هاني سليمان الحلبي**
من نِعم الحياة أن تتقاطع دروبك في بيوت ورد. تترك وردها كَرْماً على درب. يفوح على المارة والعابرين ليعبر فيهم وبهم إلى أسمى شعور تخلقه الوردة في القلب. الوردة الكلمة، الوردة التحية. الوردة الفكرة، الوردة الصديقة، الوردة الحضور، الوردة الأهل، والوردة الأم والوردة البيت.
ومن حظ بكيفا*** أن يكون بيت الورد محاذياً لطريقها العصب المارّ بها من أخمص قدميها إلى آخر خصلة شعر من رأسها عند مفرق المرامل.
ومن حظي أنا، أن يكون في حياتي المدرسيّة، وأنا حدث، في المدرسة الرسمية المختلطة، بحكم وضع أسرتي تحت تحت خط الفقر، أن أجايل وأرافق مربعاً لطيفاً من بكيفا، مركزه رندة، وبضعة شباب لم يبقوا كثيراً في الرفقة المدرسية وانصرفوا إلى أعمال مختلفة.
بقيتْ وشائج التواصل مع رندة، منها شريان للتاريخ، وشريان للعقيدة، وشريان للصداقة وشريان لصوتها الفيروزيّ.
عندما تصلني رسالة السماء، ارتقي إلى مراقي الملائكة، فأنزلق إلى بيت الورد، وعندما تصافح عيني بتلاته وأوراقه، تحضر فيروز بأغنية وردات الدار تضحك لك و”تقلّك اهلا وسهلا”.. لا يرحّب بيت الورد بقادميه وضيوفه متكلاً على ألسنة ذربة، بكلام حلو معسول، تسمعه في غالبية بيوت حرمون البهاء من مقالبه كافة.. فنقاؤه ينبثّ في القلوب دفئاً وفي العقول صفاء وفي النيّات براءة بكراً.
تمتّنت الشرايين أكثر، وكثرت، عندما لمع في بيت الورد ملاك برتقاليّ ثانٍ، عمّت نعمة لمساته على جراح المئات، وربما الآلاف التي بلسمتها بخبرة ولطف ودعاء وتطوّع رساليّ، إنها ريما، التي تحمّلت إلى جانب أختها ورفيقة حياتها رندة جلجلة مثلثة الأضلاع وبفرح وصبر واقتدار.
كنت ألمح في عيني رندة، وحشة الأب، الذي لم أعرف عنه أيّ تفصيل بين السبعينيات والثمانينيات سوى أنه مهاجر إلى أفريقيا لعمر طويل، كنا ناشئين، قطعنا الشباب بعيداً ولم أعرف أنه عاد من اغترابه المديد. وفي آخر الكهولة، قادتني صدفة إلى بيتهم الجميل، لأكتشف أن والدها عاد، من رحلة يولوسيز، وكدتُ أفرح رقصاً، لولا شريطة سوداء وشّحت صورة الرجل، حدستُ أنه المتوفى.. فغصصت حتى تيبست حنجرتي كحقول فرات في عصر الغول التركي.
ولا يقلّ حضور رجل البيت وحيده خالد، رغم معاناته، فعلائم الذكاء والفطنة والرغبة بالمعرفة والمشاركة على استحالة تعبير، تكمل أبجديّة الحضور المحبّب، القادر أن يصبر وأن يتفهم وأن يعي كل تفصيل يخصّه، ويحيط به، دون كلمة واحدة. كان لمّاحاً، رحمه الله، بإشاراته وفرحه، رغم الغصّة.
****
كان لبيت الورد ملكة، هي مايسترو أنغامه وماء ورده وعطر فوحه، هي الشيخة أم خالد. سيدة الصبر، سيدة الانتظار، ستّ البيت. وأم الثالوث الذي يمكنها أن تفاخر به وتباهي الأجيال نعمة وتربية وعطاء.. “آتني بمثلهم إذا جمعتنا… المجامعُ”..
منذ عشرة أيام، عرّجت أم خالد إلى سماء عليّة، تربّعت على القلوب وترسّخت سنديانة في حمى بكيفا عميقة الجذور. لا تجرفها سيول ولا تهزّها عواصف، تفتح ذراعيها للسماء ابتهالاً أن يحمي ملاكيها وأن يرحم شابّها الحبيب. وهي حيث ستكون الجنة أماً تحت قدميها، يستجيب المنادى لأنه حق. حق النداء وحق الواجب.
الرحمة لروحك، يا شيخة أم خالد، رحمة نسجتها بأناملك خيطاً خيطاً، وما على الناظرين والسامعين سوى نطق الشهادة التي لم تطلبيها، ولم يتوسّلها أحد. كل يوم في جلجلتك خيط بهيّ منها، وكل صباح دافئ لأسرتك وعينك على مطلّ الضيعة لعودة شريكك هو خيطٌ فيها، وكل فوح عندما تفتحين بابك الأخضر بروح خضراء ضيافة وأدباً هو التوشية لما حكتِ.
الموتُ تستصنعه الحياة لتسلّي عقول العامة، أما عقول الخاصة فتعرفه أنه برقع شفاف لوجهها، تعابث به القلوبَ لترضى وتسكن، أن ما يصيبكم مكتوب عليكم منذ بدء الكون (مارك أوريل – فيلسوف رواقيّ)، وعلى هذا يؤسس التوحيد فلسفة النظرة التي تفسّر الحياة وربيبها الموت.
وما يُصيبنا سوى رحمة غامرة من الرضى، فغوث الغيث لا يهدّ الجبل بل يُملئ جرار الأرض لتخصب. الحصى تجرفها السواقي أما الجبال فتبقى رواسخ شوامخ أبد الدهور..
وفي الحالين يبقى بيت الورد مفتوحاً ومنيراً بهما وفائحاً لعابري السبيل دون أن يفحص دمهم أو يقطع طريقهم.
*بيت المرحوم جاد الله دانيل.
**ناشر منصة حرمون، كاتب وباحث ومدرب وناشر من لبنان.
***بكيفا إحدى أقدم قرى منطقة راشيا ومشتق اسمها من الصخرة.