فاطمة حسين اسماعيل*
تصدَّعَ الجبل وتهشمَ رأسُهُ الشامِخ، وجسدُهُ الصلبُ
العصيُّ على الصِّعاب، استحالَ ممدداً على فراشِ الموتِ لا ينبس ببنتِ شفة، وهوَ من كانَ يضجُّ بالحياةِ بل كانَ الحياة بعينها، أملاً، عزيمةً، وإرادةً رغمَ سنواتِهِ الثلاث والثمانين.
حياةُ الحاج راضي شعشوع، رحمَهُ الله، عِبرةٌ لكلِّ معتبرٍ
فيعلمُ القاصي والداني مدَى صرامتِهِ، الجميع يهابُه، جدّي في العمل، مثابرٌ ومنضبطٌ وذلك سرّ من أسرارِ نجاحِه.
وفي حنايا شخصِهِ تتلمسُ حنانَهُ في بريقِ عينيهِ وفي ابتسامتِه الهادئةِ الصادقةِ بوجهِ كل مَن يلتقيه.
خيّرُ مسانِد لكلَّ من احتاجه.
كانَ لافِتاً وعلى الرُغمِ من تقدمهِ بالعمرِ تحلّيهِ بروحِ الشباب وإنْ تخطَّى الثمانين لم تسر في يديهِ الدافئةِ اي ارتعاشةٍ ولو هادئة بل بقيَ صلباً.
لم يمكُث في المنزلِ كأقرانِهِ مِن كبار السن.
ظلَّ البِشْرُ يعلو وجهَهُ دائماً وبقيَتْ قسماتُ وجههِ مشرقة غيرَ منكمشة. خُطاهُ السريعةُ العجولةُ لم تتمهل.
في أعوامِهِ الأخيرةِ كان أبناؤه في مرمى كِبَر سنِّه، عانوا معَهُ، وكم حاولوا إقناعه أن يستريحَ من سنوات الشقاء والتعب والتضحية المنصرمة. هذه الحماسةُ لم تهدأ بل اصبَحَ أكثر إصراراً على العَمل… في محاولةٍ واعيةٍ او غير واعية منهُ للتمسُّكِ بحياةٍ تتغيرُ ملامحُها بلا هوادة.
كل ما أسلفته هوَ تحيةُ إجلالٍ وإكبارٍ لجيلٍ ذهبيّ لن يتكرر، متمثل بهذا الرجل العظيم الذي يُعتبرُ نمودجاً يقتدى بعصاميتِه، آدميته، صدقه، وقوته. ومثلِهِ من جيلهِ كُثُر، بل جلّهُم كذلك.
هذا الجيلُ الذي تجرَّع مرارِةَ الجوعِ والفقرِ والعَوز وعند اشتدادِ عودِه اعتمَد على نفسه. ونحتَ في الصَّخرِ ليعيشَ عيشةً كريمة… ولم يَعْزه شيءٌ لظروفِ معيشتِهِ الصعبة.
لزاماً علينا أن نذكر مآثرهم، فنتعلَّمَ ونتَّعِظ، نُذَكِّرَ أنفسَنا والأجيال القادمة أن الله لم يخلُقنا عبثاً ولم يجعل هذهِ الحياة فرصةً للَّهوِ والعبث ومناسبةً للذة والشهوة، ولكنه جعل الحياة ساحة للكدّ والتعب وحركة في خط المسؤولية، فلا مكان فيها للمتقاعسين.
نؤَّكدَ عليهم بأن هذه السنوات العِجاف التي نعيشُها، تحتاجُ لعزيمتهم، ومثابرتهم، وتثقيف أنفسهم، بالبحث والسؤال، والعلم والمعرفة، العمل والجهد.
وبأنه ومهما عصرتنا الظروف الحالية الخانقة والصَّعبة، وأحكمت الطوق في أعناقنا حدَّ الاختناق، فلا نتصور خلودها.
وأيّاً كان الواقعُ لا بد أن تكون لنا رسالتنا في هذه الحياة، في إغنائها بالحق، وهجران الشر والظلم فيها، وتحريكها نحو العدل، ومساعدة المحتاج، ومساندة الضعيف، وربط هذه السلوكيات الإنسانية كلها بالله.
وأن نعي تماماً أن معنى أن نعيش إنسانيتنا هو أن نعيش مسؤوليتنا في كل ما نعمله ونقوله.
ما يفرض علينا أن ندق ناقوس الخطر. لنتكاتف جميعاً وعلى كافة الأصعدة عائلياً، اجتماعياً، تربوياً، ونتحمّل مسؤولية توعية هذه الأجيال الهشّة، الاتكالية، غير القادرة على تحمّل أبسط مسؤوليات الحياة. علنا نحدث تغييراً.
فغدا هو يوم المساءلة عن نتائج هذه المسؤولية، يوم نقف بين يدي الله لينطلق نداء الآيت الكريمة :
(وقفوهم إنهم مسؤولون).
علَّنا نَحظى بفرصةِ خلق جيل فيه توليفة من الجيل القديم بإرادته، عزيمته، ونخوته، قوته وإصراره، بإيمانه وأخلاقياته، وتمسكه بمسؤولياته ، والجيل الحالي المزوّد بالتكنولوجيا والعلوم الحديثة بكافة اشكالها والتطور الحاصل على كل الصعد.
ولكم أن تتخيلوا معي هذه التوليفة والسيناريو للعصر الذي سيشهدونه.
*مربية ومدربة.