بين منصور وقلبه حلف متين، للأمانة وشهادة للتاريخ يستحق أن يفخر بهذا القلب الجبار! لا يعرف هو كيف تحمّله ثلاثة وتسعين عاماً! إنه قلب وفيّ! الآن يقول له الأطباء في صيف العام 2013 إنها آخر بطارية يمكن أن تزرع للقلب، لأنها الأخيرة. ربما يكون له حظ يفلق الصخر فيخيب علمُ الأطباء وينفتح الابتكار على اختراع جديد فيهزمهم ويعيش أكثر من سنوات سبع يتوقعونها له تنتهي في الـ2020!! مَن يدري؟ فقلبه الذي تحمّل العمل الحزبي وخيبة رفقاء وخيانة بعضهم، وانعدام وفاء أصدقاء وارتداد الكثيرين منهم على وليّ نعمتهم وباسط يد العون لهم. قلبه الذي تحمّل الشركاء ومنازعاتهم الشخصية وأمزجتهم العصبية والجبلية واللبنانية والفردية الغريبة آن له أن يطلب الإعفاء من جحيم التحمّل. فيحرد حيناً ويتمرّد حيناً آخر ويصرخ في وجهه: كفى كفى!! أرحني واسترح! كل هذا الهول لم يذبح قلبي، لا مواجهة الانتداب ولا السفر ولا خطر الإفلاس في الخرطوم ولا غصص الغربة ولا جنون الانقسام واستسهال الطرد من الحزب ولا المعارك الانتخابية ولا المواجهات السياسية ولا العمل الإذاعي ولا المغامرة بالاشتراك في الانقلاب الفاشل ليلة رأس السنة 1961-1962 في فرصة زيارة أسرتي لمناسبة الأعياد ولا لجوئه بثياب مجنون إلى مصح دير الصليب في جل الديب ولا سجن أنساوام في غانا لكبار المحكومين، ولا فقدانه رفيقه الأهم والأحب زهدي الصباح في مأساة طائرة مدرج لاغوس، رغم حزنه الدائم الشديد عليه، ولا فشله في انتخابات 1972 ولا بدء الحرب الأهلية في لبنان وتهديد أسرته وأولاده وصولاً لتهديده شخصياً واستدعائه إلى مكتب الكتائب في ساحة ضيعته بيت الشعار وتهديده بمسح منزله ومنازل رفقائه، الذي اشتراهم لقاء ضريبة تدفع لعصابات الكتائب في تلك المنطقة بقيادة أمين الجميل. لم يُذبح قلبه عندما ترك أباه شيخاً يتحمّل عبء تربية أولاده وهو محكوم بالإعدام وترك أمه تهدّها الشيخوخة هماً عليه، فلم تُتح له الحكومة اللبنانية فرصة لإلقاء النظرة الأخيرة عليها عندما ماتت، بل كانت نظرته الأخيرة عليها يوم عاد إلى بيت أخته ادال في الأشرفية مطلع شباط 1962 لساعات خارجاً من دير الصليب في طريقه إلى المطار!
عندما يقف على عرش الاعتراف روحه تخاطب والديه: “أشعر بالحاجة لطلب غفرانكما يا أمي ويا أبي! كم تحمّل قلباكما من أجلي!”.
ما ذبَح قلبه هو أن تجتاحنا إسرائيل مجدداً فتصل بيروت وتكاد تحتل لبنان في أيام!!! أحسّ حينها بُعيد 6 حزيران 1982 يوم انطلاق الاجتياح اليهودي الصهيوني للبنان أن قلبه بدأ يخونه. أحسّ وكأنه يعاتبه لماذا صدّق أوهامه بالانتصار وقدرتنا على توحيد الأمة، فإذا بنا نفقد لبنان بعد فلسطين والجولان، بلداً هشّاً من تبن وورق مقوّى؟ حينها زارته أول ذبحة قلبية في حياته!! كان شارف على الستين من عمر. لمن يعمل مثله، يطير يومياً بين عواصم عدة، لا يهدأ ولا يدع احداً يهدأ ولا ينام ولا يدع أحداً ينام، يحق لقلبه أن يستسلم قبل الستين. لكن قلبه، قلب منصور عازار، باكراً عليه أن يهوي ستينياً. ومتى؟ في عزّ التصدي للعدو المجتاح بلادنا!!
كان في لاغوس في نيجيريا عندما أحس أنه لا أستطيع الحراك، ويعاني عوارض ذبحة قلبية، تعرُّق شديد. ارتفاع حرارة. إحساس بالانهيار ودُوَار حاد. لم يكن أحد في البيت حينها، كانت أسرته في رحلة إلى البحر وإلى جانبه رفيقه الحبيب عصام السوقي، اتصل بطبيبه الخاص، وكان واصلاً لتوّه من لندن، فبادره بالسؤال: كيف عرفت أني أتيت الآن من لندن. ها أنا أدخل من الباب؟ سألته: ماذا أفعل؟ سألني: ما بي؟ فشرحتُ له. وطلبت منه أن يترك كل شيء ويأتي حالاً. وقال: لا تتحرّك مطلقاً. ابقَ حيث أنت وبالوضعية نفسها أنا قادم فوراً إليك. استطاع أن يشخّص الحالة، فأتى وقد اصطحب معه العلاج الأولي بعد أن قام بفحصي. فتأكد من دقة تشخيصه. وصف له دواء لتتحسّن حالته. وطلب منه الراحة.
قال: حياتك في الميزان الآن. أي عمل تقوم به يودي بحياتك فوراً. أصرّ عليّ ألا أغامر!!! بعد فترة طويلة من العلاج في نيجيريا، تم إنجاز معاملة السفر إلى لندن والموعد مع مستشفى Cromwell hospital ، جنوبي كينسنغتون، وكان اتفاق مع طبيب الصحة الخاص بالأسرة في لندن، فطار منصور وفداء إلى هناك. كانت زوجته في لندن في منزلنا الخاص هناك. دار نقاش في الأسرة عن الطبيب الذي يمكن أن يجري العملية. كان منا مَن يرغب في أن يجري العملية طبيب عالمي مشهور حينذاك، لكنه كان أصبح عجوزاً، وهذا يشكل خطراً خلال التنفيذ، فاقترح طبيب الصحة العامة الخاص بالأسرة أن يُجري العملية طبيب شاب ومتمكّن وبارع كذلك ويعمل بدقة فائقة ويمكنه رؤية الشرايين بتفاصيلها وغيرها، فاقترح عليّ طبيباً أيرلندياً شاباً، وأجرى على يديه أول جراحة للقلب فاستبدل خلال أربع ساعات 3 شرايين من قلبي. نشأت مودة كبيرة معه. كان مرحاً وذا أسلوب رائع ومحدّثاً بارعاً. كان يسأله في كل لقاء عنه ومن أين أتى، وماذا يفعل؟ عندما عرف أنه ماروني من لبنان، ويؤمن بعقيدة لحياة جديدة، وأنه صناعي كبير ورجل أعمال ويهتمّ بالفكر والفلسفة والثقافة والإعلام. قال له: ألا تعرف إلى أين ستصل؟ عليك أن تطرح اثنتين منها فتبقى واحدة. أعطاه توجيهات لا تُعدّ ولا تُحصى. لكن بعدما عاد إلى عملي في نيجيريا أهملها كلها، وكأنها لم تكن.
مرت عشر سنوات بالضبط، وفي عز الإرهاص الأخير للحرب في لبنان في العام 1992، كاد قلبه يستسلم مرة ثانية. فقال له: خذني بحلمك قليلاً، ما زال لدينا شوط طويل. فلا تخذلني هنا والآن! تمهّل عليّ.
وبعد مشورة رفيقه وصديقه الطبيب سامي قائدبيه في بيروت، حوّله إلى مستشفى الجامعة الأميركية لمعاينة الدكتور أنطوان نصرالله. طلبوا في المستشفى ملفه من لندن. كانت ابنته هاديا هناك. لما اطلعوا على الملف قالوا يجب إجراؤها في المستشفى نفسه وإذا أمكن الطبيب نفسه. فاتصل بالدكتور البريطاني وتحدّد موعد للعملية في مستشفى Cromwell hospital ذاته، فسافر إليه وأجراها عنده. شاور طبيبه الخاص فوجدت أنه لا بد من عملية ثانية للقلب، لما رآه الطبيب نفسه الذي أجراها قبل عشر سنوات، قال له: عدت مجدداً لأنك لم تلتزم بالتوجيهات. فأجرى عملية بتغيير 4 شرايين. ونجحت كالعملية الأولى. وكانت مخاطرها كبيرة. فوجئ الطبيب أنه عاش ولم يمت تحت مباضعه.
وفي العام 1993 وبعد عودته من العملية إلى لبنان، عاد يزاول عمله الحزبي في مديرية بيت الشعار وفي مركز الحزب في شارع جاندارك في بيروت، وصادف أن حضر اجتماعاً للمديرية برئاسة المدير فؤاد الأشقر، فانبرى أحد الأعضاء وقال: كيف يحضر معنا السيد منصور عازار وهو مطرود من الحزب منذ زمن بعيد منذ العام 1972؟ فردّ المدير وأبرز نص قرار صادر من المجلس الأعلى في الحزب يلغي أي تدبير حزبي سابق بحقه، واستحصل من العميد لبيب ناصيف على نسختين واحدة للمدير وأخرى له. ففوجئت بما حصل، إذ لم يعلم إسقاط قرار الطرد عنه وكنت لم يتبلّغ به حتى حينه. وهكذا كانت بدايته في استئناف العمل الحزبي مجدداً والاطلاع على واقعه في المرحلة السابقة خلال فترة الطرد.
في العام 2006 تفاقم اعتلال الصحة؛ القلب من جهة واحتمال توقف الكلى عن وظيفتهما، وكاد يستحيل العلاج وشارف على الموت، واستسلم الطبيب المعالج في مستشفى الجامعة الأميركية الدكتور أنطوان نصر الله، بعد معالجة شديدة بلغ الطبيب حد اليأس، بقوله لابنتي هاديا: الأعمار بيد الله، هذا آخر عمره. ما في باليد حيلة بعد. خذوه يموت ببيته أريح لكم وأريح له. رفضت ابنتي هاديا وقالت له “بل أبي ما زال شاباً وسيعيش حتماً ولن يموت”. فقال لها: ماذا أفعل إذاً؟ قالت هاديا: ضعه في العناية الفائقة ولا تستسلم وقم بكل العلاجات الممكنة. وكانت تجلس على الأرض وهي تنتظر الطبيب ليخرج من غرفة العناية لتطمئن. أحسّت أن أباها المنصور بخطر شديد والوضع يتطلب التحرك العاجل وتحدّي الوقت. لكن بعد أيام كانت الأعجوبة فتحسّن في المستشفى بعد عناية مشددة وعاد إلى البيت.
بعد تعرّف ابنته هاديا إلى طبيب بارع من أقاربهما هو الدكتور ربيع عازار طلبت من الدكتور نصر الله نسخة عن ملفي، وشاورت الدكتور عازار فيه، قال لها بعد اطلاعه على الملف إذا التزم بتوجيهاتي فيمكن إحياؤه سبع سنوات تقريباً. فزاره إلى البيت، وتفحّص الملف وقبل التحدي بمواجهة الحالة الصعبة والتي كان ميؤوساً منها تقريباً. خيّره قريبه بين أن يبقى في عناية المستشفى الدائمة وبين أن يأتي بمختصة رعاية صحية لتشرف على نظامه الغذائي وضغطه وتفحص السكر وغيره باستمرار وتشرف على كل ما يحفظ صحته وتضبط ما يشكل خطراً عليها. وافق منصور باستقدام مختصة رعاية إلى البيت. فعرّفه إلى شركة تؤمن هؤلاء المساعدات الصحيات، فأتى بمساعدة صحية لفترة، لكنها لم تستمر. وأتت المساعدة الثانية وهربت. والثالثة كذلك لم تصمد. فطلبنا من الشركة تأمين مساعدة بديلة. فأرسلت لي خبيرة في العناية الصحية. تابعت معنا شهراً. بعد هذه الفترة فسألها هل يمكن أن تستمرّي معه بوظيفة على حسابه. فلم تمانع فاتفق معها من دون علاقة الشركة. وهكذا منذ العام 2007 تعرّفت إلى المساعدة الصحية هيام شهيب وما زالت تتابع رعايتها له صحياً ملازمة له في البيت، وفي أي مشوار قد أذهبه خارج البيت لتشرف على كل ما يأكله وكل ما يشربه وكل ما قد يقوم به، فتفحص السكر والضغط يومياً قبل الأكل، وحيث تدعو الحاجة، وتهتمّ بدوائه ومواعيده مع الأطباء وغيرهم. في ذلك العام نقل ملفه العلاجي إلى مستشفى أوتيل ديو، فقرر الدكتور ربيع عازار زرع بطارية وقام بالعملية الدكتور سيمون أبو جودة. فنجح الزرع. وكانت أول بطارية يزرعها لدعم قلبه الوفي في حياته. وفاء بوفاء. لكن المفاجأة أن القلب لبى ولم يحتج البطارية. لكنها فرغت من الطاقة.
واجه في العام 2013 أزمة صحية خلال الصيف، شكلت خطراً حقيقياً على حياته، وصارت مناعته أقل قدرة على المواجهة والدفاع، أقعدته شهوراً عن العمل والكتابة والمتابعة ولزم المستشفى لاستبدال البطارية الفارغة ببطارية حديثة ومشحونة ومن ثم عاد إلى البيت بعدها. فزادت شدة الرقابة وحدة إجراءات الوقاية بحيث يبدو المرء وكأنه في سجن حقيقي، لولا الرغبة في إنجاز ما يستطيع إنجازه قبل الرحيل. ومنها كتابة هذه المسيرة لتكون بين أيدي الأجيال. لولا هذا لقال إنه يتوق للهروب من سجنه القسري ولو بنفق يحفره بأسنانه لو أنها ما زالت قيد العمل!!!