان تطلعوا على محاضر القمم العربية منذ 1936 لنعرف كيف فقدنا فلسطين. تأخذ مناقشة النص وصيغته وقتاً طويلاً، ولا يكون الخلاف على الخطط والأفكار والرؤى بل على استبدال فعل بآخر من صنفه ونعت بآخر من نوعه. بينما كان العدو يخطط ويستفيد ويحول عجزنا قوة له، إذا كان ما زال عدونا كلنا على المستوى العربي الرسمي الشامل، بينما على المستوى الشعبي أنقذت الشعوب العربية التي عبر عنها الجمهور في كأس العالم 2022 في قطر نفسها من تهمة انها تخلت عن فلسطين، بينما الحكومات تتخلى عنها تباعاً.
هذا الواقع المريع خلفه سقوط الإعلام من كونه رسالة إلى حالته كصناعة مبرمجة بلا روح ولا إبداع.
لماذا أصبح إعلامنا يصنع التفاهة (برباعية المال والنفوذ والسلطة والسوق) يقتبس البرامج الأجنبية الكبرى حرفاً بحرف، بل يعتمد تسمياتها، وكأنه يعترف انه عقل اسفنجة لا يمكنه توليد جديد يل يفرز بعض ما يمتصه!! أين الحكومات سلطات الوصاية؟
لم ينحط معظم الإعلام العربي إلى واقعه الراهن لولا توسّع السلطة بالقمع المباشر أو غير المباشر. وتقييد الإعلام بقوانين متخلفة غايتها حماية الحاكم لا نقده، غايتها التلقي والتلقين لا الإبداع والتفكير. تماماً كما يريدنا موقع فيسبوك فيقفل صفحاتنا إذا خالفنا معاييره.
أين هي الحرية الإعلامية التي تصم آذاننا بها المنابر الدولية والعربية الرسمية والإعلامية؟ إنها آلية صناعة الغباء لخلق الغباء (تلك التجربة التي وضعها علماء النفس الاجتماعي وفحواها ضرب القرود عندما يحاولون تسلّق السلم لتناول الموز. تم تغيير خطواتها تباعاً لتظهر أن القرد الجديد غير المتعود على معايير المجموعة يبقى ثائراً حتى يتمّ تدجينه بتلك المعايير عن طريق ضرب أقرانه له عندما يرفض الانصياع إلى أن الموز أصبح فاكهة محرمة عليهم).
فهل الإعلام الحقيقي التعليمي النافع التنويري والتربوي التثقيفي وحرية التفكير والابتكار والتجديد غدت فاكهتنا المحرّمة؟
عذراً للإطالة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*الجزء الأول من سلسلة محاضرات فكرية في الإعلام للكاتب.