د. ميلاد السّبعلي*
تشير الخرائط المرفقة التي نشرتها الواشنطن بوست والنيويورك تايمز، أن مركز الهزة الأخيرة وامتدادها كان في قلب كيليكيا، جنوب جبال طوروس، وامتدادها هو في المدى الطبيعي لكيليكيا، أي الاسكندرون والشمال السوري بأكمله، بينما لم تتأثر كثيراً المناطق التركية شمال جبال طوروس. والمعروف أن منطقة كيليكيا كانت مقرّرة أن تكون جزءاً من سورية الواقعة تحت السيطرة الفرنسية في مؤتمر سيفر في 1920، قبل أن يخوض أتاتورك حربه التي أسماها حرب الاستقلال، واستعاد كيليكيا وثبت السيطرة التركية عليها في معاهدة لوزان في 1923. كما أن الاسكندرون بقيت ضمن سورية تحت الانتداب الفرنسي، حتى عام 1939 عندما أهدتها فرنسا لتركيا كرشوة حتى لا تدخل الحرب العالمية الثانية الى جانب ألمانيا النازية، بعد أن كانت دخلت الحرب العالمية الأولى الى جانب ألمانيا. وبعد ذلك قام الأتراك بتتريك المنطقتين، واستبدلوا اسم اقليم الإسكندرون بإسم إقليم هاتاي، الذي يضم مدينة انطاكية، إحدى العواصم السورية التاريخية، والتي انطلقت منها المسيحية الى الغرب.
خلال إقامتي لحوالي خمس سنوات في اليابان، تعلّمت كيف أن الهزات الأرضية مسألة متكررة وتشكل جزءاً من الثقافة والميثولوجيا اليابانية، وحيث الهزات الكبرى مسألة متوقعة، وكان أشهرها في القرن الماضي هزة طوكيو في 1923، التي راح ضحيتها 100 ألف شخص، وهزة كوبي في 1995 التي نتج عنها 6000 ضحية (خلال فترة إقامتي)، والهزة الأخيرة والتسونامي في توهوكو شمال شرق طوكيو في 2011 الذي نتج عنها أكثر من 15,600 ضحية.
وينظر العالم بإعجاب الى الشعب الياباني الذي يحافظ على رباطة جأشه وهدوئه وأخلاقه بعد كل هزة، حيث تصطف الطوابير الطويلة للمساعدة ونيل الغذاء، دون تفرقة بين غنيّ وفقير، وبين مَن له واسطة ومَن هو معدم. ويواجه الشعب الياباني هذه المصائب بصلابة وصبر وتقبّل ورضا، حيث تنتفي حوادث السرقة والأنانيات والمماحكات، ويتعاون اليابانيون على دفن موتاهم ومساعدة واحتضان من بقي حياً، والعمل المضني لإعادة البناء والنهوض مجدداً.
وعند التعمّق في الثقافة والميثولوجيا اليابانية، لفهم هذا السلوك الراقي الذي يصنفه الباحثون الغربيون بأنه نوع من الفلسفة الرواقية، نجد تفسيرات وأسساً عجيبة. فالميثولوجيا اليابانية تعيد الهزات الى سمكة عملاقة محبوسة تحت الجزر اليابانية، تسمى Namazu، يحرسها الإله Kashima ويمنعها من الحركة. لكنها تغافله من وقت لآخر وتنفض ذنبها فتنتج هزات أرضية كبيرة. وتفسر الثقافة اليابانية أن هذه الهزات عادة ما تكون اعتراضاً على سيطرة الحياة المادية ومظاهرها على المجتمع، أو على تمركز الثروة في أيدي أقلية من الشعب، فتأتي الهزات لتعيد التوزيع العادل للثروة من خلال مساواة الجميع بآثارها. وهذا ما يساعد الشعب على تقبل هذه الهزات والتعامل مع نتائجها بصبر وشجاعة، وتضامن وتعاون ورقي.
غير أن الأهم من ذلك، هو الروح التي نشأت لدى الشعب الياباني على مرّ السنين والقرون والهزات المتكررة، أي الروح المصمّمة على إعادة النهوض. ويتجلى ذلك في التربية الشعبية على المحاولات المتكررة للنهوض. ومن أكثر الكلمات التي تسمعها في الأزمات هي ganbatte، أي دعوة الآخرين للمزيد من التحمّل. وثمّة مثل شعبي يقول “نسقط سبع مرات وننهض ثمانية”. وقبل استسلام اليابان المدمَّرة في نهاية الحرب العالمية الثانية، خاطب الإمبراطور الشعب الياباني طالباً منه تحمّل ما لا يحتمل ومعاناة ما لا يمكن معاناته من أجل النهوض مجدداً. وهذا ما حدث رغم الهزيمة والمهانة والاحتلال والدمار الشامل.
وفي أساطيرنا القديمة وثقافتنا القومية، هناك قصص مشابهة مثل إعادة انبعاث الفينيق، وعودة أدونيس من العالم السفلي، وقيامة المسيح.. مع الاختلاف الكبير بيننا وبين اليابانيين في علاقة الفرد بالجماعة، حيث اليابانيون أفضل منّا بكثير بالعمل الجماعي ومفاهيم التعاطف والتضامن والوحدة، وتفاني الفرد في سبيل المجتمع والمجموع.
كم نحن اليوم بحاجة إلى روح مماثلة لهذه الروح الصابرة الحكيمة الأخلاقية المقاتلة والمصرّة على النهوض المتجدد. فبرغم السقوط الأخلاقي المريع للديمقراطيات الغربية والتغاضي العربي عن تقديم الدعم لسورية خلال هذه الكارثة، وتركيزه على تركيا، بحجة الحصار وقانون قيصر والخصومة مع النظام ومن يدعمه من روسيا وإيران الى الصين، فإن الشام اليوم، حكومة وقيادة وشعباً، موالاة ومعارضة، هي بحاجة لتضميد الجراح ودفن الضحايا والصبر والصمود والتصميم على إعادة النهوض، مهما كانت الظروف المحلية والإقليمية والدولية.
أصوات استغاثة الأطفال والأهل المكلومين مشروعة. النقص الهائل في المساعدات والقدرة على انتشال الناس من تحت الركام، وفي تقديم الخدمات الصحية والإسعافية وخدمات الإيواء والإطعام، والذي أثرت عليه الحرب المستمرة منذ سنوات طويلة، ووجود مناطق خارجة عن سيطرة الدولة، وقصور إمكانيات المؤسسات الحكومية عن القيام بواجباتها وفسادها وتخلّفها، والحصار المجحف والإهمال المتعمّد من قبل الغرب والعرب الذين يدورون في فلكه، كل ذلك، لا يجب أن يعني السقوط والاستجداء والاستسلام. بل ما هو مطلوب هو الصبر والصمود وتضميد الجراح بما توفر، والكثير من الأخلاق والرقي، والإرادة الفولاذية لإعادة النهوض مرة جديدة.
أحرّ التعازي للضحايا وكل التعاطف والدعم للناجين، وللشعب الصامد، في الشمال السوري التاريخي، بصرف النظر عن الجنس، أو العرق، أو الهوية، أو الانتماء.
*أستاذ جامعي ومفكر. في 7 شباط 2023.