د. حامد الحمود
لكل كتاب قصة وراء تأليفه، وقصة هذا الكتاب «دين العقل وفقه الواقع – مناظرات مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي» تتضح من رسالتين موجودتين آخر الكتاب بين الفقيه البغدادي والدكتور عبدالحسين شعبان يبوح فيهما الأول بفرحه وإعجابه بما قرأه من مقالات نشرها د. عبدالحسين في صحيفة الزمان عن جده محمد الحسني البغدادي تحت عنوان «الإمام محمد الحسني البغدادي – مقاربات في سوسيولوجيا الدين والتدين»، والتي تحولت إلى كتاب نشر بالعنوان نفسه في 2018.
وفي هذا الخطاب يقول البغدادي الحفيد عن شعبان «إن ما قدمه شعبان من مؤلفات معرفية ناضجة، وما قرأت له من كتب وأبحاث ودراسات، وما سمعت له من محاضرات، وجدته يتدفق كالسيل ليشبع ساحة الفكر بحثاً وتدقيقاً». وكان المؤلف الدكتور شعبان قد اقترب أكثر من الحفيد أحمد الحسني البغدادي لمساعدته في تأليف الكتاب عن جده محمد الحسني البغدادي، حيث يذكر المؤلف أنه في كتابه «الإمام الحسني البغدادي – مقاربات في سوسيولوجيا الدين والتدين» كان الحفيد أحمد «المنطلق والمحفز والمرجع في تدقيق الكثير مما كتبه عن جده، سواء في المعطيات أو الاستنتاجات، وفي الاختلافات والاتفاقات».
ولكن لماذا يؤلف الدكتور شعبان كتاباً عن الجد، وآخر عن الحفيد، خلال خمس سنين؟ وبرأيي أن ذلك لأنه يبحث عن شخصيات دينية شيعية لها جذور وطنية عراقية عروبية، يتمكن من الحوار معها حول أصول الدين والفقه في خضم هذا المد الطائفي الذي اجتاح العراق منذ 2003. فيقول شعبان «أعرف العائلة حق المعرفة، وسبق لي أن زرت منزلهم في النجف لأكثر من مرة منذ أواخر الخمسينيات، وأعرف حياتهم البسيطة والمتواضعة والأبية الكريمة.
أقدر تماماً إعراض جده وهو من بعده عن الكثير من المغريات التي وضعت أمامه وحاولت استدراجه، لكنه أدار لها ظهره، والبغدادي الحفيد هو الآخر غير مستعد للتنازل قيد أنملة عن خطه الوطني والعروبي والإنساني». ويضيف الدكتور شعبان عن الحفيد أحمد «أستطيع القول إن السيد البغدادي متصالح مع نفسه – أخطأ أو أصاب – لأنه مقتنع بما يقوم به، حتى وإن كان عكس التيار السائد».
ويبدو أن الدكتور شعبان وهو المتخصص في القانون من جامعتي بغداد وبراغ اختار رجل دين ينسجم معه، ومن خلال حوار الاثنين تتضح فكرة كتابه «دين العقل وفقه الواقع». فضرورات الواقع السياسي العراقي وبروز الأحزاب الطائفية والشيعية خاصة وهيمنتها على المجال السياسي العراقي وإحباطات المؤلف من عدم بروز تيار علماني معتدل في العراق جعلته يبحث عميقاً في الدين، مسترشداً بقول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز «إن أي إصلاح مفتاحه الفكر الديني». فالكتاب عبارة عن محاولة لإصلاح المجال السياسي عن طريق إصلاح المجال الديني بإضفاء صفة العقل والعقلانية عليه. فالدكتور شعبان قلق من «أن الخطاب الديني يؤثر في القلب قبل العقل أحياناً… وقد يذهب إلى النقيض عندما يعتقد أن التعاليم الدينية تمتلك الحقيقة كاملة، فيتجه إلى التطرف والعنف».
وبالنسبة للدكتور شعبان، فإن أي أيدولوجية دينية أو علمانية تحتاج إلى إعادة تقييم وإعادة فهم عبر الزمن، فالحاضر كفيل بأن يكشف ما لا يستطيع الماضي أن يكشفه. وقد كان الدكتور شعبان الماركسي قد بدأ بنقده للفكر الماركسي قبل انتقاده للفكر الديني. فقد نشر كتابه «تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف» عام 2009، والذي ذكر فيه: «يمكن اعتباري في تناقض شديد مع الماركسية، إذا أخذتها بمعناها إرثاً، إذ ستكون الماركسية بحسب وجهة النظر هذه مجموعة تعاليم أقرب إلى الأدعية والتعاويذ، لا يمكن الاقتراب منها إلا بالتسبيح والتبجيل. وبالتالي، فإن نقدها أو إعادة النظر في بعض جوانبها بما تجاوزته الحياة يعتبر من وجهة نظر البعض ارتداداً أو تخلياً أو انحرافاً».
فهناك ضرورة للتكيف الفكري ومواكبة المستجدات، والفقيه المدرك لهذه الحقيقة سيكون أكثر تمكناً للعب دور مجتمعي إصلاحي، كما أن الماركسي الأكثر جرأة على نقد التجربة السوفيتية أكثر استعداداً للتصالح مع نفسه، وأكثر قدرة على الاستفادة من التجربة الأوروبية الغربية التي تمكنت من دمج عناصر الرأسمالية المحفزة على الإنتاج مع ضرورات توفير التعليم والعناية الصحية لجميع أفراد الشعب. ويوضح شعبان أن ماركس نفسه لم يكن يثق بالحقيقة، وإنما كان يثق بالتوصل إليها، فالحقيقة التي لا طريق لها لن تكون سوى نوع من الوهم المتاح لكل من لا يعرف طريقه.
والكتاب الذي أمامنا «دين العقل وفقه الواقع» يتكون من قسمين رئيسيين، الأول هو الإطار المنهجي والمفهومي الذي يسبق القسم الثاني المكرس لمحاور المناظرات بين الدكتور شعبان والسيد أحمد الحسني البغدادي. ويتكون القسم الأول من نقاش مستفيض حول:
(1) الحداثة والتقليد.
(2) الوعي بالتاريخ والاجتهاد بالإسلام.
(3) الإسلام والحداثة.
(4) الإصلاح والتجديد.
ففي «الحداثة والتقليد» يميز الكاتب بين الإيمان الذي يعني بأسبقية الوعي على الوجود والعلم الذي يعتمد تاريخ الوجود لفهم الوعي. ويؤكد أن هدف الدين هو إسعاد البشرية، لكن عندما ازدادت مظاهر التدين في العقود الخمسة الأخيرة، هل ازدادت السعادة؟ ولماذا ازداد الفقر بعد أن امتلأت المساجد؟ فهناك ثورة عاطفية تبذل جهوداً فيها لتمييز الصادق من المنافق، وهناك غياب في فهم حركة التاريخ. ويرى شعبان «أن الدين مقدس وعلوي وإلهي. لكن التدين منتج بشري لا قداسة له، والمشكلة ليست مع الدين وإنما مع التدين». ولا بد من الاعتراف بأن نقاش الفكر الديني أو أي فكر لا يهم إلا قلة من الناس، لكن هذه القلة هي القادرة على إحداث التغيير. وهذا لا يخص العرب أو المسلمين فقط، وإنما ظاهرة إنسانية يشترك بها كل البشر. فالفيلسوف إيمانويل كانت قال «إن معظم الناس يعيشون حياتهم برتابة عادية، وليس لهم أدنى حاجة إلى الفكر». هذا كان في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وبعد معاناة مع حروب دينية دامت أكثر من مئة عام. وإن كانت أوروبا انطلقت انطلاقة نهضوية بعد معاناة مع الصراع الديني، فهل سيحدث ذلك عندنا؟ ويتساءل المؤلف: هل يمكن التواؤم بين الديني كمنظومة وبين السياسي كمحرك قابل للائتلاف والاختلاف، وعلى أي قاعدة يمكن البناء؟ وما عوامل التلاقي والاختلاف؟ وماذا عن النص الديني المشكل لعقول وعواطف المسلمين؟ فهل يتجدد فهمه؟ وهل المسافة الزمنية بين نزول النص الديني والزمن الحالي تفرض إعادة فهم لهذا النص؟
فالتجربة العراقية توضح أن أغلبية رجال الدين مجاملون، ولا يريدون التخلي عن امتيازاتهم بسبب التصريح عن آرائهم المبطلة لبعض الممارسات الدينية، مثل تلك التي يلجأ إليها البعض ضمن طقوس عاشوراء. وبالتأكيد، فإنه لا الجد السيد محمد الحسني البغدادي، ولا الحفيد أحمد، هما من رجال الدين المجاملين على حساب الحقيقة.
وسنتحدث عن المناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي في الجزء الثاني.
هذا، وسيتحدث الدكتور عبدالحسين شعبان عن كتابه هذا في مقر الجمعية الثقافية النسائية بالخالدية الساعة السابعة والنصف من مساء الأحد 19 مارس بدعوة من القبس.
نشرت في جريدة القبس (الكويتية) في 15 آذار / مارس 2023.
مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي (2)
تضمّن كتاب «دين العقل وفقه الواقع» ثماني عشرة مناظرة بين الدكتور عبدالحسين شعبان والسيد أحمد الحسني البغدادي – ومع أهميتها – فإنه لن يكون هناك مجال للاطلاع على تفاصيلها، لذا سأكون انتقائياً، وأبدأ بالمناظرة التي كان موضوعها «مصادر التشريع والإجماع والشهرة».
فالتشريع الإسلامي – وربما أي تشريع – يعتمد على مجموعة قواعد مستقاة من نص شرعي أو اجتهاد فقهي. والاجتهاد يعتمد على خبرة المرجع الدينية واللغوية. لكن وفي معظم الأحيان يقوم الفقه التقليدي بتجميد الوقت. فالتفسيري الماضوي أكثر ثقة ومحبب لدى المدارس التقليدية، لكن السيد أحمد الحسني البغدادي ليس تقليدياً في هذا المجال، ويرى «أن الشريعة ليست مغلقة أمام الفعل الإنساني، ولا بد من استيعاب معمق لمقاصدها… فهي ليست طقوساً جوفاء أو ممارسات بلا روح، بل إن لها أهدافاً صائبة يفترض بها أن تنسجم مع مقاصد الشريعة». وفي هذا المجال، فإن للحسني البغدادي كتاباً بعنوان «التفسير المقاصدي: تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد». والمعروف أن أبو إسحق الشاطبي، المتوفى 790 هـ، هو الذي كان رائداً في تقديم علم المقاصد. وما قدمه في مجال التفسير المقاصدي اعتمد عليه محمد عابد الجابري كثيراً في تمييزه للمدرسة المغربية في كتابه «بنية العقل العربي».
ويشرح شعبان في مناظرته مع الحسني عن مصادر التشريع: «يرتبط فقه المقاصد بعملية استنباط الأحكام الشرعية عبر الواقع، وبالتالي فإنه فقه الواقع لأنه يستجيب لمتطلبات، آخذاً في الحسبان حياة البشر وغاياتهم ومثلهم العليا وقيمهم الإنسانية عبر تدبير شؤونهم بما ينسجم مع ذلك باستخدام العقل».
وأرى أن الفكر المقاصدي لا يمكن أن يأخذ حقه في المساحة الذهنية لدى طلاب الشريعة من دون اطلاع هؤلاء الطلاب على مجالات علمية أخرى. فطالب الشريعة سيتسع أفقه ويتنور تفكيره عندما تتسع دراساته إلى العلوم الاجتماعية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ. ففقه المقاصد يتطلب قاعدة علمية أوسع.
وفي هذا المجال، أود أن أشير إلى كتاب، نشره أخيراً الدكتور ساري حنفي ـ أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في بيروت – بدعم مادي من مركز نهوض في الكويت، بعنوان «علوم الشرع والعلوم الاجتماعية: نحو تجاوز القطيعة». فاجتهادات طلاب الشريعة الذين درسوا العلوم الاجتماعية ستكون مختلفة عن اجتهادات من اقتصرت دراستهم على علوم القرآن والحديث الشريف. فالدين وفقاً للسيد أحمد البغدادي «جاء بثورة رسالية انبعاثية تغييرية شاملة في مواكبة مسيرة الحراك المجتمعي الرافض لكل جمود ورجعية». ويضيف شعبان مقتبساً من كتاب البغدادي «التفسير المقاصدي» أن هناك جهوداً للمحافظة على فتاوى تقليدية خوفاً من اضطراب الثابت في علم الفقه.
وفي المناظرة عن «الدين بين المقدس والمدنس»، كان النقاش حول مدى تأثير الدين في المجتمع، وسأل شعبان الحسني عن رأيه في التقديس، الذي يحاول بعض المعممين اقتصاره على أنفسهم. وتساءل: ما الجهة المنظمة أو المؤسسة التي تمنح هذه الألقاب، ووفقاً لأي معيار؟ وشبه شعبان تهافت كثير من رجال الدين على هذه الألقاب بتهافت الكثيرين على الشهادات العلمية الجامعية بعد احتلال العراق. ويرى شعبان أن منح لقب «آية الله»، الذي يطمح إليه الكثير، هو من صنع رجال الدين أنفسهم. لكنه يؤكد عراقة مدرسة النجف في تأكيدها على حرية التفكير والبحث العلمي والاستقلالية، مقتبساً من محمد فاضل الجمالي، الذي درس في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة بعد أن درس في النجف، قوله: «انه لم يجد ما يضاهي مدرسة النجف من حرية واستقلالية، وفي ترسيخ المادة العلمية في ذهن الطالب، وتكوين شخصيته، وترك الأثر العميق في حياته».
وفي المناظرة حول «نقد مبدأ التقليد»، يشرح شعبان أن البعض يعدها من الثوابت، لكنه لم يجد لها أصلاً، لا في القرآن ولا في السنة النبوية. ويتساءل: ماذا سيكون موقف المقلد عندما تختلف المرجعية الدينية مع المرجعية السياسية؟ مشيراً إلى انقسام الآراء حول التقليد بين المقلدين للخوئي ومحمد باقر الصدر. هذا مع أن أغلبية فقهاء الشيعة يميلون إلى التقليد، وأهم من عارض التقليد منهم كانوا: علي شريعتي والمفكر العراقي عادل رؤوف والسيد أحمد الحسني البغدادي وآية الله محمد مهدي شمس الدين.
ولعل من أهم المناظرات بين شعبان والحسني كانت حول الطائفية والتمذهب، خصوصاً في العراق. ويفرق الاثنان بين الطائفة والطائفية. فالطائفة تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وفهم معين للدين. أما الطائفية، فتوجه سياسي يسعى إلى الحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة. ويستنكر الحسني البغدادي العودة للتاريخ لزرع عواطف الكراهية، وفي هذا المجال يصرح: «لا نريد العودة إلى اجتماع سقيفة بني ساعدة، ولكن لا بد من استلهام العبر وفتح الحوار على مصراعيه، وصولاً إلى التوافق في إطار سعي جاد وبحث مسؤول في المشتركات الإنسانية، وحيث لا يمكن الاتفاق على الماضي، فلندع ذلك للتاريخ والباحثين المتخصصين، ودعنا نتفق على الحاضر».
وينتقل النقاش إلى الوضع السياسي الراهن في العراق، وبالذات إلى تشكل الأحزاب الشيعية الطائفية، وهيمنتها على مفاصل الحكم في العراق بعد 2003. وإن كان هناك عقل باطن لهذه الأحزاب، فإنه كاد يصرح بأن العراق لا بد أن يحكم من الشيعة، ومن الشيعة فقط.
وفي هذا المجال، يرى الدكتور شعبان «أن مشكلة الحركة الدينية الشيعية في العراق أنها ترى أن مشكلة العراق الأساسية هي الطائفية.. إنما نرى أن المشكلة هي سوء الحكم وفساد الإدارة وانعدام سيادة القانون وضعف المواطنة». ومن خلال هذه المناظرة، يتفق الاثنان – شعبان والحسني – على أن مظاهر العزاء الشيعي، التي ظهرت بكثافة في السنوات الأخيرة، ليست لها علاقة بالتشيع.
فيرجع مرتضى المطهري، في كتابه «الجذب والدفع في شخصية الإمام علي»، مظاهر مثل التطبير والطبل إلى أنها عادات أتت من مسيحيي القوقاز، ويرجع علي شريعتي، في كتابه «التشيع العلوي والتشيع الصفوي»، هذه المظاهر إلى أن إسماعيل الصفوي (1501–1524) استحدث وزارة خاصة بالشعائر الدينية، وأرسل وزيرها إلى القوقاز للاطلاع على الشعائر الدينية المسيحية، فوجد فرقاً مسيحية تقوم بالتطبير إحياء لعذابات المسيح، فنقلها تجسيداً لمصيبة الحسين وآل بيته في عاشوراء.
وفي النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن السيد أحمد الحسني البغدادي كان من رجال الدين، الذين رفضوا التعاون مع سلطات الاحتلال. وكان رافضاً لتقسيم العراق الطائفي، الذي قرر له في واشنطن ولندن، فكان يرى نفسه عربياً عراقياً مسلماً ينتمي إلى المذهب الشيعي. واستنكف منذ البداية التوزيع الطائفي للغنائم. وكان يرى – كما يرى هوبز – أن كل إصلاح مفتاحه الفكر الديني.
لكن غنى هذا الكتاب «دين العقل وفقه الواقع: مناظرات مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي» لا يدرك إلا بقراءته. وتحدث الدكتور عبدالحسين شعبان عن الكتاب بنفسه الأحد الماضي في الجمعية الثقافية النسائية.
*نشرت في جريدة القبس (الكويتية) في 20 آذار / مارس 2023.