علي الشاب
اعتاد منزل الأخ محمد ملاعب (ابو هلال) على لمّ شمل الأحباب على إفطار رمضاني كل عام، فصرنا كلما هلّ هلال رمضان يتوارد في خاطرنا السؤال عن موعد الإفطار في دار أبي هلال. وفي كل إفطار كنا نخرج على وعد اللقاء، وعلى ثقة بأن فلسطين التي جمعتنا يوماً جمعتنا دائماً، وأن دروبها التي سرنا عليها باندفاع وشوق وعبرناها ببعض من أعمارنا وفارقنا عليها باقات من أحلى أحبتنا بدأت تبشرنا بأنسام الوصول ببركة الجهود التي تبذلها الأمة رافدة عطاءات أهلها التي فاقت كل عطاء والتي جعلت الجنان ترفل بين حواري مدنها وقراها، فلا تدري أين تنيخ بحملها وعلى أية شرفة أو هامة وفوق حطام أي دار أو حطام أي قلب وعند اية قرية أو زيتونة ودوار، وعلى مصب أي واد أو شريان ودم.
في أحلك ظروف الفرقة ورعب الشقاق والفتنة كان أبو هلال يجمعنا في بيصور وفي عائلة حملت أباً عن جَدّ خصال الكرم والخير والمحبة من صغيرها إلى كبيرها من ذكرها وأنثاها يستجمعون غلال حبهم عاماً بعد عام ويقدّمونه قربان شكر لله يكسبون الأجر بلمّ شعث من أحبوا، فرحم الله من أسس هذا البيت من الآباء والأجداد وعلم الأبناء دروس الخير وسنوا سنن الصفاء والمروءة والكرم وبنوا مداميك بيوتهم كالجبال الرواسي يأوي إليها الباحثون عن ملاذ أوعن نار وهدى حين تشتد الرياح العواتي وحين تزوغ الأبصار وتغشى الناس ظلمات الليالي الحالكة.
ورحم الله السيدة الكريمة أم هلال التي كانت في السنين الماضية تستقبلنا بما يليق من حب ومن كرم، فقرأنا الفاتحة عن روحها سائلين الله أن يسكنها فسيح جناته ويجعلها إلى جوار الصديقات الصادقات الطاهرات.
في بيصور التي نأتي إلى ضيافتها تحتشد الخواطر والأفكار وتتقاطر إلى البال مواقف الرجال الرجال من أهل هذا الجبل الأشم بدءاً من مواجهات الحرب الأهلية ومعسكرات التدريب ومروراً بإذلال الجيش الذي صار يُقهر، ولا بد أن نتذكر في بيصور وفي ضيافة أبي هلال معلماً من المعلمين الكبار الذين ساهموا بتزويد جيلنا بالكثير من المعارف والقيم إنه ابو محمود هلال رسلان الذي أهدى أبا هلال اسمه لابنه الأول والذي نحت في صخور جبال العرب من سورية إلى لبنان، فأنتج جيلاً زاهياً من المناضلين الفدائيين المتفانين في حب بلادهم وأهلها والمتمسكين بقيم التوحيد والوحدة ونواميس الاجتماع العربي الإسلامي الممتلئة صدقاً وشهامة وثباتاً على ثوابت الأمة، كنا صغاراً يوم سمعنا بأبي محمود هلال رسلان فحاولنا بفطرة البحث عن الجمال أن نبحث عنه، وعلمنا أنه يسكن في منطقة رأس النبع فاقتربنا من محيطه جمعنا معلومات دون لفت الأنظار من أولاد الحي وكان بعضهم يشاركونني التعلم في المدرسة نفسها وبعضهم الآخر أصدقاء في النادي، حيث كنا نتمرن على لعبة الملاكمة. واستطعت من خلال مقاطعة بعض المعلومات أن أصل إلى من كنت أتوقع أنه هو أبو محمود وبدأت بالسعي لإلقاء نظرة من بعيد إلى هذا المناضل الذي كانت سمعته الطيبة قد اجتازت الحدود من حلب الشهباء حيث كان لفترة قد عين محافظاً عليها وكانت تعاني البلاد حينها أزمة اقتصادية خانقة فما كان منه إلا أن اتخذ قراراً بتأميم الأفران لكي يسهل على كل الناس الحصول على خبزهم اليومي. وقد كان أبو محمود كبير الهامة مهيب الطلة رغم ما يبديه من طيبة وابتسام، وكان في بعض المرات يرتدي بذلة كحلية وطربوشاً أحمر وقليل الخروج من منزله وكان فارق العمر بيننا كبيراً فلم نجرؤ على الكلام معه، ثم علمنا أنه يستقبل بعض الفتية في بيته ليساعدهم في فهم ما صعب عليهم من دروس في الصفوف التكميلية والثانوية فقلنا إن الفرصة قد أتت لكنه غاب عن الحي قبل أن يتاح لنا تحقيق ما نصبو اليه. عندما أخبرته في ما بعد حين توطدت معرفتنا به عن متابعتي له واكتشافي لمكان إقامته دهش. وقال لي إنه كان يظن أنه في ستر أمني وأنه غير مكشوف. ثم تنسمنا أخباره من جديد ولكن هذه المرة في الجبل حين كنت أعمل في معمل الحديد في الفياضية وسمعت أنغاماً وكلمات لأغان وطنية يرددها بعض الشباب أثناء العمل اقتربت منهم وسألتهم عنها فوعدوني بإحضار كاسيت وذكروا لي أن المنشد الذي يغني ويعزف ألحانه على العود هو الأخ العزيز حاتم ملاعب الذي هو أيضاً ابن بيصور. وقد ساهم جهده الفني المبدع فيما بعد بدور كبير في تأجيج الروح الوطنية وتعميق القيم النضالية والخط السياسي السليم في جيل كامل، وقد توطدت علاقتي ببعض هؤلاء الشباب وتوسعت الدردشات في الاستراحات او بعد الخروج من العمل فمرّ على سمعي ذكر الاستاذ هلال رسلان أبو محمود وقالوا لي إن بإمكاني زيارته والتعرف إليه ولم يكن ذلك مفاجئاً بالنسبة لي، لأن التشكيلات السياسية في ذلك الحين حتى البسيطة منها كانت تحمل في مسلكية ولغة المنتمين إلى أجوائها “كودات” محددة وشيفرات لا تخطئ في الدلالة على مصادرها الفكرية وبيئتها الاجتماعية والخلفية الثقافية التي كانت تنبع منها. تركت العمل في ذلك المصنع قبل أن تتاح لي فرصة الاقتراب أكثر من عناصر المجموعة الذين كانوا على الأغلب يسعون لتنظيمي في عملهم السياسي الناشئ أوائل سبعينيات القرن الماضي. عدنا بعد ذلك إلى الجبل حين ارتبطنا مع أهله الشرفاء برباط وثيق وأتيح لنا التعرف إلى شباب من خيرة شباب بلادنا صدقا وشهامة وشرفا ووفاء منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
أكرم الله اخانا الحبيب محمد ملاعب (ابو هلال) وأطال بعمره وهو الذي أتاح لنا فرصة لقاء الأصدقاء الأحباء الذين توافدوا من كل أرجاء الوطن ليمارسوا شعائر الوفاء والالتزام وأتاح لذاكرتنا أن تنتعش بذكريات رسمت معالمها في كل ما أتى بعدها.
تقبّل الله أعمالكم وكل عام وأنتم بخير.