الأستاذة فاطمة علي شحوري
لا يخفى على روّاد الشّعر العربيّ، من قارئين وباحثين ومختصّين، أنّ القصيدة العربيّة لم تنكفئ عن مشاريعها الالتزاميّة وتوليفاتها الغائيّة، وقد التصقَت أشدّ ما يكون الالتصاق بأنساق المجتمع الثّقافيّة المُعلَنة والمُضمَرة، حتّى بتْنَا نخالها لسان الصّمت الّذي ينطق بالتّصريح والتّأويل بما كان مُضبَّبًا غائرًا ومخفيًّا متنكّرًا، أو وجهَ الحياة الهادئ والصّاخب، المتّزن والفوضويّ، المُهتدي والضّالّ… وما فتئت حركاتٌ ومساراتٌ ورؤًى مختلفةٌ تتناوب على إنتاج هذه القصيدة وإخراجها ممهورةً بشخصيّة صاحبها ومجتمعها؛ فإذا بنا نقف إزاء قصيدةٍ حماسيّةٍ أو ملحميّةٍ أو غزليّةٍ أو هجائيّةٍ تُبنى على الحطّ من شأن المَهْجوّ وتعويم رذائله ومثالبه، ورسمه رسمًا كاريكاتوريًّا هزليًّا يعكس ظلال الرّفض والنّفور من حقيقته التّكوينيّة، أو من مسلكه الاجتماعيّ أو السّياسيّ أو الفكريّ، ما يُدخله ضمن دائرة التّنمّر الشّعبيّ والجماهيريّ، ويحوّله وعاءً قد يتقيّؤون فيه عوالقهم النّفسيّة الهجينة وقد يطفّحونه بنفاياته الخُلُقيّة المنهجيّة، لعلّهم يُخفّفون بذلك جسد المجتمع من كلّ شواذٍ وانحرافٍ. فهل تقصّد شعراء القصيدة الهجائيّة بتنمّرهم وسخريتهم من الآخر تكريس رؤاهم الإصلاحيّة أو أنّهم وقعوا بين براثن مخلّفاتهم النّفسيّة وعقدهم الكامنة؟
إنّ اختبارًا فاحصًا لشعرنا العربيّ ورصدًا دقيقًا لظاهرة التّنمّر في هجائيّاته من شأنه أن يضعَنا أمام عددٍ من الشّعراء الّذين وظّفوا قصائدهم في خدمة المشروع الإصلاحيّ المجتمعيّ، ووسيلةً ناجعةً من وسائل النّقد، ومطيّةً لثورتهم واحتجاجهم على تضييع أمور النّاس وهوان أحوالهم. فها هو الشّاعر “أبو الشّمقمق” يلجأ إلى التّنمّر والسّخرية من أحواله المعيشيّة عارضًا صورة الفقر الّذي كان ينهشه والعوز الّذي يلتهمه، وغايته في ذلك بثّ الشّكوى وإظهار البؤس وألوان الشّقاء والهوان. ولئن جاء القالَب الّذي صدّر به شعره هزليًّا ساخرًا، فإنّ فحواه كان يرشح مرارةً وشجًى، ولئن وافقت طريقته طريقة أهل الفكاهة والتّسلية، فإنّها نجحت في تخريج المشهد المأسويّ للعامّة، وأَرسَت أحلامًا تتجلّى في نظامٍ آخر للعيش، ورغبةً في تحسين الأحوال والوصول إلى الرّياش الّذي هو حقٌّ مشروعٌ لكلّ فردٍ من أفراد المجتمع، واتّجاهٌ قويمٌ في كلّ الخرائط الإصلاحيّة. يقول “أبو الشّمقمق” هازئًا ساخرًا من فقره:
ولقَد قُــــــلْتُ حــينَ أَقْفــَرَ بَيتــــــي من جــــرابِ الدّقيق والفُـــخَاره
ولَقَد كانَ آهـــلًا غَـير قــَفْــــــــــــــرٍ مُخْصِبًا، خَـيرُه كثيرُ العِــــمَاره
فَأَرى الفَــأرَ قَــــدْ تَجَنّــــــــبْنَ بيتي عائـــــذاتٍ منهُ بِــــدَارِ الإمـــــاره
وَدَعـــا بالرّحــــــيلِ ذبـَّــــــانُ بيتـي بين مَقصـوصةٍ إلى طَـــــــــيّاره
وأقامَ السّنّورُ في البيتِ حَــــــــولًا ما يرى في جوانب البيتِ فاره
يُنغضُ الرّأسَ مِنْهُ من شدّةِ الجو عِ وَعَيـــــــــْشٌ فيهِ أذىً ومَـراره.[1]
لقد هجرت الحيوانات والحشراتُ هجرةً جماعيّةً من بيته، إذ لا مأكل ولا مشرب لها فيه؛ فالفئران تتجنّبه هاربةً عائذةً بقصر الإمارة – في إشارةٍ إلى الحاكم المنعّم – والسّنانير تعتزله جوعًا وفاقةً.
ومن صور النّقد الاجتماعيّ السّاخر الّتي تستبطن التّفاوت والشّرخ الطبقيّ والانفصام الماديّ – وربّما النّفسيّ – بين هذا الشّاعر وبين أبناء جِلدته، وَصفه مطيّتَهُ المتمثّلة في رجليه. ففي حين يرحل القوم على مطاياهم، يرحل هو على رجليه، وحين يقرّبون هذه المطايا، يقرّب هو نعليه مُحقّقًا بذلك جهوزيّته الداّئمة للرّحيل لامتلاكه أدواته المباشرة، فيقول:
أَتَرَاني أرى مِنَ الدّهرِ يومًا ليَ فيهِ مَـــطيّةٌ غير رِجـلي
كلّما كُنتُ في جميعٍ فقالوا: قرّبـــوا للــرّحيلِ قرّبْتُ نَـعلي
حيثُما كنتُ لا أخلّفُ رحــلًا مَن رآني فقد رآني ورَحلي.[2]
وهذا الشّاعر “الجزّار” يُحيلُ غزله إلى رغيف الخبز، فيسقط عليه سيميائيّات الجمال والاشتهاء كاشفًا عن حالة التّقشّف الّتي يعيشها مع شريحةٍ واسعةٍ من أبناء مجتمعه، ومُميطًا اللّثامَ عن الواقع المزري الّذي أرخى كلاكله على أعناقهم، ومعرّيًّا زمنه بكلّ ما فيه من ظلمٍ وإجحافٍ، ومبيّنًا عمق الهوّة السّاحقة بينهم وبين الطّبقة الأرستقراطيّة الباذخة والمُترَفة، وذلك بأسلوبٍ تهكميّ لاذعٍ يقترب في هدفه من الرّثاء والتّفجّع على النّفس. فأيّ عصرٍ ذاك الّذي دفع شاعره إلى إقامة مراسم استقبالٍ لرغيف الخبز؟! وأيّ نوعٍ من الحقوق تلك الّتي تعرّضت للهدر؟! إنّها الحقوق الغريزيّة الدّاعية إلى البقاء، وليست الكماليّات المنعشة والمستحبّات الدّاعمة لفنيّة الحياة. يقول الشّاعر”أبو الحسين الجزّار”:
قسَمًــــــا بِلَوحِ الخُــــــبزِ عند خروجه مِن فُــــرنِهِ، ولهُ الغـــداةَ بُخــــارُ
ورغائـــــفٌ منه تَـــــــــروقُكَ وهْي في سُحُـــب الثّقـــالِ كأنّها أقمـــــــــارُ
من كلّ مصقول السّوالفِ أحمر ال خدّيْنِ للشّــــونيزِ فيه عــــــــــذارُ
فكـــأنّ بَــــاطنَهُ بِكفّــــكَ درهـــــــــــــــــــــمٌ وكأنّ ظـــاهر لونـــــه ديـــــــــــنارُ
كـــالفضّةِ البيضاءِ لكــــــــــن تَغْتَــدي ذَهَــــــبًا إذا قَـــــــويَت عليهِ النّارُ[3].
ولا يقف هؤلاء الشّعراء عند نقدهم الاجتماعيّ السّاخر، بل ينتقدون أصحاب النّفوذ السّياسيّ الّذين يمتلكون مفاتيح أبواب التّغيير والإصلاح، المسؤولين عن سير المجتمع نحو تكامله المادّيّ والنّفسيّ والقيميّ، المقصودين في تدبير شؤون النّاس وتأمين متطلّباتهم. فعندما يتلكّأ هؤلاء في تأدية مهامّهم ويتقاعسون عن أداء دورهم الوظيفيّ، وعندما يغلب طيشهم وقلّة حصافتهم، لا بدّ من أن يُجلدوا بسياط شعراء السّخرية، ولعلّ الوزير “الخاقانيّ” خير نموذجٍ يمكن أن يُعرض في هذا الباب؛ إذ يُروى أنّه كان سيّئ السّيرة والتّدبير، كثير التّولية والعَزْل، قيل إنّه ولّى في يومٍ واحدٍ تسعة عشر ناظرًا على الكوفة، وأخذ من كلّ واحدٍ منهم رشوةً؛ لذلك قال فيه أحدهم:
لــلدّواوين مُنْذُ وُلّيتَ عَـــــــويلُ ولِمالِ الخراجِ سُقْمٌ طويـــلُ
يَتلقّى الخـــــطوبَ حينَ أَلَمّت مِنْكَ رأيٌ غثٌّ وعَقلٌ ضئيلُ
إنْ سَمِنْتُم مِنَ الخيانةِ والجَو عِ فللإِرْتفاعِ جِسمٌ نَحيــــــــلُ[4].
إنّ دواوين الدّولة وأموالها تبكي على حالها حُزنًا وَكَمَدًا، وأموال الخراج أُصيبت بمرضٍ شديدٍ، ونحل جسمها لسَفَه رأيه وعدم أمانته وظلمه. كما أنكر الشّعراء مجون السّلاطين ولهوهم، ومن ذلك قول “ابن تغري” في السّلطان “حسن” والسّخرية من حبّه النّساءَ وشغفه بهنّ:
لمّــا أتـــى للعــــادياتِ وزُلـــزلــــــــــت حَفــــظَ النّساءَ وما قَــــرَا الواقعـــــــــهْ
فلأجلِ ذاكَ المَلْكُ أضحى لم يكُن وَأتى القــــتالَ وفُصّــــــــلت بالقارعـــهْ
لو عامَـــلَ الرّحمن فَـــازَ بِكَهفِــــه وبِنَصــــــره في عَصـــره في السّابعهْ
مَنْ كانَتِ القيناتُ مِنْ أحزابِـــــــــه عَطعـــــــــــــط بهِ الدّخــان نــارًا لامعــه
تبّت يدا من لا يَخافُ من الدّعا في اللّيلِ إذ يغشى يَقَع في النّازعهْ[5].
لقد استعانَ الشّاعر بالسّور القرآنيّة ووظّفها في سبيل سخريته من السّلطان، فبدا هذا الأخير حافظًا لسورة النّساء ناسيًا لسورة الواقعة كنايةً عن شغفه بالنّساء وولعه بهنَّ ناسيًا آخرته، ومتغاضيًا عن العمل لأجل الفوز بالآخرة. وتبدو سخرية الشّاعر واضحةً في البيت الرّابع إذ جعل القينات من جيشه وحشده العسكريّ القائم بأمر دولته، وهو ما أودى بها إلى الإخفاق والخراب، وكان السّبب عينه الّذي استدعى من الشّاعر الدّعاء عليه وطلب الهلاك له.
وفي المقلب الآخر نعثر على عددٍ من الشّعراء الّذين اعتمدوا التّنمّر في شعرهم لكونه حاجةً نفسيّةً عملت على تشكيلها مجموعةٌ من العناصر النّفسيّة الّتي خلّفتها المكوّنات الوراثيّة والتّكوينيّة، أو الظّروف الحياتيّة القاهرة والتّحوّلات المستجدّة. فلقد حفلت به نصوصهم في محاولةٍ لتحويل الألم والكبت إلى نوعٍ من التّعبير الّذي يُخفّف من وطأة اليأس والحرمان، مثل “ابن الرّوميّ” الّذي كابَدَ خطوبًا فادحةً رَمَتْ به في لُجّةِ التّشاؤم واليأس، بعد أن كان طالبًا للحياة ساعيًا خلف آمالها، غير أنّه لم يجدها ولم يجد من البشر إلّا سخريةً واستهزاءً، فما كان منه إلّا أن أخذ يُمارس السّخرية انتقامًا اجتماعيًّا وعقوبةً تنزل بمن يستهين بشعره وبشخصه، وبمن يحرمه العطايا في الوقت الّذي يمنح غيره إيّاها. إنّه يسخر من هؤلاء سخريةً شديدة الوطأة؛ إذ يسلب منهم جميع الصّفات الحميدة، ويسند إليهم كلّ المعايب والرّذائل، ولا يقتصر في هجائه السّاخر على الخصال الخُلُقيّة، بل يتعدّاها إلى الصّفات الجسمانيّة الخَلقيّة، ويُقارن بين مهجوّه والكلب مُفضّلًا هذا الأخير عليه. يقول:
يا سيّدًا لـم تَــــــزلْ فَـــروعٌ مِــــن رأيــــه تحتها أصـــولُ
أَمِثلُ عَمْروٍ يسـومُ مثــــلي خَــــسفًا وأيّــــامه تَطـــــــــولُ
أَمِثلُ عَمْروٍ يُهيـنُ مثــــــلي عَمدًا ولا تُنْتَضى النّصولُ؟!
وجهُكَ يا عَمْرو فيه طولُ وفي وجوهِ الكــــــلابِ طـولُ
مَقـــــابحُ الكلبِ فيكَ طُــــــرَّا يَــــــزولُ عَنْها ولا تَـــــــزولُ
وفيه أشياء صالحــــــــــاتٌ حَماكها الـلّه والرّســــــــــــولُ
والكلـــبُ وافٍ وفيك غَـــــدرٌ ففــــيك عَن قَـــدرِهِ سفـــــولُ
وقد يُحامي عن المواشي ومَا تُحـــــــــــامي ولا تَصولُ
وأنت من أهلِ بيتِ ســـــوءٍ قِصّتُهـــم قِصَّــةٌ تَطـــــــــــولُ
وجُوهُــهم للورى عِـــــــظاتٌ لكــــــنَّ أَقْـــفَاءهم طـُـــــــبولُ[6].
يرى الشّاعر أنّ إهانة “عمرو” له أمرٌ عظيمٌ يستوجب سلّ السّيوف؛ لأنّه لا يمكن أن يُدانيه أو يُشبهه، فـكفّة “عمرو” لا يمكن أن ترجح على كفّة ابن الرّوميّ الشّاعر الذّائع الصّيت؛ وإن كان سيّدًا فهو سيّدٌ صوريٌّ لا يستقلّ برأيه ولا بقراره، وهو لا يمتلك صفات السّيادة والحاكميّة. إنّه يشبه الكلب خَلقًا ويقلّ عنه خُلُقًا؛ فبينما لا وفاء فيه ولا شجاعة ولا همّة، فإنَّ الكلب وفيٌّ وشجاعٌ وصالحٌ. ولا يكتفي الشّاعر بـ”عمروٍ”، بل يتعدّاه إلى أهله، فينال منهم بسخريته الحادّة المُقذعة عابثًا بهم عَبَث أصحاب الصّور الكاريكاتوريّة.
أمّا الشّاعر “ابن لنكك”، فَيسخر من واقعه المأسويّ الممتزج بالألم والإحباط، ويُعبّر عن عدم توافقه مع أبناء مجتمعه، وعن شعوره بالغربة والنّفي بينهم. فمن كان يمتلك نظرةً ثاقبةً ويقفُ عند النّاسِ ليحلّل مواقفهم ويصنّفهم، لا يُمكن أن يتجانس معهم تجانسًا يزيل قلقه وانزعاجه؛ لأنّ الارتقاء الفكريّ يخلق شعورًا بالغربة والانفصام، وإن لم يُصرَّح به مباشرةً، بَيْد أنّه يمكننا أن نستشفّه من خلال السّطور، ومن خلال بعض المفردات الّتي توضح أنّ الشّاعر تجاوز المظاهر ونظرة النّاس العامّة، وبنى له نظرةً خاصّةً، فيقول:
لا تَخْدَعَنْكَ اللّحى ولا الصّورُ تِسْعةُ أَعشارِ مَنْ تَرى بَقَرُ
تَراهُم كالســــّحابِ مُنتــــــــــشرًا ولَيسَ فيهِ لطــالبٍ مَطَـــــــرُ
في شَجَرِ السّروِ منهم مَثَـلٌ لهُ رَوَاءٌ ومــا لَــهُ ثَمَـــــــــــرُ[7].
وفي هذا الباب يذكر “أبو الفرج الأصفهانيّ” قصّةً غنيّةً بعناصر الإضحاك مترافقةً بحركاتٍ هازئةٍ، وفيها أنّ رجلًا قال: “رأيْتُ “العتابيّ” يأكلُ خبزًا في الطّريق بباب الشّام، فقلت له: ويحك، أما تستحي؟ فقال لي: أرأيْتَ لو كنّا في دارٍ فيها بقرُ، كنت تستحي وتحتشم أن تراك؟ فقلت: لا. قال: فاصبر حتّى أُعلمك أنّهم بَقر. فقامَ فَوَعَظَ وقصّ ودعا حتّى كثر الزّحام عليه، ثمّ قال لهم: روى لنا غيرُ واحدٍ أنّ من بلغَ لسانُه أرنَبَةَ أنفه لم يدخلِ النّار، فما بقيَ أحدٌ إلّا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدُرُهُ حتّى يبلغها. فلمّا تفرّقوا قال لي: ألم أُخبرك أنّهم بقرٌ؟!”[8].
ومن الشّعراء الّذين انتَحوا السّخرية والتنّمّر مسلكًا تعويضيًّا، ومُتَنفّسًا يُعيدُ التّوازن والصّحّة النّفسيّة، الشّاعر “أبو دُلامة” الّذي كان واحدًا من المهمّشين اجتماعيًّا، عانى التّحقير والطّرد والتّشرّد، لأنّه حبشيٌّ أسود اللّون، كريه المنظر كما يذكرُ هو نفسه في كثيرٍ من أشعاره؛ فقد وكان والده عبدًا لرجلٍ من بني أسد في الكوفة. هذه السّيرة جَعلت شاعرنا يسلك طريق السّكر والمجون والزّندقة والهجاء، ليشفي كَدَره، وليعبّر عن تراكماته النّفسيّة، وعن نظرته المشوّهة لكلّ من حولَه؛ فهو لا يرى إلّا قُبحًا وسوءًا، ولا يتورّع عن إسقاط أهل بيته في مستنقع هجائه السّاخر الجارح، عسى ذلك أن يخرجه من الهامش إلى المركز، ويحجز له مكانًا عند الجمهور، وكَسبًا وحظوةً عند الخليفة. فها هو يرسم صورةً مُشوّهة الملامح لأمّ عياله، ويرسلها إلى زوجة الخليفة، ويأخذ ثمنها مبلغًا من المال وجارية، فيقول:
ليـــــسَ في بَيــــــتي لتــــــــمهـيـ ــدِ فراشــــي مِنْ قَـــــــــــــــــــعيده
غيْـــرَ عَجْــــفــــاءَ عَـــــــــــــجوزٍ ســـــــاقُها مثـــــلُ القَــــــــــــــديـده
وجـــــــــــهها أقْبَـــــــــــــــحُ مَــــــن حَــــوَتْ طَــــــريّ في عَصـــيده[9].
وسعى “أبو دلامة” إلى استكمال صورته القبيحة الّتي رسمها لزوجته، فأتى على علاقتها بأولادها، وغيّر في عواطفها تجاههم، فجعلها فظّةً قاسيةً تأكل نصيبها ونصيبَ زوجها من الطّعام، وهذا كلّه يُضافُ إلى قبح هيئتها. يقولُ:
لا بَــــــارَكَ اللهُ فيها من مُنبـّهـــــــةٍ هَبَتْ تَلومُ عيالي بعدما هَجَـــعــــوا
ونَحْنُ مُشْتَبِهُو الألوانِ أَوْجُهُــــنا سُودٌ قِبَـــاحٌ وفي أَسْمائنا شَنَــــــعُ
وما زِلْتُ أُخلصُها كَسْبي فتأكله دوني ودونَ عـــــيالي ثمَّ تضــــطجعُ
شوهاءُ مَشنأةٌ في بَطــــنها ثَــجَلٌ وفي المفاصلِ من أوصالها فَـــــــدَعُ[10].
في موقفٍ مبتذلٍ جمع “أبو دلامة” في زوجته الشّرّ والقبحَ وسوء الخلق، وبالغ في ذلك لمعرفته أنّه إذا ما شرح صدر الخليفة وأراحه، فسيأمر له بالأموال والهبات متغاضيًا عن كمّيّة الأذى الّتي ألحقها بها وبعياله، وعن تأسيسه لنظرة الخلق الدّونيّة لها ولعائلته ولشخصه. وبذلك فهو يُماثل الشّاعر “دعبل الخزاعيّ” الّذي يخرّج للملأ أشنع صورةٍ عن زوجته، فيُبديها كبيرة الفم، عابسةً، تُصيب بالعين، مُرتفعة الأنف، طويلة العينين، ضخمة الشّفة، كأنّها قُطعت من مشفر الفيل، أسنانها متراكبةٌ بعضها فوق بعضٍ، يقول:
فوهاءُ شَوْهاءُ يُبدي الكيدَ مضحكُها قَنْـــوَاءُ بالعَـــرْضِ، والعينانِ بالطّولِ
لهــــــــــا فــــــــــمٌ ملتقى شِدقيْهِ نُقرَتُها كــــــأنّ مِشْفَرها قَــــدْ طُـــــرَّ من فيــــلِ
أسنـــــانُها أضعفت في خَلقها عددا مظــــــهّرات جمــــيعًا بالـــــــــرّواويــــــــلِ[11]
ويبدو أنّ “أبا دلامة” أفرز له مساحةً واسعةً في هذا الباب، فهو يتطرّق إلى السّخريّة والتّنمّر على أمّه، ولا يتورّع عن النّيل منها وسلبها قيمتها الإنسانيّة، وتصويرها كالخشبة الّتي تُنشر فوقها الثّياب، وقد فقدت نبض الحياة وأصبحت هامدةً، ثمّ تصويرها كغولٍ مرعبٍ، وكأنّه بذلك ينتقم من أصل ولادته ونشأته، ويحمّلها مسؤوليّة قبحه؛ لأنّ قبحه ممتدٌّ منها وموروثٌ، وهو لم يصادف في مسيرته الحياتيّة عناصر جماليّة تخفّف من عبء قبحه، بلْ على العكس فإنّ الطّريق حمّله إضافاتٍ قبيحةٍ أكثر، وهذه الإضافات تتمثّل في زوجته وعياله. يقول:
هاتيك والدتي عـــــــــــجوزٌ همّةٌ مثل البليّة درعها في المشجبِ
مهزولة اللّحيين من يَرَها يَقلْ أبْصَرْتُ غولاً وخـــــــيالَ القُــطربِ[12].
إذًا، تُعدّ السّخرية في وجهٍ من وجوهها درجةً متقدّمةً من الوعي، ومعرفةً عميقةً بالمحيط الخارجيّ، وموقفًا صداميًّا مع الرّتابة العقليّة، ومحاولةً تفكيكيّةً لمنظومة العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة القائمة على الإجحاف والتّعدّي؛ فالصّدام بين شعراء السّخرية ومجتمعاتهم وصل إلى حدّ الثّورة أحيانًا. وفي الوقت عينه تبقى السّخرية محاولة وعيٍ لاكتشاف الذّات وصراعاتها المعقّدة، لتفريغها من ترسّبّات المكتسب الحياتيّ، وتمزيق الألم النّاجم منها، وتبقى وسيلةً من وسائل مواجهة الماضي والتّحرّر منه، وتفوّقًا للشّعور الفرديّ بالغربة والانفصال عن الآخرين، وقد يهرب بها صاحبها من الألم إلى الضّحك رغبةً في الصّحة والتّوازن النّفسيّين ولو مؤقّتًا. ولا يُمكننا أن نحصرَ دوافع السّخرية بما أسلفناهُ، لأنّها في أحيانٍ كثيرةٍ جاءت بهدف التّسلية فحسب.
الحواشي:
[1] – أبو الشّمقمق، ديوانه، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1، 1995، ص 52-53.
[2] – أبو الشّمقمق، ديوانه، ص 80.
[3] – أبو الحسين الجزّار، ديوانه، تحقيق د. حسين عبد العال اللّهيبي، أطروحة دكتوراه، كلّيّة التّربية، ابن رشد/ جامعة بغداد، 2006، ص 121.
[4] – ابن الطّقطقي، الفخري في الآداب السّلطانيّة والدّول الإسلاميّة، راجعه ونقّحه محمّد عوض إبراهيم بك، وعلي الجارم بك، مصر، دار المعارف، لا ط، 1945، ص 240.
[5] – ابن تغري بردي، النّجوم الزّاهرة في أخبار مصر والقاهرة، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصريّة، ط1، 1953، ص 316.
[6] – ابن الرّوميّ، ديوانه، مج 5، بيروت، دار الجيل، ط1، 1998، ص 369- 370.
[7] – الثّعالبي، يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر، تحقيق محمّد محيي الدّين عبد الحميد، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1، 1985، ص 350.
[8]– الأغاني، أبو الفرج الأصفهانيّ، مج 5، بيروت، دار الثّقافة، ط6، ص12.
[9] – زنْد بن الجون “أبو دلامة”، ديوانه، شرح وتحقيق إميل يعقوب، بيروت، دار الجيل، 1994، ص 48.
[10] – أبو دلامة، ديوانه، ص 79، 80.
[11] – دعبل الخزاعيّ، ديوانه، بيروت، دار الثّقافة، ط1، 1962، ص115.
[12]– أبو دلامة، ديوانه، ص33.