آمال وهدان*
ليس مصادفة أن تترافق ذكرى النكبة وجرائم التطهير العرقي في فلسطين مع الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل الشيخ حسن اللاوي، شيخ الأسرى الفلسطينيين وإمامهم الذي أمضى 42 سنة من عمره معزولاً في سجون الانتداب البريطاني أولاً ومن ثم في سجون الاحتلال الصهيوني . فجرائم التطهير العرقي التي كانت تتوارثها الذاكرة الفلسطينية في القرى التي دمرتها العصابات الصهيونية ومحتها عن وجه الأرض باتت مثبتة بالوثائق والشهادات الحية التفصيلية التي جاءت على لسان قادتها الأحياء منهم والأموات، ووثقت بكتب التاريخ على يد مؤرخين اسرائيليين، وأصبحت بمتناول القاصي والداني بانتظار يوم الحساب. أما جريمة الحرب التي ارتكبها الصهاينة بحق الشيخ حسن وأزهقت من حياته أكثر من أربعين عاماً فلم توثقها الا ذاكرته وذاكرة أحفاده وأهله وبعض مما خلّفه شيخنا المناضل من أشعار وكتابات.
انفطر قلبه على ابن وحيد مفقود وأخ طال انتظاره ووطن غيّب عنه بين جدران السجون
رحل الشيخ حسن عام 1983 ولم يمض على تحريره من أسره البغيض سوى أسابيع قليلة، لم يتمكن خلالها من استساغة هواء الحرية مجرداً من ذاكرة أربعة عقود عاشها في العزل التام وفي منفى آخر فرضته عليه الإجراءات القمعية العنصرية ذاتها عندما اضطر لأن ينقل بصحبة ولده إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن . قضى وهو يحاول المرة تلو الأخرى أن يعبر النهر باتجاه الغرب نحو شجرة البلوط في خلة زيتون في قرية جبلية تبعد كيلومترات قليلة عن الساحل الفلسطيني، اسمها كفر اللبد، ونحو بقايا مسجد الأقصى في ذاكرته. لم يحتمل جسمه النحيل وقلبه المفطور حسرة وألماً على ابن وحيد لم يعد يعرف عنه شيئاً وأخ طال انتظاره ووطن غيّب عنه بين جدران السجون العديدة التي تم نقله بينها .
هذا الشيخ الجليل الذي عبر الحياة وخرج منها عن أكثر من ثمانين عاماً بصمت وهدوء وجلل وغصة في القلب رافقته أحد وأربعين عاماً من السجن والعزل في أماكن لم يتبق منها إلا الحجر. فالذكريات والتفاصيل انطوت في القلب الذي غصّ بالحياة وحيداً وطاف العالم وحيداً الا من صفحات القرآن الكريم رفيق حياته الوحيد وأذان الصلوات الخمس التي كان يقيمها بنفسه ليحفظ بها علاقته بالخالق .
كم مئة مرة قرأ القرآن في سنوات العزل الواقعة في اثنتين وأربعين سنة؟ وكم عدد آلاف المرات التي رفع بها الأذان من وراء أسوار الحبس الإجباري؟ كم يوماً مر عليه طويلاً وهو ينتظر الآتي الذي لا يأتي؟ وكم عدد الليالي التي حلم بها بولده الوحيد الذي تركه يتيم الأم ومحروم الأب؟ كم دمعة ساخنة بلّلت لحيته البيضاء الطويلة؟ كم مرة دعا الله أن يحرره من أسره؟ وكم مرة حلّق بها خارج قضبان سجنه فزار قريته وبيته وشجرة الخروب في خلّة حقل زيتونه؟ كم يوماً يقع في اثنين وأربعين سنة؟ كم فجراً وغروباً مر عليه غريباً عن محيطه؟ كمّ من الأسئلة يلاحقنا ويلح علينا كي نقترب منه أكثر وكي نفتح نافذة العالم واسعة علّها تتسع لحجم المعاناة التي فاض بها قلبه .
قد تثير قصة الشيخ حسن الكثير من مشاعر التعاطف والحسرة والألم وقد تثير الحنق والغضب والقهر، وقد تصل هذه المشاعر حدّها الأقصى إذا ما تقمّصنا حياة الشيخ حسن بكل تفاصيلها المثيرة. هل نستطيع أن نتعايش وتفاصيل حياته؟ هل يستطيع خيالنا الثري أن يعيش اثنين وأربعين عاماً من العزل سنة بعد سنة ويوماً بعد يوم وساعة تلو الساعة وعقارب الدقائق تنقر في رأسنا دقة فدقة؟ هل نستطيع أن نعيش هذا الدهر من دون أن ننطق بكلمة الضاد مع بشر؟ أن ننقطع عن كل مجريات الحياة من حولنا؟ أن تنعدم المعرفة من محيطنا؟ ألا نتواصل مع الحياة بما يحقق حياتنا؟ أن نتذوق الطعم الكريه ذاته في كل وجبة؟ كيف لنا أن نفعل ذلك؟ قد نستطيع.. ولكن لا بد من معجزة، والمعجزة أتى بها شيخنا الجليل حينما تمسك بالحياة وفق قوانين صاغها هو بنفسه وفرضها على محيطه كي تعينه على تحمل مصائب العزل التام .
كيف يمكن أن نفسّر ضياع شيخنا الجليل عن خريطة البشرية والإنسانية كل هذه العقود؟ كيف يمكن أن تضيع أوراقه وتاريخه وحياته ما بين احتلالين وجيشين ولغتين وقوميتين من دون أن يصحو على وجوده ضمير؟ هل هي عبثية القدر أم تلاعب الاستعمار القديم الجديد بأقدار البشر؟
فلا منطق إنساني أو قانوني في استمرار حجر حرية رجل علم ودين بعد رحيل الانتداب البريطاني، لكن في سياق حروب دولة الارهاب والتطهير العرقي ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل تستباح كل القوانين والأعراف، فمنطق النهم للقوة والسطوة والنفوذ لا يعرف حدود الإنسانية إلا شعاراً في خدمة أهدافه الجهنمية .
مَن الشيخ حسن؟
لا نعرف بالضبط متى ولد الشيخ حسن محمد اللاوي، لكن وفق بعض الوثائق التي عثرنا عليها نستطيع أن نقدّر انه قد يكون من مواليد 1903م وأنه تزوج من فاطمة محمد ياسين في الثلاثينيات من القرن الماضي وأنجب منها بنتاً لم تشفع لها الحياة، وولداً كان كل ما تبقى له بعد وفاة زوجته واعتقاله (لا نعرف بالتحديد متى اعتقل.. لكن بناء على شهادات البعض قد يكون اعتقل ما بين أعوام 1939- 1941م). وأن له شقيقاً وحيداً هو عبدالله محمد اللاوي الذي رافقه في رحلته الأخيرة إلى مدينة القدس وبقي فيها حتى مماته إثر حرب 1967م وما زالت عائلة شقيقه تسكن في ضواحي مدينة القدس حتى يومنا هذا .
والشيخ حسن، كما يقول ابنه غازي، هو خريج كلية العلوم بنابلس في العام 1939م ومعلم الأجيال لسنوات طويلة في عدد من قرى ومدن فلسطين والأردن زمن الانتداب البريطاني واستقرّ به المطاف، وفق الروايات، في المسجد الأقصى. وكان آخر معقل له للتعليم والوعظ قبل أن يُعتقل بتهمة قتل ضابط بريطاني حاول اقتحام الأقصى بحذائه بحثاً عن الثوار. ونقله جيش الانتداب البريطاني إلى سجن عكا، حيث كان يقبع ثوار فلسطينيون عديدون وحكم عليه بالإعدام. وقد شفعت له مكانته العلمية ومركزه الديني مما دعا فقهاء العلم والدين في فلسطين للتدخل لإلغاء حكم الإعدام واستبداله بالسجن المؤبد .
قضى الشيخ حسن ثلاث سنوات من اعتقاله الأولى في سجن عكا مع السجناء اليهود المدنيين وأعضاء العصابات المسلحة بعيداً عن المعتقلين الفلسطينيين، وكان يزوره بشكل منتظم شقيقه عبد الله وشقيقته وصيفة مصطحبين معهما دائماً ولده الوحيد محمد غازي. استمرت معاناته في سجن عكا ومعاناة ذويه في تكبّد مشاق السفر من كفر اللبد إلى سجن عكا حتى اندلعت حرب فلسطين عام 1948م وتقطعت أوصال الوطن الذي انقسم قسراً على ذاته بسيف الأمم المتحدة وتقطعت معه أوصال الشعب وانقسمت العائلات وتفرقت بين شقي الوطن. وقدّر للشيخ حسن أن يبقى في الشق المسلوب من الوطن قهراً وانقطعت أخباره عن أهله ولم تسمع الأمم المتحدة صراخ عائلته وولده الوحيد ولم يُسعفهم الصليب الأحمر الدولي في البحث عنه. وتكرّس التقسيم والتهم الشق الذي اقتطعه حلفاء الحرب العالمية الثانية، المنتصرون تواً على الفاشية والنازية، لليهود عنوة أجزاء أكبر من الوطن السليب. ومع كل خطوة يقوم بها الكيان الغاصب ومع كل مذبحة ومجزرة إنسانية يقترفها ربيب الحلفاء كانت تتعمّق مأساة الشيخ حسن أكثر وتزيد عزلته عن أهله وشعبه أكثر، ومع كل يوم يمرّ عليه في المعتقل كانت عائلته تتمزق أكثر على فراقه خاصة أن كل محاولاتهم مع الصليب الأحمر وغيره من المؤسسات باءت بالفشل .
وانتقل ابنه محمد غازي ليعيش مع عمه في القدس ويكبر مع أبناء عمه حتى قوي عوده فتزوج من ابنة عمته فاطمة وانتقل ليعيش في الأردن. وبقي عمه عبد الله على عهده في متابعة أخبار أخيه الشيخ حسن من دون طائل حتى اندلعت حرب 1967، وبدأت رحلة البحث مجدداً بعد أن أصبح بمقدور سكان الضفة الغربية زيارة ذويهم في فلسطين المحتلة عام 1948 . وشاءت الأقدار أن ينتقل عبد الله إلى الرفيق الأعلى بعد أيام من حرب الأيام الستة بعد أن أوصى أولاده بمتابعة البحث عن عمّهم الشيخ حسن مهما كلفهم من عناء ومشاق .
مرارة اللقاء
وقد استغرقت عملية البحث سنوات طويلة إلى أن بدأت أخبار الشيخ حسن تصل إلى أخته وصيفة وأبنائها في كفر اللبد بعد أن أثار أذان الصلاة التي كان يقيمها شيخنا اهتمام الأهالي في قرية باقة الغربية، حيث كان يقيم قريباً منها بعد أن أغلق سجن عكا وتم تحويله إلى دائرة الصحة قبل أن تستولي عليه وزارة السياحة وتحوله إلى متحف أثري.
وفي أحد الأيام من عام 1973م تم تحديد المكان الذي يقيم فيه وبعد جهد مضنٍ وإجراءات إدارية وبيروقراطية مع الأجهزة الإسرائيلية حصلت العائلة على إذن الزيارة الأولى بعد 25 عاماً من قطيعة حرب ال1948 وأحد وثلاثين عاماً من اعتقاله. وحضر ابنه الوحيد محمد غازي من عمان ليكون على رأس الوفد الزائر لأبيه: الحاجة وصيفة عمته الوحيدة ومحمد عبد الله محمد اللاوي ابن أخيه الوحيد، والحاج مصلح برهوش (أبو الأمين) ابن عمته .
أمام هذا المشهد الإنساني لهذا اللقاء الدرامي لا تملك المشاعر إلا أن تندفع دموعاً سخية على خدود المجتمعين على ذكريات شابها الزمن طيلة خمسة وعشرين عاماً وحقائق جديدة على الأرض لم يستوعبها عقل شيخنا الجليل ولم يصدقها ولم يذب اللقاء الحميم الأول جليد قلبه المفطور حسرة. فكيف له أن يصدق أن أخيه الوحيد عبدالله (الذي كان قد توفي إثر حرب 1967م) وأخته الوحيدة وصيفة لم يتخليا عنه في محنته وسجنه وعزله؟ وكيف له أن يصدق أن وطنه الصغير الذي كان يجول فيه من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه كان جزءاً من لعبة الكبار في تقسيم الأوطان حدوداً ومصالح؟ وكيف له أن يستوعب أن دولة جديدة اغتصبها الكبار واقتطعوها من وطنه كي يجمعوا عليها من لفظهم الأوروبيون في معادلتهم الجديدة واخترعوا لهم دور الشرطي في خاصرة الوطن العربي؟ كيف لعقل شيخنا الذي توقف عن التفاعل مع مجريات الأمور السياسية عندما أقفلت عليه أبواب سجنه الجديد، الذي خلفه الانتداب البريطاني للمغتصب الآتي من وراء البحار، أن يقرّ بهذه الحقيقة وهو الذي انعزل عنها أحد وثلاثين عاماً. كيف له أن يعرف هول المصائب التي حلت بوطنه إذا لم يخبره أحد بذلك أو لم يقرأه في صحيفة أو كتاب كما تعوّد على قراءة كتب الفقه واللغة؟
ولم تتوقف جريمة المحتل الصهيوني عند هذا الحد وبدلاً من أن تسارع في الإفراج عنه وتسليمه إلى ولده الوحيد بدأت تماطل يوماً بعد آخر وسنة بعد أخرى. وبسبب وجود ابنه الوحيد في الضفة الشرقية وعدم قدرته على زيارة أبيه بشكل منتظم، وبسبب رفض السلطات المحتلة بمتابعة ملفه مع أبناء أخيه تمّ تكليف محامٍ لمراجعة ملفه في محاولة لإطلاق سراحه. وقد طالب أبناء أخيه بنقله إلى منطقة قريبة من القدس حتى يتمكنوا من زيارته بشكل منتظم. وحتى يتم تأهيل الشيخ حسن بشكل تدريجي للتعرّف الى عائلته والانتقال من عالم الى نقيضه، لكن بحدود الذاكرة التي تفتعل في ثنايا عقل انتصر على سكين المحتل وعنصريته وجرائمه ورسم عالمه الصغير بحدوده وعالمه الكبير بجغرافيته وحلق بأحلامه متخطياً قضبان السجن والعزل، ومنطلقاً في فضاء الوطن الذي ما زال محفوراً في ذاكرته ومجسداً في قرى وجوامع الجليل والرملة والخليل وغزة وفي الأقصى وأزقة القدس .
وإمعاناً في الجريمة والقسوة والعنصرية رفضت وزارة الداخلية إطلاق سراح الشيخ جسن بحجج واهية من مثل أنه لا يملك أية أوراق ثبوتية وأنهم لا يستطيعون تحمّل مسؤولية إطلاق سراحه على عاتقهم .
الحرية.. كيف وأين؟
لم يفقد ولده وعائلته الأمل واستمروا في محاولاتهم وكلفوا محامياً آخر بالبحث عن وسيلة أخرى تكفل إطلاق سراح والده الذي تخطى عتبة الثمانين عاماً. كيف يمكن لكيان يدّعي أنه دولة ديمقراطية وعصرية أن يبقى يماطل ويساوم على حياة شيخ لم يبق في عمره أكثر مما اغتصبوه في سنوات عزله وسجنه؟
وتمكنت العائلة أخيراً من استصدار أوراق ثبوتية تساعدهم على إثبات هوية هذا الشيخ الجليل وجاء ولده غازي من الضفة الشرقية لمتابعة تسلم أبيه الذي رأى نور الحرية مجدداً في 24 يناير/ كانون الثاني 1983 عندما خرج في زيارة قصيرة لبيت أخيه حتى يتأهل تدريجياً على التعامل مع العالم المحيط، وذلك وفق نصيحة الطبيب النفسي، ثم أطلق سراحه نهائياً في 30 يناير/ كانون الثاني 1983 بعد أن وقع ابنه على تعهد يفيد بأنه يتسلم والده على مسؤوليته الشخصية. كل هذه السنين التي قضاها في العزل كان سجيناً ومعزولاً لكن على مسؤوليتهم وحين آن أوان حريته فإن هذا يكون على عاتق ولده الوحيد .
ولكن عن أية حرية نتحدّث؟ وماذا تعني هذه الحرية لشيخ طال حلمه في اللقاء والتحليق وأنهكه الانتظار؟ وماذا يعني له التحرر من قيد المحتل إذا لم يكن يستطيع التعاطي مع واقع جديد وأناس لم يتعوّد فكرة العلاقة معهم وأماكن لم تعد هي الأماكن ذاتها التي تركها يوم اعتقاله؟ ففلسطين أضحت وطناً يحتله الغرباء وقادتها زعماء عصابات ومجرمي حرب، والأقصى اليوم خالياً من المصلين الذين كانوا يحتشدون فيه حين كان يقضي معظم أوقاته متعبّداً داخله، والقدس ماذا حلّ بمعالمها وأزقتها؟ وها هو ابنه الذي تركه طفلاً يقترب من عقده الخامس ولديه سبعة من الأبناء والبنات، وأخيه الوحيد الذي رحل عن الدنيا خلّف وراءه أربعة عشر من الأبناء والأحفاد. كيف له، في الحد الفاصل بين العزل والحرية أن يحتمل هذا السيل من المعلومات والشخوص التي تتلاحق بكثافة في خلايا ذهن انقطع أكثر من أربعة عقود عن كل ما له صلة في العالم الحقيقي حتى اعتقد ان لا نهاية لكابوس عزلته واستعاض عنه بالعبادة؟
الصدمة
كيف يُعقل أن ينكر شيخنا الجليل علاقته بابنه الوحيد وبأحفاده وبأبناء أخيه الوحيد؟ ألا يُقال إن إحساس الأبوة هو ما يحرّك الدم في العروق؟ أم أن الانكار هو تعبير عن الاحتجاج والاستنكار على من تركوه في سجنه وعزله من دون سؤال؟ لم يستطع ولده الوحيد أن يقنعه أن حرب عام 1948 والاحتلال الصهيوني الأول لفلسطين هما السبب في انقطاعهم عن زيارته، وأن الصليب الأحمر لم يساعدهم في البحث عنه! إذن لماذا أتوا به إلى عمان؟ لماذا لم يستطع أن يبقى في قريته كفر اللبد تحت شجرة البلوط في خلة الزيتون؟ كيف يفسّر له ابنه ذلك؟ هل يقول له إنه لا يستطيع الإقامة في كفر اللبد، لأن هذا الكيان الذي زرع على أنقاض الفلسطينيين لا يعتبره مواطناً فلسطينياً؟ وأن التصريح الذي أتى به لاصطحابه إلى الضفة الشرقية قد أشرف على الانتهاء ولا يستطيع أن يتجاوز مدته؟ كم هي معقّدة هذه المعادلة على إنسان واكب كل النكبات والنكسات فكيف على عقل شيخ توقف به الزمن يوم اعتقاله عام 1941 ولم يتواصل مع الحياة خارج الأسوار بكل تفاعلاتها ومطلوب منه اليوم بعد 42 عاماً أن يشحذ ذاكرته وقدراته العقلية لتفسير وقبول كل ما يسمعه ويشاهده من حوله؟ إذا لم تكن هذه هي الصدمة فما هي إذن؟
إحياء الذاكرة
حاول حفيده حسين، طالب الثانوية العامة في حينه، بحسه الفطري أن يكون الجسر الذي يسير بجده تدريجياً ما بين عامي 1941 و1983 وأن يعينه على فهم المصائب التي حلّت بالشعب وبه منذ تاريخ اعتقاله المشؤوم، وترك له حرية سرد ما مرّ به وعرف منه حكايات الثوار وثورة 1936 والشيخ عز الدين القسام، الذي كان من أشدّ المعجبين به، وكيف وفر الشيخ حسن الأمن والحماية للثوار الذين كانوا يلجأون للمسجد الأقصى. وشيئاً فشيئاً اكتشف الحفيد أن لديه إرثاً غنياً من حديث مسجّل ومدوّن لكل ما كان يصرّح به جده من قصص ونثر وأشعار، والتي احتفظ بها الحفيد لغاية اليوم .
التنقيب في التاريخ
هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج لإجابة حول اعتقال الشيخ حسن وغيره من معتقلي سجن عكا: ماذا حصل للشيخ حسن أثناء حرب 1948 وما بعدها؟ ماذا حلّ بالمعتقل لدى انتهاء الانتداب البريطاني؟ ماذا حلّ بالأوراق الثبوتية للمعتقلين؟ وكيف تعاملت الدولة العنصرية لاحقاً مع ملف المعتقلين؟ كل ذلك بحاجة لبحث ومتابعة واقتفاء أثر، فالمعلومات المتوفرة لغاية الآن هي معلومات شحيحة جداً .
ولذا قررت عائلة الشيخ حسن، تخليداً وإحياءً لذكراه وسيرته أن تنشئ مؤسسة الشيخ حسن للثقافة والعلوم بحيث يكون من أولويات عملها:
* أولاً: توثيق تاريخ المعتقلين الفلسطينيين في سجن عكا وفي الفترة الانتقالية بين الانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني .
* ثانياً: مقاضاة حكومات الاحتلال الصهيوني المتتابعة التي كان لها ضلع في جريمة الحرب التي ارتكبت بحق الشيخ حسن. وتهيب المؤسسة بالمحامين العرب المختصين في القانون الدولي والإنساني في كل مكان في العالم العربي والغربي أن يساندونا في محاكمة وإدانة الاحتلال الصهيوني .
* ثالثاً: مساندة ودعم قضايا المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال حتى لا يعلو قضاياهم النسيان والصدأ وحتى لا تبقى حياتهم وذاكرتهم رهينة في يد المحتل يساوم عليها كيفما يشاء .
* رابعاً: تأهيل المعتقلين الفلسطينيين وعوائلهم صحياً وتعليمياً حتى يشعر المعتقل وعائلته بأن المجتمع من حوله يقف معه ويسانده عملياً وبعيداً عن الشعارات .
* خامساً: ترميم بيت الشيخ حسن القديم في مسقط رأسه، كفر اللبد، وإنشاء مكتبة حديثة لخدمة أبناء البلدة والقرى المحيطة به .
الصمت عار
إن هذه الجريمة النوعية التي اقتُرفت بحق الشيخ حسن وابنه الوحيد وعائلته تُضاف إلى جرائم التطهير العرقي التي اقترفتها العصابات الصهيونية قبل حرب 1948 وبعدها ولم يلتفت إليها الرأي العام العالمي ومنظماته الأممية .
ونحن بدورنا إذ نضمّ صوتنا إلى أصوات أحفاد الشيخ حسن وعائلته نناشد المحامين العرب في كل مكان أن يساندوا مؤسسة الشيخ حسن للثقافة والعلوم في ملاحقة مجرمي الحرب الذين أهدروا من حياة الشيخ حسن 42 عاماً، وبملاحقة قادة الاحتلال الصهيوني على جرائم الحرب والتطهير العرقي كلها التي ارتكبوها بحق شعبنا الفلسطيني ولا تزال ترتكب حتى يومنا هذا، فالصمت على هذه الجرائم عار .